هربرت ماركيوز وثورة الطلبة 1968

هربرت ماركيوز وثورة الطلبة 1968

عبد الحسين سلمان
عندما حلّق جيل طلاب الستينات في كل أوروبا، كان هربرت ماركيوز، على الأقل في ألمانيا، صاحب التأثير الأكبر عليهم. هذا بسبب أنه حينما كان أدورنو، بمقولاته الفلسفية العالية التشاؤم عن التطور التاريخي، يستطيع الكلام عن التقدم السلبي للإنسانية من"المقلاع إلى قنبلة الميغاطن (القنبلة النووية التي تساوي قوتها الانفجارية 1000 طن من TNT).

كان ماركيوز يستمر في المحافظة على وجهة نظر أكثر تفاؤلاً بصدد ما يمكن إنجازه.
في الحقيقة، عندما حدثت ثورة الشباب في عام 1968م، أعرب ماركيوز عن سعادته لأنه يمكن أن يقول إن كل نظرياتهم (مدرسة فرانكفورت..ج.أ), ثٌبت أنها كليةً خاطئة. وأيضاً هنالك سبب آخر، وهو أن ماركيوز كان يكتب بطريقة أكثر سهولة عن الكيفية التي تترابط بها الفلسفة والسياسة.
وبينما كان الفيلسوف الفرنسي الماركسي البنيوي لويس ألتوسير، يعاني الأمرين في محاولته لرسم خط فاصل بين ماركس الشاب وماركس الشيخ، حافظ ماركيوز على أن موضوعات الأعمال المبكرة لماركس تهمنا من حيث أنها تتناول التغريب والاستلاب، وهي موضوعات حملتها الأعمال المتأخرة الأكثر اقتصادية وعمّقتها أكثر.
كما كتب ماركيوز:"إذا فحصنا بدقة أكثر وصف العمل المغترب عند ماركس فسنكشف عن ملاحظة مهمة:
فما يوصفه هنا ليس فقط أمراً إقتصادياً. وإنما هو اغتراب الإنسان، وانحطاط قيمة الحياة، وفساد وفقدان الواقع الإنساني. وفي فقرة مشابهة يعرف ماركس الاغتراب كما يأتي: مفهوم استلاب العمل، أي مفهوم الإنسان المستلب، العمل المغترب، الحياة المغتربة، الإنسان المغترب."..
ربط ماركيوز الاستغلال الاقتصادي وتحويل العمل الإنساني الى سلعة، مع اهتمام أوسع بالطرق التي يولّد بها الانتاج السلعي المعمم (وصف ماركس الأساس للمجتمع الرأسمالي)، في الوقت نفسه، فائض ضخم للثروة من خلال التطور التكنولوجي والاقتصادي وتسريع لعمليات انحدار الإنسانية إلى مستوى تصبح فيه فقط ترس في آلة الانتاج.
وتساءل ماركيوز، كيف استطاعت الدولة المدارة شمولياً، التي رآها تعمل في المجتمعات الغربية، أن تفلت بهذا؟
لقد فعلت ذلك من خلال ما يسميه "القبول القمعي... Repressive tolerance"....(7), وهي نظرية يرى فيها ماركيوز، أنه لكي تسيطر على الناس بطريقة فعّالة فمن الضروري أن تمنحهم ما يحتاجونه من الناحية المادية وأن تجعلهم يعتقدون كذلك أن لديهم أيضاً ما يحتاجونه من الناحية الثقافية والسياسية والاجتماعية.
وحافظ ماركيوز، مثلاً، على القول بأن الديمقراطية البرلمانية زيف مجرد، ولعبة تعطي الانطباع بأن للناس رأياً في الكيفية التي يعمل بها مجتمعهم. وعلى أية حال، فوراء هذا القناع ما زالت تعمل نفس القوى القديمة، وإنها، في الحقيقة، ومن خلال قبولها للمعارضة والحوار وما يظهر على أنه حريات سياسية وثقافية استطاعت أن تحسن من مظهر استغلالها لقوة العمل الإنسانية وتزيد من هذا الاستغلال في نفس الوقت بدون أن يلاحظ أيّ شخص ذلك في الواقع.
ويجادل ماركيوز بأن الحرية والمساواة الدستورية كلها أمور جيدة، ولكنها إذا كانت تغطي ببساطة على عدم المساواة المؤسسي فحينذاك تكون أسوأ من كونها عديمة الفائدة.
وكما كتب في كتاب"الإنسان ذو البعد الواحد":"الانتخابات الحرة للأسياد، لا تزيل لا السادة ولا العبيد. والاختيار الحر بين تنوع واسع من البضائع والخدمات لا يعني الحرية، إذا كانت هذه البضائع والخدمات تدعم السيطرة الاجتماعية على حياة من العذاب والخوف - أي، إذا كانت تدعم الاغتراب".
وإعادة الإنتاج التلقائية بواسطة الفرد للحاجات المفروضة من أعلى لا تؤسس للاستقلال؛ فهي تختبر فقط فاعلية السيطرة."...(8).
ويصر ماركيوز على القول، بأن التحويل الأداتي للإنسانية لا يمكن عكسه إلاّ بتحدي العمليات الاجتماعية التي أدت إلى تحول نظام القيم الحاكم من اللذة والفرح واللعب والانفتاح إلى الإشباع المؤجل وتقييد اللذة والعمل والانتاجية والأمن.
واستناداً على فرويد، واصل ماركيوز القول، بأن الانتقال من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع قد كبح الإمكانات الإنسانية بالضبط في اللحظة التي وصلت فيها الشروط الاقتصادية الموضوعية لتحرر الإنسانية إلى أعلى نقطة.
مرة أخرى، هذه هي النقطة التي تم فيها تزاوج المادية التاريخية الماركسية والديالكتيك بالإشارة إلى أن الانتقال من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع كان ضرورة مطلقة للتطور الحضاري ولكن وفي أثناء هذه العملية (تم التسامي بالإشباع الإنساني لغرائزه)....(9).
وفي هذا المعنى الديالكتيكي، فإن الحضارة خطوة للإمام سلبية وإيجابية معاً.
وعلى أية حال، فإن عملية التحضر الإيجابية لا يمكن رؤيتها كنهاية للديالكتيك، لما أسماه فرانسيس فوكوياما لاحقاً بنهاية التاريخ، طالما أن ديالكتيك التحرر الإنساني لم يكتمل بعد. و كتب ماركيوز:"الإيجابي الحقيقي سيوجد في مجتمع المستقبل، ومن ثم فهو وراء التحديد والتعريف بينما الإيجابي الموجود الآن هو الذي يجب أن نتجاوزه".
من السهل أن نرى كيف أن هذه الفلسفة المتفاءلة الناظرة إلى الأمام جاذبة للراديكالية السياسية لجيل الستينات من القرن الماضي، وكيف أن الدعوة لتحرير الإنسانية على المستوى الفردي والجماعي استطاعت أن تسهم في إطلاق حركات اجتماعية جديدة لم يعد لها أيّ إيمان بقدرة أحزاب اليسار التقليدية والمحافظة على إحداث تغيير سياسي مهم لا في الشرق ولا في الغرب.