رائد التصوير الفوتوغرافي لطيف العاني..  مسيرة حافلة بالعطاء  والجهد الإبداعي الخلّاق

رائد التصوير الفوتوغرافي لطيف العاني.. مسيرة حافلة بالعطاء والجهد الإبداعي الخلّاق

يُعد الفنان الفوتوغرافي لطيف العاني واحداً من أهم أعمدة الحركة الفوتوغرافية في العراق، أما بداياته مع الكاميرا والحدث فترجع الى عام 1953-1954 عندما عيّن أول مرة بصفة مصور في شركة نفط العراق واتقن الصنعة وهو الموهوب على يد أشهر المصورين الإنكليز وتدرب ولمدة كافية على أيديهم، من ثم تعلّم الكثير في ما يخص قراءة الضوء ودراسة (الكادر)

المثالي ومن بعد ذلك الطرائق العلمية في كيفية طباعة الصور وتظهير الأفلام الملونة منها، وأعني هنا شفافيات السلايد والطائفة الأخرى من الأسود والأبيض ولما نفض يديه من ذلك غادر المختبر وانطلق بكاميرته الـ ROLLI FLEX 6*6 الى ميادين العمل لتصوير منشآت الشركات المتوزعة في جميع انحاء العراق وفي سوريا ولبنان كريبورتاجات صحفية لمجلة أهل النفط في البدء، وفي المعنى ذاته ركّز على جميع مناحي الحياة الاجتماعية والصناعية والزراعية.
وقد نظم بذلك ارشيفاً فريداً من نوعه ولم تقتصر جولاته على ذلك فحسب، وإنما امتدت هذه الجولات لتشمل العراق من أقصاه الى أقصاه وقد دامت رحلته هذه الى عام 1960 الفترة التي انتقلل للعمل فيها الى وزارة الإعلام وأسس قسم التصوير بهذه الوزارة التي كانت تسمى بوزارة الإرشاد، ومن هنا راح يغذي مجلة العراق الجديد التي كانت تصدر عن الوزارة بخمس لغات وقتذاك، ولما ذاع واشتهر بين الأوساط الفنية والمحافل الثقافية والاعلامية كسارد محنك وفوتوغرافي لمّاح، تلقّى في عام 1963 دعوة رسمية من جمعية اصدقاء الشرق الأوسط ومقرها الولايات المتحدة الأميركية لإقامة معرضه هناك، ذلك المعرض الذي أعده فيما بعد عن الحياة العراقية وطاف به خلال عامين الكثير من المدن والولايات الأميركية المتباعدة وبالعكس، فإنه لما عاد الى بغداد أقام فيها معرضه الشخصي التالي عن الحياة الأميركية.
لطيف العاني كان غزير العطاء ولم يخطئ خلال مسيرته الابداعية لمحة من واقع الشأنين البيئي والمعيشي إلاّ وسجلها بعدسته بالروح والنظرة التفاؤلية المحتفية بالحياة والانسان والى جانب الجهد والنتاج الصحفي الذي قدمه فقد أصدر كتابه الموسوم (العراق في صور) عام 1966 أما معرضه عن الحياة الأميركية فقد تنقل مابين بغداد والأردن والقدس وسورية ولبنان وعن مشاركاته الدولية، فهو قد شارك في عام 1965 مع مجموعة من المصورين الأعلام من أقرانه أمثال مراد الداغستاني وناظم رمزي وأحمد القباني وحازم باك ونزار السامرائي في معرض (بي فوتو) الرابع العالمي الذي أقيم في مدينة برلين الألمانية. وفي عام 1968 اقام معرضاً فوتوغرافياً آخر لنقابة الصحفيين العراقيين في القاهرة بدعوة من اتحاد الصحفيين العرب، وتلاه بآخر للصورة العراقية في القاهرة أيضاً، ضمن اسبوع العراق الثقافي عام 1972 اضافة الى أنه قد عرض اعماله في مدينة برلين بجمهورية ألمانيا الديمقراطية عندما كانت ضمن المنظومة الاشتراكية وكان المعرض تحت عنوان (العراق اليوم) وقد اقام معرضاً آخر بالمقابل وببغداد عن الحياة في ألمانيا ذاتها، وقد توالت معارضه الأخرى التي أقامها في عام 1966 ومن بينها معرض خاص عن العراق في الكويت والبحرين، ومن بعد ذلك صدر له مطبوع سياحي ملون باللغتين العربية والانكليزية تضمّن اكثر من مئة صورة فنية بأسم (العراق في صور) ولا انسى الإشارة الى أنه قد ادخل في عام 1964 دورة تدريبية في مدرسة كيفرت للتصوير الملون في مدينة بروكسل ببلجيكا، وتدرب على صنوف التصوير الملون وقد شغل هذا الفنان المبدع عدّة مناصب رفيعة في حياته المليئة بالجهد والعطاء الابداعي الثر، ومن بين ما شغل رئيس قسم التصوير في وكالة الأنباء العراقية ورئيس قسم التصوير الفوتوغرافي في وزارة الإعلام العراقية ودار الجماهير للصحافة حتى عُدّ خبيراً تقنياً لايعادل في خبايا وأسرار الصنعة الفوتوغرافية، وقد الفت الى انه قد اختار ومنذ البدايات البعيدة وعن قناعة راسخة أداته المميزة (كاميرا الرول بوكس 2 لينس) للميدان المفتوح الذي اشتغل عليه مسوحاته التصويرية الشاملة بدءاً من شمال العراق ثم أعالي الفرات والتخوم المترامية للرقعة الجغرافية الممتدة الى البادية والصحراء الغربية ثم امتدادات الرمال والمناطق الجافة المعزولة وحتى مساحات العالم المائي المتشعب لأهوار جنوب العراق وانتهاءً بمناطق الفرات الأوسط، ومن ثم زاخو الواقعة على الحدود التركية وحتى امتدادات جبال حمرين وسط العراق وفي هذه الرحلة الشاقة غطى مايكفي ويزيد من معالم زاخرة بالخصب والتنوع والنماء بجانب التي لم يُلتفت إليها بعد وقتذاك، وكانت صوره مادة غنية لموضوعات الرسامين الرواد الأوائل فيما تحول القسم الأكبر منها الى بطاقات بريدية تعرف بحضارة وادي الرافدين.
ولد عبد اللطيف حسين نايف العاني في محافظة كربلاء عام 1932، وتلقّى تعليمه الابتدائي في مدينة كربلاء وبغداد حتى المرحلة المتوسطة من الدراسة ولما بلغ مرحلة النضج في هوايته للتصوير متأثراً بالفنان السينمائي الشهير كريم مجيد، عيّن في مرحلة مبكرة من حياته في شركة نفط العراق I.P.C وفي عام 1954 مارس فن التصوير كمصور محترف واستمر هكذا حتى عام 1979 العام الذي احيل فيه على التقاعد، وهو الآن فنان متفرغ لفنّه ويشارك بالفعاليات والأنشطة المحلية الفوتوغرافية ويلتقي باستمرار مع الفنانين الفوتوغرافيين الذين جاءوا من بعده، وبعد مرحلة الريادة في العراق والتي عُدّ واحداً من اعلامها الكبار وقد ارتبط بعلاقة صميمية مع أقرانه من المصورين الروّاد كناظم رمزي ومراد الداغستاني رحمه الله وفي الآخر بزميله الفنان الراحل حازم باك، الذي ترك فراغاً كبيراً برحيله الأبدي بعد عام 2000 وقد اتسمت شخصية لطيف العاني بالاناقة والكبرياء وروح الدعابة والتفاؤل بدوام الوقت، وقد عرف بقدرته على ايجاد الحلول المناسبة للإشكالات الصعبة في عملية التصوير وقد تناول تجربته المتفردة في عالم التصوير في كتاب (فوتوغرافيون عراقيون) ضمن عشرة فوتوغرافيين متقدمين من الجيلين الأول والثاني بالعرض والتحليل الهادف لإسلوبه المميز في هذا المجال والذي رسّخه في الذاكرة الجمعية العراقية بنتاجاته المصوّرة بكاميرا الـ ROLLI FLEX 2 LENS من خلال كادرها المربع 6*6 باعتباره الأقرب الى دائرة الرؤية بالعين المجردة. كما أن هذه النتاجات وبالرغم من قدمها فقد بقيت بعين الناظر إليها كما لو كانت مصوّرة بالأمس القريب لفرادتها الجمالية والتعبيرية ولأهميتها التاريخية.
وقد حكى لي مراد الداغستاني عن يوسف كارش ذلك الفوتوغرافي البارع الذي ينحدر من أصول أرمنية، ولقد دام لقاؤنا هذا قرابة الساعتين ومن بعدها لم التقه ثانية لانصرف لشؤون حياتي وفني.
في أواخر سنوات الثمانينيات ساءت صحة مراد وسرى المرض في أنحاء جسمه السبب الذي اضطره لملازمة الفراش وقد تعذر عليه الانفاق على العلاج خارج البلاد، لكنه ومع ذلك قال في غير مرة والأصح تمنى لو أن المرض يمهله سنتين.. سنتان فقط ليحقق المفاجأة الفوتوغرافية الكبيرة إلاّ أن ذلك الحُلم لم يتحقق لاسيما أنه قد راود خياله سنوات الإنهاك والتعب الأخيرة من حياته المعتلة. والمبدعون عادة مايأخذون معهم ما يتمنونه في آخر لحظة. وفي 27/7/1987 ودّع مراد الداغستاني دنياه الى جنان الله الواسعة ولم يتسنَ له رؤية كتابه الموسوم (مراد الداغستاني جدل الإنسان والطبيعة) الذي كتب فصوله د. نجمان ياسين وصدر عن جامعة الموصل بالتنسيق والتعاون مع الجمعية العراقية للتصوير في عام 1988 بعد وفاته بعام، وبذلك انتهى فصل من فصول حياة فنان فوتوغرافي لامع ونابغ وموهوب وخلّاق عاش مع الفقراء والمتعبين واقترب من تفاصيل حياتهم وصوّر عوالمهم المدهشة تعبيراً عن التعاطف والانتماء لتلك الطبقات المسحوقة بعد أن زهد بالحياة ومادياتها المغرية والزائلة.