شيءٌ عن تلفزيون بغداد في بداياته

شيءٌ عن تلفزيون بغداد في بداياته

د. أحمد راشد الفهداوي
يُعدُّ التلفزيون وسيلة رئيسة ومؤثرة من وسائل الاتصال الثقافي وله دور فاعل في الحياة الثقافية من خلال الخدمات الثقافية التي يقدمها للجمهور وهو يسعى إلى تحقيق ثلاثة اهداف رئيسة هي (الإعلام والترفيه والتثقيف).

لم يكن التلفزيون معروفاً في العراق قبل عام 1954 سوى على الصعيد النظري إذ كانت وسائل الإعلام المحلية والخارجية تنشر أو تذيع معلومات عن التلفزيون، أما البث التلفزيوني فلم يكن معروفاً على صعيد العراق والشرق الاوسط بأكمله، وجاءت التجربة الأولى للبث التلفزيوني في العراق من خلال افتتاح المعرض التجاري البريطاني في بغداد في 25/تشرين الأول/1954 وكان لذلك الحدث شأن كبير بعد أن قامت وحدة التلفزيون ببث المناظر المهمة من المعرض في وسط بغداد من خلال منصة المعرض لشركة (باي) وفي استوديو التلفزيون لمؤسسة(بريما) وبواسطة (12) جهاز داخل المعرض وخارجه، وكانت شركة (باي) ترغب ببيع المحطة التلفزيونية إلى الحكومة العراقية، إلاّ أن مجلس الوزراء العراقي رفض شراء المحطة التي بلغت قيمتها نحو (65) ألف دينار عراقي مما دفع الشركة إلى تقديمها هدية للحكومة العراقية مقابل التعاقد معها لتوريد مستلزمات التشغيل وتدريب العاملين من الفنيين في بريطانيا، وكانت المحطة تتألف من ثلاث وحدات وآلة سينما (تليسنما) ومرسلة تلفزيوني بقوة نصف كيلو واط.
وفي 1/نيسان/1956 تم اجراء البث التجريبي لتلفزيون بغداد كتمهيد للافتتاح الرسمي إذ جرى الافتتاح في تمام الساعة السابعة من مساء يوم2/أيار/1956 عندما أزاح الملك فيصل الثاني (2/أيار/1953-14/تموز/1958) الستار عن البناية الخاصة بالتلفزيون لمناسبة الاحتفال بذكرى التتويج وكان البث في ذلك اليوم قد تضمن صوراً لمدينة بغداد من الجو وحفلة غنائية ريفية وفقرات متعددة ومتنوعة أخرى، وبلغ معدل ساعات البث التلفزيوني في تلك المدّة ساعتين ونصف الساعة يومياً.
لقد كانت الحكومة العراقية تدرك منذ البداية أهمية ذلك الجهاز الإعلامي وخطورته وقدرته في التأثير على الجماهير ودفعها إلى مساندة سياسة الحكومة وقراراتها وقد استعملته بشكل واسع، من أجل دعم العديد من أهدافها ونشاطاتها ولاسيما المناسبات الوطنية.
وبعد انتهاء المعرض التجاري والصناعي البريطاني الذي استمر شهراً واحداً تبرعت شركة (باي) البريطانية للحكومة العراقية بهذه المحطة مقابل إبرام اتفاقية تتضمن استيراد الأجهزة المكملة لها، وتدريب ملاكات عراقية على تشغيلها وصيانتها مقابل مبلغ (90) ألف دينار، وبموجب الاتفاق بين الحكومة العراقية وشركة (باي) البريطانية تم ترشيح ثلاثة فنيين من دائرة البريد والبرق للسفر إلى بريطانيا، للاشتراك في دورة تدريبية على أجهزة البث التلفزيوني في معامل الشركة، وبقيت الأجهزة الخاصة بالمحطة التلفزيونية على أرض المعرض طوال عامين حتى وصلت الاجهزة التكميلية وعودة المتدربين إلى العراق، وتم نصب المحطة التلفزيونية وإنشاء الاستوديو الخاص ببث البرامج التلفزيونية وبث بعض البرامج التجريبية مطلع نيسان عام 1956، وشاهد سكان بغداد بث البرامج التلفزيونية من خلال اجهزة التلفزيون التي وزعتها شركة (باي) على الفنادق الكبيرة والمقاهي والمحلات العامة.
وبافتتاح المحطة التلفزيونية اصبح العراق ومن بعده الجزائر من أوائل الأقطار العربية التي عرفت البث التلفزيوني، فقد تم تأسيس التلفزيون اللبناني في العام 1959 والتلفزيون السوري والمصري في العام 1960 والتلفزيون المغربي والسوداني في العام 1962، والتلفزيون اليماني والسعودي في العام 1964 والتلفزيون التونسي في العام 1966 والتلفزيون الأردني في العام 1968 والتلفزيون الإماراتي في العام 1969 والتلفزيون القطري في العام 1970 والتلفزيون البحريني في العام 1971 والتلفزيون العماني في العام 1974.
وكان أول مذيع ظهر على شاشة تلفزيون بغداد هو (محمد علي كريم) الذي قال عند ظهوره على شاشة التلفزيون(هنا محطة تلفزيون بغداد تبث على القناة (8) أول محطة في الشرق الأوسط) واستمر البث التلفزيوني في حينها حتى الساعة (11) الحادية عشرة ليلاً، وتضمن منهاج اليوم الأول بث مدة برامجية مسائية تتضمن عدداً من البرامج المختلفة شملت حفل افتتاح المحطة التلفزيونية وفيلماً إخبارياً عن العراق وألعاباً رياضية وفيلم افتتاح مشروع الثرثار وفيلماً عن المعرض التجاري البريطاني ونشرة الاخبار وحفلة غنائية موسيقية شارك في احيائها الفنان ناظم الغزالي والفنانة عفيفة أسكندر وفرقة الإذاعة الموسيقية بوقت مخصص لتلك المدة لا يتجاوز أربع ساعات، واخرجهاالمخرج الأمريكي (FanzHeelek) الذي قام بعدها بتدريب عدد من المخرجين منهم خليل شوقي وكامران حسن ويوسف جرجيس، وكانت مدّة البث اليومي لا تتجاوز أربع ساعات ثم ازدادت إلى ست ساعات، والرقعة الجغرافية التي يغطيها بث تلفزيون بغداد لا تتجاوز الـ (5) كيلو مترات وما زاد عن ذلك تسمى منطقة التلاش*.
ثم تطور البث التلفزيوني وتوسع مدى بثه ليصل إلى (25) كم خلال العام 1957 من خلال استبدال الهوائيات ذات ارتفاع (50) قدماً بأخرى ذات ارتفاع (130) قدماً، فضلاً عن إضافة أستوديو تلفزيوني ثانٍ، واستوردت الحكومة أجهزة الاستقبال التلفزيونية حتى وصل عدد الاجهزة المستوردة في العام 1958 إلى (5480) جهازاً. والجدول رقم (1) يوضح اهتمام الحكومة العراقية بالتلفزيون من خلال زيادة الاجهزة التلفزيونية المستوردة.
وعلى الرغم من الزيادة في استيراد أجهزة الاستقبال التلفزيوني إلا أن لجنة الترفيه والتسلية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية اقترحت الاستفادة من بعض الحدائق والساحات العامة في بغداد لاستعمالها في العرض التلفزيوني، ولغرض تنظيم عمل الإذاعة والتلفزيون استحدثت الحكومة وزارة جديدة باسم وزارة الارشاد والتوجيه بموجب القانون رقم (27) لسنة 1958 لتصبح الإذاعة والتلفزيون بعد هذا التاريخ مديرية عامة استناداً للمادة الثانية من القانون المذكور، ومع هذا الاهتمام بتلفزيون بغداد فقد بقيّ بث برامج التلفزيون متواضعاً نظراً للإمكانات المحدودة في مجال الملاكات الفنية والادارية والتمويل والتقنية.
ولم يشهد البث التلفزيوني أي تطور على صعيد إدخال التقنية أو تحسين البث حتى عام 1964 الذي شهد دخول جهاز التسجيل الصوري(الفديوتيب) إلى العمل التلفزيوني، بعد أن كانت البرامج التلفزيونية تبث على الهواء مباشرة، كذلك تم توسيع بناية التلفزيون في تلك المدة واصبحت مكونة من ثلاثة طوابق، وفي العام 1967 أصبح بث البرامج التلفزيونية يغطي العاصمة بغداد ضمن منطقة نصف قطرها(100) كم شمالاً وجنوباً و(60) كم شرقاً وغرباً، وبمعدل إرسال يومي مدته سبع ساعات في اليوم الواحد تقريباً.
كانت الفترة المسائية تبدأ بإشارة المحطة عند الساعة (5.28) مساءً، وتنتهي عند الساعة (11) مساءً حتى ختام برامج المحطة عند الساعة (12.15) بعد منتصف الليل، وتكون المادة البرامجية لهذه الفترة في العادة فيلماً أو سهرة مختارة قد تكون فنية أو غنائية.
وشهد تلفزيون بغداد تطوراً مهماً في عام 1965 تمثل في بث البرامج لفترة جديدة هي الفترة الصباحية، واقتصر بث هذه الفترة على أيام الجمع فقط، ثم شملت بعد مدة قليلة أيام العطل الرسمية والمناسبات، وخصصت أغلب هذه البرامج للأطفال، إذ كان زمن البث للفترة الجديدة أربع ساعات تبدأ من التاسعة صباحاً حتى الواحدة ظهراً خصصت منها ساعة لفترة برامج الاطفال، وساعة البرامج الدينية وساعتان للبرامج المنوعة الأخرى، واستمرت هذه الفترة واخذت محطات التلفزيون في الألوية (المحافظات) التي أنشئت تبث هذه الفترة منها مركزياً، وبعد تشغيل المايكرويف اصبحت هذه الفترة تبث من بغداد مركزياً باستثناء محطة تلفزيون كركوك التي ظلت تبث برامجها بشكل مركزي.
وخلال هذه المرحلة وبهدف التوسع في بث البرامج التلفزيونية ليشمل مناطق أخرى من الاراضي العراقية تم انشاء بعض المحطات الاقليمية منها محطة تلفزيون كركوك التي افتتحت في 18/تشرين الأول/1967 وتعد أول محطة تلفزيونية اقليمية في العراق تبث بقوة بلغت (146) كيلو واط وذات أرسال دائري بنصف قطر قدره (100) كيلو متر، كما ضمت استوديو واحداً وتميّزت ببث برامج مختلفة بلغات عديدة كالعربية والكردية والتركمانية والسريانية، علماً ان معدل البث لفترات البرامج المنوعة لهذه المحطة بلغ اكثر من ست ساعات يومياً فضلاً عن بث فترة برامجية صباحية لأيام الجمع وبمعدل أربع ساعات، ثم تكونت محطة تلفزيون الموصل وذلك في 26/شباط/1968 وبالكفاءة نفسها وبامتيازات المحطة التي سبقتها كانت تبث سبع ساعات يومياً فضلاً عن فترة صباحية لأيام الجمع وبمعدل أربع ساعات.

عن رسالة (الحياة الثقافية في مدينة بغداد1958 – 1968م )