حوارٌ مع جيرار جينيت أجراه: جون بيي .. مهمة الحكي هي تحفيز خيال المتلقي

حوارٌ مع جيرار جينيت أجراه: جون بيي .. مهمة الحكي هي تحفيز خيال المتلقي

سعيد بن الهاني
باحث ومترجم
جيرار جينيت Gérard Genette (1930) أحد أقطاب "النقد الأدبي" و"الشعري"في فرنسا. انخرط في تيار النقد الجديد. عرف باشتغاله منذ الستينيات على الأجناس الفنية والشفرات الأدبية. أستاذ مبرز في الآداب. عمل جيرار جينيت بالموازاة كمدير سابق للأبحاث في المدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية، مديراً لسلسلة Poétique الشعرية بدار النشر سوي Seuil.

ألّف مجموعة من الكتب في سلسلة Poétique. والجمالية وعلم السرد.

اعتبر خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات أحد أبرز الممثلين لنظرية الأشكال الأدبية، وفيما بعد أخذت أعماله وجهة اخرى نحو الجمالية الفلسفية وانطولوجيا العمل الفني.
من بين كتبه: Métalepse, de la figure à la fiction, Seuil/ 2004 من الصورة البلاغية إلى التخييل.
يمثل هذا الكتاب تأملاً في إجراء بلاغي كان قد ألحقه المؤلف بالنظرية السردية، مع اكتشاف تمظهراته في أشكال التصويرالفني الأخرى غير الحكي récit. يوظف هذا المفهوم في الحقل البلاغي بمعنى أن نفهم شيئاً بشيء آخر يليه، أو يصاحبه. وكما يحددها اوليفيي روبول كصورة بلاغية تقتضي تعويض اسم الشيء أو الشخص بسلسلة من الكنايات. يعرف جيرار جينيت الميطاليبس في كتابه"خطاب الحكي"بقوله:"كل تدخل من السارد أو المسرود له غير المشخص في الحكي في العالم (الحكائي) إلخ. أو العكس".
- جوني بيي : لا يختلف إثنان في كون الدراسات السردية قد تحولت بطريقة عميقة من طرف سردانية سنوات 60 و70 الستينيات والسبعينيات. بل إنه حتى لو لم تتوقف المفاهيم والتقنيات التحليلية عن التطور بطريقة متنوعة جداً. تبقى الأذهان موسومة بفكرة سردانية جدا كون الحكي récit يشكّل نسقاً. نجد من بين مواضيع البحث بلورة مناهج تسمح بإبراز النسق السردي. ألا يوجد باحث أدبي لم يتساءل في السنوات الأخيرة، ولو بطريقة عابرة عن العلاقات بين الصوت والمستوى السردي؟ بين الصوت والتبئير؟ وعن بنية الحبكة؟ على الأقل، يثير الفضول ملاحظة- وضداً على وضعية التقعير مثلاً- وجود Métalepse الميطاليبس المفهوم الذي أدخلتموه في حقل النظرية السردية مند أكثر من ثلاثين عاماً، وهو مفهوم وضع على هامش انشغالات السردانيين. هل يتعلق الأمر بنسيان ما؟ هل سيكون Métalepse الميطاليبس مجرد تفصيل أسلوبي؟ أو أنه يطرح إشكالية بالنسبة للبحث السردي؟ كيف تفسرون الانبثاق الحالي نسبيّاً للاهتمام بالميطاليبس؟
- جيرار جينيت : أعتقد أن الميطاليبس نفسه فعلاً هامشيّاً (تقريباً كما تقولون"مجرد تفصيل أسلوبي"أو شيء آخر) داخل حقل الممارسات السردية وبشكل أكثر عمومية في ممارسات التصوير الفني، إنه يشتغل أولاً كخرق لعبي (بين الصورة والتخييل حيث يوجد اللعب). وهو شيء لايوجد في درجة التقعير نفسها. وبشكل أقل أيضاً مجرد تصوير من الدرجة الثانية"متضمن"حتى ولو قامت هذه الممارسات بمنح معظم فرص الميطاليبس: لكي تخترق بشكل لعبي درجة ما، يجب حتماً فرض درجة معينة. يعد الميطاليبس ممارسة وفي الوقت نفسه خاصة جدًّاً في إجرائها (أو في سيرورتها العفوية). وتقريباً كونية في حقل تجليها، بسبب أن التصوير هو نفسه فعلاً كونيّاً، يتجاوز بشكل واسع حقل التصوير السردي، بل حتى التصوير الفني: يمكن للاستيهام fantasme الأكثر سذاجة أن يكون فرصة لميطاليبس محدد في طور الإنجاز.
من جهتي وجدت أولاً الميطاليبس في الحقل السردي، فقد كان يشكل نسقاً مع صور أخرى سردية (ارتجاع، استباق.. إلخ). وقفت عند هذه النقطة في كتابي خطاب الحكي discours du récit لضرورة منهجية، لكنني كنت أرى حقل تجليه واسعاً جدّاً وهو السبب الذي دفعني ثلاثين سنة بعد ذلك إلى العودة إليه بإيجاز وبغير نظام، بتوسيع أفقي. أشك في أن"انبثاق الاهتمام"الذي تلا حظونه عموماً يستمد وجوده من جهة من سبب التضعيف المتأخر نسبيّاً لوقائع الميطاليبس خارج الحقل السردي وحتى الحقل الأدبي فضلاً عن الحقل السينماتوغرافي، ولكي أوضحه بطريقة كاريكاتورية أقول عفويّاً بأن المسؤول عن هذا الانبثاق يسمى وودي آلان woody allen: ليس مستغرباً أن يستيقظ التخصص العلمي من طمأنينته بحافز خارجي. وإن كان ذي طبيعة إثارية ذكية.
- جوني بيي : اقترحتم في كتابكم خطاب الحكي معالجة الحكي كـ"توسيع للفعل"واعتبار الملفوظات من نوع مثلاً"مارسيل أصبح كاتباً"كحكي أدنى: لكن في كتابك الميطاليبس نقرأ ما يلي"تعد الصورة جنيناً أو إذا فضلنا الخطوط الرئيسة للتخيل"(ص17) أما بالنسبة للذين يعرفون أعمالك، فإن هذا التطور لا يفتقر إلى الانسجام. ولكننا نتساءل. ما الذي دفعكم إلى تبني هذا التصور الجديد، وما هي المراحل التي مر بها هذا التطور. سيكون من المهم، معرفة- مع الأخذ في الحسبان المفهوم"التصويري"figurale للحكي- ما إذا كانت فكرة الحكي الأدنى مازالت سارية المفعول أو إعادة التفكير فيها من زاوية سياق آخر.
- جيرار جينيت : إن مفهوم"الحكي الأدنى"هو فعل ذو طبيعة سردانية ما دام هذا التخصص العلمي الذي نعرفه طبعاً منذ بروب"ينطبق على كل أنواع المحكيات récit ومن ضمنها المحكيات الأكثر أساسية والاهتمام كذلك بالطريقة التي يمكن أن يتوسع بها المحكي الآتي (القطة تأكل الفأر) بواسطة امتدادات ووسائط، وإسهامات..إلخ على عكس ملخص"مارسيل أصبح كاتباً"الحكي معقد جدًّا و(موسع) أو إذا تمكَّنَا من وصف الصورة كجنين لتخييل ما. إنها مفهوم ما من طبيعة أخرى. فالأمر يتعلق بنظرية المتخيل. فاستعارة"أخيل أسد"حرفيًّا تعني تخييلاً صغيراً إنني لست على استعداد كي أقفز"بدون أخذ الحيطة من المفهوم الأول إلى الثاني. ولا أعرف بعد ماذا يمكن أن يعني المفهوم"التصويري"للحكي.
- جوني بيي: من بين المرتكزات الجوهرية لعلم السرد، -ويعد ذلك من الاستحقاقات الكبرى لكتابك"خطاب الحكي- تظهر تقنيات الوصف التي تجعل الحكي قابلاً للتحقق، حيث تسمح بتجنب عقبات التأويلات الذاتية أو الإيديولوجية لكن منذ أول تدخلكم بخصوص الميطاليبس فقد ربطتم هذه الصورة بالفانطاستيك وبما هو عجائبي، فهما ليستا خاصيتين نصيّتين موضوعيتين أما في كتابكم خطاب جديد للحكي Nouveau discours du récit فإنكم تقترحون بأن الميطاليبس:"يشتغل كصورة للخيال المبدع"(p59) ففي عملكم الحالي تذهبون بعيداً أيضاً بتأكيدكم بأن métalepse يشوش على"التوقف الإرادي لانعدام اليقين (p23) كي ينتج"تصنعاً لعبياً لسرعة التصديق"p25 بالنسبة لكم، يبدو أن التشديد يقع منذ الآن على آثار الخطاب السردي، وليس على خواصه الوصفية وتصنيفها. نتساءل ما إذا كان هذا التطور لم يغيّر رهانات علم السرد، أو أيضاً ما إذا كانت الأرباح بشكل ما تصبح خسارات من نوع ما.
- جيرار جينيت: يبدو لي أنني قد أجبت عن هذا السؤال. فالتخيل المبدع هو تخيل المتلقي وهما فعلاً أثران يشكلان أولاً عالمين محركين للخطاب السردي، وبالخصوص الخطاب التخييلي. وكذلك الأمر بالنسبة للممارسات التصويرية الأخرى. لا تبدو طبيعة الاهتمام بهذه الأسباب والآثار قد تدفع إلى تغيير رهانات السردانية بل بالأحرى الاهتمام برهانات (من بين الرهانات الأخرى) الحكي نفسه. لا تكمن مهمة الحكي بالضرورة تغدية الأنشطة الوصفية أو التحليلية أو التصنيفية للسردانية، ولكن بتحفيز خيال متلقيه، وآثار الميطاليبس المحفّزة بالخصوص للمظاهر اللعبية والعجائبية لهذا المتخيل.
- جوني بيي: لقد دافعتم أكثر من مرة لصالح فكرة السردانية المقيَّدَة، مؤكدين على أن الحقل الخاص بعلم السرد هو الحكي (récit) المكتوب أو الشفوي نتاج فعل السرد وأن امتداد المقولات السردية إلى السينما والمسرح مثلاً، يتناقض مع خصوصية ما هو سردي. من جهة أخرى، لقد أدخلتم الميطاليبس في السردانية بواسطة"ميطاليبس المؤلف"كنتاج لتأملاتكم لـ Dumarsais و Fontanier. ومع ذلك وفي كتابكم الأخير فقد أبرزتم عدة تمظهرات للميطاليبس في السينما والمسرح فبرهنتم على أن الميطاليبس عرفت صيغاً معينة تجاوزت خصوصية الحكي. هل يمكن أن تستنتج أن الميطاليبس ستفتح الطريق إلى سردانية أخرى وإلى سردانية مقارنة مثلاً، أو أنها ستثير أسئلة حول الإمكانات والقيود المتعلقة بمختلف أشكال التصاوير الفنية؟.
- جيرار جينيت: عندما تحدثت عن "السردانية المقيدة" narratologie restreinte كان يدور في رأسي قلق استخلاص وعزل مفهوم"خالص"نسبيّاً للحكي اللفظي (الشفوي أو المكتوب)، وفي غالب الأحيان ذلك المتعلق بالحكي الأدبي (حتى ولو أن الفرق الماهوي يبين ما يقوم أو ما لا يقوم على الأدب لم يكن في مركز كلامي وبسبب…)، بل أيضاً حتى الحكي التخييلي لكي أحمي هذا الموضوع من كل خلط مع محكيات أخرى. إذا أضفتم إلى ذلك أنني لم أنشغل في أغلب الأحيان إلا بالبنيات الشكلية (و يظهر ذلك من خلال عنوان كتابي خطاب الحكي) وتركت جانباً البنيات الطيماتية التي درسها بروب والذين جاءوا من بعده) من بين البنيات التي تحدثت عنها يبدو أنها لم تكن ذات خصوصية في ما يتعلق بعرضها السردي كما أظهرت ذلك دراسات Souriau سوريو حول الطيماتية الدرامية، وكذلك مثيلاتها في الطيمات الفيلمية (سينتج عن ذلك أربعة تحديدات لحقول مندمجة بعضها في بعض، يكون فيها الحافز ذا طبيعة منهاجية. ولكن لا يعني تخلينا عن موضوع واحد أو أكثر أو وضعه بين قوسين أننا نشك في وجوده أو أنه غير ملائم. لا أعرف طبعاً إن كانت الدراسة الضرورية التي تركها كتابي المحدد"خطاب الحكي"لدارسين آخرين فرصة تبرير استعمال مصطلح"علم السرد المقارن"فالمقارنة شيء ضروري. لكن لا أعتقد أنه يجب البحث عن طريق السردانية المعممة narratologie généralisée إنني أَحْذَرُ كثيراً من هذه النزعة الإمبريالية بل ببساطة من النزعة المقاومة للتخصص العلمي، وأفضل التعايش السلمي إن أمكن بين عدة تخصصات علمية (مثلاً، قريبة لكنها مختلفة عن تخصصاتنا، علم الدراما dramatologie أو علم السينما filmologie).
- جوني بيي : يبدو لي منذ عهد قريب أن العصر الذهبي للسردانية قد أصبح شيئاً من الماضي، وأن النظرية والنقد الأدبيين اتخذتا لهما طريقاً آخر للسير فيه. ومع ذلك، نشهد منذ مدة زمنية على تجدد الأبحاث التي يقال عنها"سردانية"التي لم ترث لا البنيوية ولا ما بعد البنيوية، لكنها موزعة على أسس وأهداف مختلفة، وأحياناً متنوعة جداً. هل يوجد بين سردانية الأصول وأبحاث اليوم روابط للاستمرارية؟ هل سيكون التفكير في الميطاليبس مثلاً من يبن أمثلة أخرى تضيء الطريق للسؤال في اتجاه المستقبل؟
- جيرار جينيت: لا أعرف ما إذا كانت السردانية قدعرفت "عصراً ذهبيّاً" (وهو مفهوم ارجاعي دائماً ووهمي بشكل كبير) أعتقد أنه مازالت هناك مواد دسمة كي تشغل اهتمام الباحثين. لكن اليوم ودائماً اعتبر نفسي جاهلاً، هذه الأعمال لكي أحاول إنجاز فرضية حول علاقة الاستمرارية أو عدم إنجازها بين مختلف المراحل. ما يبدو لي شيئاً أكيداً، أن النقد والنظرية الأدبيين كانت لهما دائماً طرق أخرى يسلكانها غير تلك التي يسلكها تحليل الحكي، وأتذكر أنني تبعت أحدهما وبعد لقائي (الدقيق وغير المتوقع تقريباً) بالموضوع السردي: لم يكن حقل عملي هو السردانية الوحيدة لكن الشعرية بوجه عام، وبل أكثر عموماً نظرية الفن بل أكثر من ذلك أيضاً الجمالية l esthétique. لا أزعم أنني مثال يحتذى. لكنني أعتقد أن تخصص علمياً عليه أن يحافظ مع ذلك على الانغلاق أكثر في موضوعه الخصوصي أكثر من الرغبة في الالتحاق بالآخرين (أن يكون ملحقاً). أما بخصوص التأمل حول الميطاليبس لا أعتقد أنه يجب تحميله وظائف يمكن أن يهشمه ثقلها: فضلاً عن ذلك فالميطاليبس هو استثناء مُسَلٍّ يجب الحرص على تشييده بسرعة في شكل إبدال. إنها لعبة جذابة لكنها مجرد لعبة.

عن الحوار المتمدن