رحيل جيرار جينيت: من النظرية الأدبية إلى الجماليات

رحيل جيرار جينيت: من النظرية الأدبية إلى الجماليات

نجيب مبارك
توفّي، عن عمر 88 عاماً، الناقد والمنظّر الأدبي الشهير جيرار جينيت، أحد أقطاب النقد الأدبي والشعري في فرنسا والعالم. جيرار جينيت، الّذي وُلد في باريس عام 1930، كان ينتمي إلى تلك الفئة من الباحثين الّذين كسروا جمود الفكر النقدي خلال الستينيات والسبعينيات، عندما أدخلوا على الدرس الأدبي مفاهيم جديدة في التصنيف والتحليل النظري. ظهر عمله الخاصّ- المتعلّق بـ"الشعرية"- في فترة صعود الحركة البنيوية،

لكنه سرعان ما اتّسم بالاستقلالية والقدرة على التجدّد على مدى سنوات، ما سمح له بالإفلات من مصير التّراجع الكبير الّذي طاول العديد من النظريات النقدية لتلك الفترة.
مسار غنيّ بين الجامعة والتنظير
تخرج جيرار جينيت من المدرسة العليا للأساتذة (1951-1955)، التي كان من زملائه فيها الفيلسوف جاك ديريدا. وبعد أن نال شهادة التبريز في الآداب، اشتغل أولاً أستاذاً في مدينة مانز، لكن أهمّ فترات مساره الجامعي هي تلك التي قضاها في باريس، حيث عمل أستاذاً جامعياً مساعداً للأدب الفرنسي في السوربون، ثمّ أستاذاً محاضراً قبل أن يُعيّن مديراً في مدرسة الدراسات العليا (1967-1967). كما حاضر في نيويورك في الولايات المتحدة كأستاذ زائر (منذ 1971). وبالموازاة مع مهنة التدريس والأبحاث العلمية، كرّس معظم وقته لنشر الفكر النقدي المعاصر، خصوصاً بعد أن أسّس وترأس تحرير مجلة"بويتيك"(شعرية)، الصادرة عن سلسلة الدراسات بدار نشر"سوي".
أوّل كتاب لجينيت أثار انتباه الأوساط الأدبية كان"وجوه"(1966)، لكنه سرعان ما فرض حضوره في أعمال نقدية أخرى تنفرد ببعدها التصنيفي والاصطلاحي، وهي أبحاث قدّمت للدراسات الأدبية، عبر مراحل تطوّر فكره النقدي (خصوصاً في المجال السردي، دراسة الأجناس، قضايا الجماليات العامة...) الكثير من المفاهيم، والتعاريف والمصطلحات الضرورية من أجل مزيد من الدقة النظرية. لكن أهمّ ما ميّز بحث جينيت هو شساعته المدهشة، التي تستند إلى مرجعيات مختلفة، وقدرته الدائمة على الابتكار: لقد كان لديه فضول نقدي كبير، سمح في كثير من الأحيان بالكشف عن وجود ظواهر وإشكالات ظلّت حتّى ذلك الوقت مجهولة من طرف النقّاد، سواء تعلّق الأمر بالنصوص الأدبية أو الأعمال الفنية.
أحد ممثلي النقد الجديد
لقد لعب جيرار جينيت دوراً أساسياً في تقدّم الدراسات الشكلية للأدب. فهو أحد أهمّ ممثّلي ما سمّي"النقد الجديد"في الستينيات، حيث كان رولان بارث أيضاً من منظّريه الكبار. ومن خلال دراساته العديدة حول معنى الخطاب، مظاهر اللغة، أصولها وآلياتها، وبفضل الوسائل الّتي يوفّرها النقد والمنهج البنيوي، خصوصاً في الأجزاء الثلاثة من كتابه الشهير"وجوه"(1966-1972)، ثمّ في"خطاب الحكاية الجديد"، استكشف جوانب مختلفة من علم جديد كان يطمح لتأسيسه، هو ما صار يعرف بـ"علم السرد"(المصطلح ابتكره في الأصل تودوروف). كما درس أيضاً تصنيف الأجناس الأدبية، والتناصّ، واهتم بمحيط وعتبات النص، أي كلّ ما يصاحب النص ويسهم في أن يصير قابلاً للتأويل، مثل العروض التقديمية، الهوامش والتعاليق، والنصوص الموازية. وخلال التسعينيات من القرن الماضي، اتّسع مجال بحثه ليشمل الجماليات، خصوصاً في الجزئين الأول والثاني من كتابه"العمل الفني"، الّذي يستعيد فيه ويناقش أطروحات نيلسون غودمان وآرثر دانتو حول الجماليات.
حظي جيرار جينيت بمكانة عظمى في مجال النظرية الأدبية، رغم أنّ خروجه الإعلامي في هذا الميدان الصاخب والتأمّلي نسبياً، لم يكن يثير الكثير من الضجيج. لقد كان لديه في الواقع ميلٌ للإبداع والتدريس منذ إصداراته الأولى عام 1959 (الجزء الأوّل من"وجوه"). وقد اتّسم أسلوبه بالصرامة، والسخرية أحياناً، وكان يشتغل على مادة النصوص بكثير من الأناقة والكبرياء، كأنه يصقل معدناً ثميناً يليق بأحد نبلاء العصر الذهبي، وكان لأعماله تأثير كبير في أجيال من طلّاب الآداب، وبالتالي على القرّاء والأساتذة، في مجالات أوسع من تخصّصه الأدبي (الّذي امتدّ في ما بعد إلى مجال الفن عموماً).
حبّ عظيم للكلمات والأدب
لقد ابتكر جيرار جينيت أدوات جديدة لأولئك الّذين كانوا يحصرون دراسة النصوص في البيوغرافيا وتاريخ الأفكار. لقد دعاهم إلى التخلّي عن الكسل في مواجهة النصوص، والدّخول إلى أعماقها دون إغفال التفاصيل، كما لو أنّهم عمال يشتغلون في ورش اللغة. ولتحقيق ذلك، منحهم جينيت ما يكفي من الأدوات النظرية اللازمة للعمل. لقد أوضح جينيت، في الستينيات والسبعينيات، صحبة آخرين من بينهم بارث، أنّ التحليل الأدبي، إذا لم يكن خيالاً، يمكنه على الأقلّ أن يكون إبداعاً. وقد كان يعلّق على جدار غرفته، حين كان ما يزال طالباً، هذه العبارة:"يتصوّر هيغل أنّ العمل هو ماهية الإنسان، ماهيةٌ إنسانية في فترة حمل". وبعد ستين عاماً، سيضيف عليها:"لستُ متأكّداً من التّعريف الأمثل لماهية الإنسان، وهذا يجبرنا على عدم إساءة استخدامها".
تُوصف عادة أعمال جينيت النظرية بأنّها جافّة وقاحلة، لكنّها في الواقع تعرّي النصوص لتكشف ينابيعها العميقة: مَن يتكلّم داخل النص؟ متى؟ أين؟...هي أسئلة بسيطة لكن إجاباتها معقّدة، كما تشهد بذلك سلسلة"وجوه"، وخصوصاً منها الجزء الثالث، حيث المفاهيم السردية تتأسّس وتُطبّق في نفس الوقت، على عملٍ وحيد وفريد:"البحث عن الزمن الضائع"لبروست، وهذا الأثر يُعدّ قمّة في التحليل الأدبي بالنسبة للشغوفين بالتأويل، لأنّ إتقان مثل هذه الأدوات سمح باكتشاف كنوز لا تقدّر بثمن. كما يتّهم بعضهم جينيت بإدخال مصطلحات عامّية في التحليل، وهو يعترف بذلك:"من يقول إنّها مصطلحات عامّية فهو يقصد مصطلحات جديدة، ابتكارات اصطلاحية، وتصنيفات. كلّ هذا مفيد، شرط أن يتمّ ذلك في إطار علميّ متمكّن من المفاهيم. هناك حتّى نوعٌ من المتعة في تطوير معجم مناسب وملائم وقادر على أن يشكّل نسقاً". ثمّ يستدرك في موضع آخر:"إنّ التعالي النظري، في ذاته، مثير للسخرية ولا يُحتمل".
كان لجيرار جينيت على الخصوص حبٌّ عظيم للكلمات وللأدب، يعبّر عنه أحياناً بسخرية وتهكّم من الذات. كان يحبّ تلك الأخطاء في اللغة الّتي يرتكبها بعض الكتّاب، بسبب الجهل وليس رغبة في الابتكار، كأن يردّد مثلاً هذه الاستعارة:"تشعر بالملل كأنّك ذراع ميّتة". وكان يستمتع كثيراً بـ"لهجات"وسائل الإعلام، بتلك اللّغة المصطنعة الجديدة الّتي تبتكرها الميديا. وفي كتابه"باردادراك"يجمع ما يسمّيه الكلمات- الكميرات (كائنات هجينة)، مثل كلمة"ناشط فوضوي"أو"أمين المكتبة الفوضوي"، أو يصف"عاهرة"بأنّها"حلوة تبحث عن الزمن الضائع"... بل إنّ عنوان الكتاب نفسه"باردادراك"هو في الأصل من اختراع صديقة عزيزة عليه، كانت تقصد به محتويات حقيبة اليد التي تحملها.
من"إيمائيات"إلى شكل أدبي جديد
يطرح جينيت في كتابه إيمائيات (1976) أسئلة الماهية الّتي انطلق فيها أفلاطون حول النظام الأنطولوجي المعرفي للغة، مركزاً الاهتمام على علاقة الكلمات بالأشياء.‏ أمّا في كتاب"مدخل لجامع النص"(1979)، فيناقش المبدأ الأفلاطوني في مقاربة الشعر، ومفهوم المحاكاة التي بموجبها تمّ تقسيم الشعر إلى غنائي وملحمي. ويعيد تشكيل قراءة أفلاطون للشعر، ليحدّد في النهاية أنّ موضوع اهتمام الشعرية ليس النص، وإنّما محددات النص، أي مجموع القواعد والمقولات العامة التي تتأسس منها ووفقها خصوصية كل نص.‏ وفي كتابه"الرق الممسوح"يتعرّض لما كان قد أشار إليه بارث حول مفهوم تاريخ النص والذاكرة الثقافية للغة. وسعى من خلال ذلك لإقامة نظرية توضح مختلف الأشكال التي يمكن للعمل الأدبي أن ينبني وفقها، من خلال استناده لأعمال أخرى عبر مجاورتها أو مماثلتها أو محاورتها الساخرة، أو ما يسمّيه الأدب من الدرجة الثانية أو النصية المفرطة، وتناول فيها كتابات: أسترى، بورخيس، فلوبير، بروست، روب غريي.‏
أمّا كتابه"خطاب الحكاية الجديد"(1983) فهو إعادة قراءة ومراجعة للمفاهيم العامة الّتي قدّمها في كتب"وجوه"، خاصة ما تعلق بالمسارات الإجرائية لمقاربة النص السردي، حيث ضمّنه الملاحظات الّتي وُجّهت للكتاب من طرف النقاد، وسعى إلى مراجعتها، بينما كتابه"عتبات"(1987) فقد شكّل مرحلة أخرى في النقد البنيوي، لأنّ جينيت انتقل لدراسة ما يسمّيه"عتبات النص"، وهي عناصر لا تدخل مباشرة في النص، ولكنها تؤطره من الخارج، وتؤثر في المتلقي بصورة أساسية، ما يسهم في توجيه منظوره وفقاً للتقاليد الممارسة في تلقي الكتاب الأدبي.
في عام 2006، قام جيرار جينيت بتطبيق صرامة منهجه النقدي والتحليلي على حياته الخاصة، هذا المنهج الّذي ظلّ حتى ذلك الوقت موجّهاً إلى أعمال الآخرين، مثل بروست، مالارميه، مونتاني، فلوبير، السرد الباروكي، عندما ابتدأ مع كتاب"باردادراك"متوالية ذاتية وحميمية، (صدر منها"كودبسيل"، 2009،"أبوستيل"، 2012،"بوستسكريبت"، 2016)، حيث كلّ كتاب هو تتمّة لسابقه، من دون أن يصرّح بذلك. وهي كتب تُشبه سلسلة من الأقفال أو الأحواض المنحوتة، كما لو في حديقة باروكية، حيث يتمّ القبض على حياة إنسان في شكلها الأبجدي، عبر أشكال بسيطة وفقرات، ثمّ القيام بتشكيلها وتفكيكها، مثل ذكرى تبزغ من تحت قناع كلمة لم نكن في انتظارها. لقد طبّق جينيت فكره النقدي على ذاكرته الخاصّة، لكن بشيء من الفانتازيا، واللّعب، وهو ما لا تسمح به نصوص الآخرين. وبهذا العمل يكون قد خلق شكلاً أدبياً جديداً: نوع جديد من السيرة الذاتية.
عن جريدة العرب