من تأريخ الحريات الصحفية في العراق.. الصراع بين الصحافة وقانون المطبوعات في الثلاثينيات

من تأريخ الحريات الصحفية في العراق.. الصراع بين الصحافة وقانون المطبوعات في الثلاثينيات

فيان حسين احمد
صدر يوم الثامن من حزيران 1931 قانون المطبوعات الجديد، الذي جاء ضربة قاضية للصحافة العراقية التي كابدت ولا تزال تكابد العنت والإرهاق. وأنه ليس إلا أحداث القيود التي ابتكرتها الوزارة لتقييد الصحف المعارضة معتقدة أنها بهذه الوسائل تريد أن تكبت صوت النقمة منها ومن أعمالها وتصرفاتها.

جاء القانون الجديد بنوع مبتكر من التشريع الذي عرف في عهد تلك الوزارة فقط، فضلاً عما عهد به في القانون القديم من التعطيل المؤقت وفقاً للمادة (23) المعدلة التي استعيض عنها بالقانون الجديد بالمادة (16)، وقد بالغت الصحافة حين قالت إن القانون جاء بإلغاء الاجازة مما جاء مخالفاً لجميع الشرائع ومناقضاً حتى لنصوص القانون نفسه الذي اعترف بملكية المطبوع وانتقاله بالإرث أسوة بالممتلكات فكيف يعترف القانون بملكية المطبوع ثم يصادر هذه الملكية بالإلغاء، تلك الصادرة التي استنكرتها الشرائع والقوانين.
لعل أغرب ما جاء في قانون المطبوعات الجديد هو نصه على ((إن من شروط المدير المسؤول أن لا يكون محكوماً في جناية أو جنحة مخلّة بالشرف)) مع العلم ان القانون القديم اشترط في الجناية كونها غير مخلّة بالشرف أيضاً وضرب لذلك مثلاً في الجرائم المخلّة بالشرف وعدّد قسماً منها وهي التزوير وخيانة الأمانة والسرقة... إلخ، فأصبح بهذا التحديد القانوني الخيانة السياسية لا تحول دون أهلية المدير المسؤول للمطبوع وذلك هو موافق لروح القانون. فضلاً عن ذلك أنه قد يمكن أن يحكم شخصين أحدهما بعقوبة سنتين ونصف السنة من أجل جنحة ولا يكون ذلك مانعاً له من أن يكون مديراً مسؤولاً، وشخص آخر محكوم شهراً بجناية ولكنه لا يقدر أن يكون، فهل هذا يلائم القانون والأصول؟.
في أثناء مناقشة تقرير لجنة حقوق الأوقاف للائحة قانون المطبوعات لعام 1931، كان العين فخري الدين الجميل ومولود مخلص وآصف افندي يرون أنه يقيد الصحافة ويكمم الأفواه، وقد وصف فخري الجميل القانون بأنه يقيّد حرية الصحافة، متمثلاً بقول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له
إياك إياك ان تبتل بالماء
فلايمكن أن يكون للبلاد استقلال ما لم تكن الحرية مضمونة لأبنائها والمطبوعات هي الغذاء للروح.
وعن الموضوع نفسه نشرت صحيفة الاستقلال مقالاً بعنوان (الصحف المعطلة) جاء فيه: ((صدر قانون المطبوعات الجديد وألغي القانون العثماني المعدل وذيوله ولاشك أن هذا يقضي على الحكومة الافراج عن الصحف المعطلة كافة، كما أن الوزارة المختصة قد سألت من وزارة العدلية عن هذا الأمر ولا نعرف ماذا سيكون الجواب، وإن عدم الافراج عن الصحف ليس إلا مخالفة قانونية صريحة)).
فقد عادت صحيفة الاستقلال الى الصدور بعد أن احتجبت مدة تقارب الخمسة شهور، وكتبت صحيفة السياسة مقالاً بعنوان (من تدابير الوزارة في مكافحة المعارضة)، جاء فيه: ((فمن الوسائل التي تذرعت بها الوزارة السعيدية لمكافحة المعارضة وقفل الصحف الوطنية أنها عمدت إلى سن لائحة قانون لتعديل قانون المطبوعات، ولا يعقل أن وزارة كوزارة نوري باشا اضطهدت الصحف الوطنية اضطهاداَ لم تأت بجزء صغير منه جميع الوزارات السابقة، تقدم على تعديل قانون المطبوعات ولا تحوي لائحتها التعديلية أثر أعمالها وسلوكها تجاه الصحف الوطنية التي وقفت لها بالمرصاد. فنلفت نظر المسؤولين عن التشريع وعن حرية الشعب التي ضمتها حتى صك الانتداب الى هذه التدابير التي يُراد بها اطالة الحياة على الكراسي ليس إلّا)).
نشر محمد باقر الشبيبي قصيدة بعنوان (جرس الحرس) في صحيفة الاخاء الوطني يوم الحادي عشر من تشرين الأول 1931، وعلى ذلك فقد سارعت الحكومة بإقامة دعوى على المدير المسؤول للصحيفة كامل الجادرجي بحجة أن القصيدة تتضمن طعناً للحكومة وإثارة الكراهية ضدها، وخضع للمحاكمة في الثاني والعشرين من تشرين الأول، واستدعي جميل صدقي الزهاوي (الشاعر العراقي المعروف) بوصفه خبيراً في الشعر في المرافعة وفق المادة (89) من قانون العقوبات البغدادي، ونظرت المحكمة في ذلك الطلب واستمعت الى شهادة الزهاوي، وبعد الاستماع الى الزهاوي قررت محكمة الجزاء براءة المحامي كامل الجادرجي والناشر محمد باقر الشبيبي وإن تلك القصيدة لا تتضمن أي أهانة للحكومة أو لأي شخص آخر.
وقف الحزبان المتآخيان حيال تصرفات الوزارة المخلة بالدستور والمتعارضة مع احكام القانون موقف المراقب المحاسب وتنبيه الحكومة على اغلاطها في كل ما صدر منها من التصرفات، ووقفت المعارضة من المرسوم رقم (90) الذي صدر قبيل انتهاء الاضراب العام، موقف الناقد المحتج على حريات الشعب التي اجمعت القوانين على صيانتها تصادر على هذا الوجه الصارم، وترجو أن تذعن الحكومة وتعلن انهاء المرسوم، فأصدرت وزارة الداخلية بياناً رسمياً تعلن فيه انتهاء الأزمة التي صدر من أجلها المرسوم وعّد لاغياً من يوم التاسع عشر من تشرين الأول 1931.
فنشرت صحيفة الاخاء الوطني مقالاً بعنوان (يمنعون الحفلة ويرغمونهم على السفر)، فقد دعا لفيف من شباب العاصمة جماعة من الوجوه والسرآة لشرب الشاي في فندق كارلتون تكريماً للبصريين المبعدين، فلم تكن لا رمزاً للإضراب التأريخي ولا مطلع حركة سياسية يُراد بها التآمر على سلامة الدولة وازعاج دكتاتورية نوري السعيد بل كانت حفلة شاي وتوديعاً فقط، والاغرب أن ترغم حكومة الثقة الجديدة البصريين على مغادرة بغداد على الفور وأن تحملهم على السفر مخفورين الى البصرة، في وقت لم يجهزوا أنفسهم للسفر))، وكان رد الحكومة على ذلك وبأمر من وزير الداخلية أن تقوم بإنذار للصحيفة لما نشرته والتي تضمن برأي الحكومة عبارات تثير النعرة بين أفراد الشعب وتحث على كراهية الحكومة ولما كان ذلك بما تنطبق عليه الفقرة الثانية من المادة الثالثة عشرة من قانون المطبوعات، فرضت على صاحب الصحيفة أن ينشر ذلك الانذار في أول عدد يصدر من الصحيفة.
سيق كل من محمد صالح القزاز وكامل الجادرجي الى محكمة جزاء بغداد في السادس والعشرين من تشرين الأول 1931 وذلك لنشر بيانه الأول في صحيفة الاخاء الوطني الصادر يوم الواحد من ايلول 1931 تحت عنوان (ايضاح وبيان)، والتي مديرها المسؤول هو المتهم الثاني، وقد تضمن البيان بحسب تفسير الحكومة اهانة لها وعند اجراء المحاكمة ذكر المدّعي العام العبارات الواردة في البيان والتي تتضمن الاهانة، وقد دافع المتهمان عن الافراد إذ أبان الأول أنه لم يقصد اهانة الحكومة في البيان الموضوع الصدد بل إن جل قصده ذكر ما جرى في الجمعية قبل الانتخاب وبعده أي الى تاريخ اغلاق الجمعية، وقد أبان الثاني أن البيان لا يتضمن اهانة الحكومة وأنه أطلع عليه قبل نشره فوجده يتضمن بيان رفعه الى رفاق المتهم الأول المنتسبين للجمعية لذلك أجاز نشره، وبعد نظر المحكمة في طلب المدّعي العام وبياناته ودفاع المتهمين ووكيلهما وامعنت النظر في البيان فلم تجد فيه اهانة ضد الحكومة، لهذا قرر الافراج عنهما.
وحين عرضت لائحة قانون تعديل قانون المطبوعات على المجلس النيابي، علقت صحيفة الاهالي عليه قائلة: ((مازالت الصحافة في هذه البلاد تتلاقي الضربة الشديدة أثر الضربة... حتى لكأن الصحافة أصبحت هدفاً للاصابات والتشديدات بالتضييقات والحرمان من الحريات ومن بصيص النور وتوشك أن تفقد الحياة إن لم تكن قد فقدتها حتى الآن، فإن تعديل قانون المطبوعات بهذا الشكل بشروطه وقيوده الكثيرة... ليس غير دعوة لترك الاشتغال بالصحافة والالتجاء الى الاشتغال بالسياسة بصورة سرية...)).
عطلت وزارة الداخلية صحيفة الاستقلال مدّة أسبوع كامل حكمت محكمة جزاء بغداد على ابراهيم صالح شكر بالحبس لمدة سنة وعلى عبد الرزاق الشبيب المدير المسؤول لصحيفة"الاماني القومية"بالحبس لمدة ستة أشهر من جراء ما نشره عن مزاحم بك الباجة جي، وقد خفضت المحكمة الكبرى للواء بغداد بصفتها الاستثنائية الحكم الصادر على ابراهيم صالح أربعة أشهر وعلى عبد الرزاق شهرين إلا أن وكلاءهما لم يقتنعوا بذلك الحكم فرفعوا عريضة الى محكمة التمييز لتدقيق ذلك الحكم مرة أخرى، وقد نظرت محكمة التمييز في القضية واصدرت حكمها بتخفيض السجن لإبراهيم شهرين ولعبد الرزاق شهراً واحداً. فاتبع ذلك تعطيل صحيفة الاستقلال لمدة ستة أشهر، فأجتمعت اللجنة العليا لحزب الاخاء الوطني والهيئة الإدارية للحزب الوطني العراقي في إثر ذلك التعطيل وقررت رفع احتجاجهما الى الوزارة.
وعلى أثر ذلك الإغلاق صدرت بدلاً منها صحيفة سياسية باسم"الثبات"لمحمود رامز، يوم الثلاثين من كانون الأول 1931 ((لتناوئ تلك الفئة التي تحيد عن مبادئها ولا نقدر على الثبات امام تقلبات السياسة فتستهويها المناصب والألقاب الكاذبة وتغرها البهاج والأوضاع المزيفة فتسنى إيمانها وعهودها وتستهتر باقداس الوطن إشباعاً للتهم وتبريداً للغلة)).
وجه وزير الداخلية ناجي شوكت (3) يوم الثالث عشر من كانون الثاني إنذاراً إلى صاحب صحيفة الثبات محمود رامز بسبب ما نشرته الصحيفة في عددها (12) الصادر في كانون الثاني 1932 ما يخالف منطوق الفقرة الثانية من المادة (13) من قانون المطبوعات، فكان رد الصحيفة على ذلك هو ((أن ملاحظية المطبوعات ومن ورائها وزارة الداخلية قد عودتنا أسلوباً جديداً في معاملة الصحف واربابها، فتراها في الوقت الذي تعترف بأن للصحف فيما تكتب عذراً مشروعاً هو عدم تمكنها من الاطلاع على الاخبار بصورة رسمية صريحة لإخطار رئيس الوزراء الدوائر الحكومية كافة بعدم السماح للصحافيين بدخولها، وفي الوقت الذي ترفع فيه ملاحظية المطبوعات تقريراً يصادق عليه وزير الداخلية يقترح بأن تزود الدوائر الحكومية الملاحظية بأخبارها الرسمية لتنشر في الصحف كافة...)).
عادت صحيفة"الاستقلال"بعد اغلاقها يوم الرابع من آذار الى ميدان النضال والى أداء واجبها المفروض بعد ان احتجبت ستة أشهر وأربعة أيام، ((وما واجبها إلا خدمة هذا الشعب الذي تآلبت عليه القوى الغاشمة وتكاتفت الأيدي الاثيمة على أن يكون مرهقاً مكدوداً)).
فقد عادت صحيفة"الاستقلال"يوم الثالث والعشرين من حزيران 1932 وقد برزت امامها القيود والاصفاد التي احكمتها الوزارة السعيدية الثانية ((وتفننت في ابداعها لكي تحقق شهوتها في تكميم الأفواه وتحطيم الاقلام التي لا يحركها غير الاخلاص البريء لهذه التربة المباركة والوطن العزيز، فالوزارة لم تكتفِ ما خصّت الصحافة من أذى بل تقدمت بقانون المطبوعات وكان يحوي بنوداً تضيق بها الصحافة ذرعاً ولم يجد رئيس الوزراء ما يدافع به عن هذه اللائحة التي جاءت تحوي لوناً جديداً من الوان الحكم الفردي...)).

عن رسالة (حرية الصحافة في العراق1921 – 1933)