واقعية جيمس جويس

واقعية جيمس جويس

ماتشي سوومنتشينسكي *
ترجمة عدنان المبارك
ثمة مجموعة كبيرة من الناس السعداء في العالم الذين ينبذون كهراء كل ما لايقدروا على فهمه للوهلة الأولى. إنهم يطالبون الفن بأكبر مهارة في إستنساخ ماهو الأقرب منهم والمعروف أكثـر من غيره عندهم. بكلمة واحدة هم يطالبون بماليس عليهم تعلمه وفهمه من دون الجهد الذي يعمل على تطوير وإتقان ذلك الجهاز الداخلي الدقيق القائم بخدمة الإنسان في خلق الإنفعالات.

ليس بمكنة جيمس جويس الذي قال إليوت عنه بأنه( أجهز على القرن التاسع ودفنه) ، مخاطبة هؤلاء الناس ، كما ليس بمقدور بيكاسو وبييت موندريان والآخرين الذين منحوا فن القرن العشرين تعبيرا جديدا بعيدا كل البعد عن الماضي القريب ومرتبطا بالتقدم العلمي البالغ السرعة والتحولات الإجتماعية الكبرى وما يرافقها من تغيرات جوهرية في أسلوب إدراك العالم المحيط بنا.
وأدب جويس لايملك في تأريخ الأدب أسلافا. ورواية ( يولسيس ) لاتسبق أي شيء كان ينبيء بها. إنها عمل وحيد وغريب على كل شيء كان قبلها، وحازم بشكل مرعب في سعيه الى الهزء من كل الكتب التي جاءت قبله.
كيف رأى جويس هذا الأدب الذي أراد إلغاءه وإبداله بنوع جديد لم ينشأ الا في مخيلته؟. منذ مطلع شبابه كان يتكلم عن هذه القضايا كثيرا. وكان يقدّر عند بعض الكتاب ( إبسن مثلا ) تلك الصفحات التي أراد أن يصقلها في ذاته، أو إختيار المصير الذي كان قريبا من إختياره. غير أنه ثمّن في المحصلة عالم الكتب بهذه الصورة التي لاتخلو من التبسيط : منذ القدم نجد أن الأدب المفكك، بصرامة أكبر أو أقل ،أي الملحمة والتراجيديا والكوميديا والشعر والرسالة الفلسفية والكتابة التاريخية وفي الأخير النثر الفني أي الرواية ، قد خضع لحالات تذبذب إرتقائي بطيئة لاتتوجه دائما صوب الكمال. ولقد كسب الأدب العميق عامة ، التعبير حين تحرر من شتى أنواع السلطة، ولما غرق هو في الوعظية لو لم يرغم على ذلك. فبداياته كانت مرتبطة منذ الأزمان السحيقة في القدم، بالطقس الثقافي. ومنذ اللحظة الأولى أخذ الأدب ينمو في أطر التقاليد التي لم تتح له التطور الحر. ومع مرور الزمن صارت هذه التقاليد متنوعة وتملك الإصرار الذي جعلها اليوم غير ملحوظة رغم أنها تشكل كل شيء. ومهمة الأدب أن يكون محاولة لكشف الحقيقة عن الإنسان بأوسع معنى الكلمة ، إلا أن التقليد هو بطبيعته مناقض للحقيقة، وهكذا إذا أراد المرء أن يكون فنانا حقيقيا عليه أن يدمر التقليد ومعه الأدب الذي نشأ منه.
ليس معلوما إذا كان جويس قد إمتلك نظرية معّدة بصورة مفصلة عن ( يولسيس ) عندما بدأ هجومه الساحق الذي لامثيل له في التأريخ ، على عالم الكتابة آنذاك. وبالإعتماد على تغييرات معينة طرأت على الصياغات الأخيرة لهذا الكتاب يمكن الإفتراض بان جميع التفاصيل قد خضعت مسبقا للتفكير الطويل ، لكن جويس أدرك بالتأكيد أن تعرية عبث بعض التقاليد وعيوب السبل المستخدمة لغايتها في إظهار عمليات العقل ، لايمكن أن تحصل بأسلوب واحد حسب، وهو المحاكاة الساخرة( رغم أن بعض عناصرها واضح في هذه الرواية ) بل من خلال إبداله بأساليب متقنة لدرجة أكبر. وكان الهدف النهائي هو الكشف الأكمل عن الإنسان كما هو في الواقع. إن واقع عقل الإنسان هو في الوقت ذاته نشاط للوعي واللاوعي وتلك الزوايا الصغيرة من الذاكرة التي توقظها التداعيات الحرة ،و هي تعود الى سباتها إذا كان الحافز ضعيفا. الى كل هذا ينبغي ان نضيف الرفض المستمر لردود الفعل وتلك التيارات المظلمة والغريبة لما يسمى بالردّة الخلقية (بكسر الخاء ) والتي تبدو كما لو أنها لاتخص الفرد بل الجنس البشري كله ، وأمامها تكون المخاوف ليس بمخاوف بعد، أما الآمال فلم يكن قد عرفها وحتى اللاوعي. إن هذا التجوال العشوائي والمدهش للظواهر يستمر من دون إنقطاع طيلة حياة الإنسان، في الحلم واليقظة دائما.
أن تظهر الإنسان كاملا معناه أن تظهر عقله كاملا، وهذا أمر لم يقدم عليه أحد، وكان يبدو أن الأدب لايتصرف بصورة كافية ، بأدوات دقيقة تجعل هذا الأمر ممكنا.
ألا أن جويس لم يتوقف في هذا المكان. فلقد كان الإنسان يعني البشرية كلها. وهذه البشرية هي المرأة والطفل والشيخ والصبي والفتاة والرجل . ولوكان ممكنا وضع عقل الرجل في فكر الطفل والشيخ لوجدنا أن الأمر يعني ضرورة إظهار الإنسان في الأزمنة الثلاثة بصورة تزامنية .
في هذا الموقع كان شيئا ضروريا القيام بهدم المفهوم التقليدي للزمن وإبداله بزمن آخر ذي دلالات عديدة لكنه فعلي . كان ينبغي أن ينهض معه نظام للتحس التواقتي والتغلغل المتبادل للمشاعر المجربّة في الماضي والحاضر والمستقبل أيضا.
لقد تبين أن كل هذا كان أمرا ضروريا لكي يكون هذا الإنسان شبيها بكل واحد منا أيضا. الا أن سلسلة النتائج لا تنتهي في هذا الموضع. فهذا الإنسان الشامل هو كائن إجتماعي ومن الضروري أن تحيط به جميع الفنون والعلوم الرئيسة التي يتكرس لها منذ أيامه الأولى.
هناك القضية ألأخيرة : الجسد. فكل حدث من أحداث ( يولسيس ) قد كرّس لتحليل عمل جهاز آخر من الجسد. وعندما إمتلك جويس ، في عقله، مثل هذه الصورة الكاملة لبطله بدأ الكتابة . وإذا تبين أن هذا المسعى غير المحتمل ، أي إظهار البشرية من خلال إنسان واحد ، هو فاشل يكون من الواجب حينها إكتشاف أخرى جديدة. ولقد كان الشرط الأول هو الإخضاع التام لكل كلمة وفاصلة وحرف للهدف المرسوم.
من منجزات جويس المعروفة أكثر من غيرها والتي جاءت ثمرة لأستخدام منهج الإخضاع ، كان ما يسمى بالمونولوغ الداخلي الذي يعتمد على التسجيل المباشر لعمل الدماغ أثناء عملية تكوّن الأفكار والإنطباعات التي ينقلها الكاتب الى الورق غير مصحّحة. ولم يكن جويس مكتشف هذا المونولوغ. فأول من إستخدمه كان الكاتب الفرنسي أدوار ديجاردان لكن لغرض آخر لم يلق النجاح. وكان جويس قد تعرّف ، صدفة ، على كتاب الفرنسي غير أنه أدرك على الفور الأهمية الكبرى التي قد يملكها هذا التسجيل الحر لتيار الوعي. فبفضل هذا التسجيل كسب إمكانات عدة : الحركة داخل عقل البطل بكامل الحرية لغاية الوصول الى تلك الزوايا التي لم تتحول فيها الأفكار الى كلمات بعد. كذلك سمح المونولوغ الداخلي لجويس بالكشف التواقتي عن مختلف الظواهر، الداخلية والخارجية على السواء ، والمسجلة في شتى طبقات الوعي .
وتمثلت الإمكانية الأخرى بالمراقبة المباشرة لعمل العقل والتي قرّبت جويس من الحقيقة الموضوعية كما أبعدته عن ضرورة الأخذ بأسلوب التعليق التقليدي. كذلك سمح النشاط التواقتي للذاكرة ، وتسجيل الزمن الحاضر وتوقع المستقبل ومن ثم مزج هذه الأنشطة وتثبيتها ، للمؤلف بتحقيق النصر لأول على المفهوم التقليدي عن الزمن.
الا أن المونولوغ الداخلي ليس هو العنصر الأساسي والهيكلي لكتاب جويس رغم أنه أظهر للعالم الإمكانات التي لا تصدق والكامنة في الأدب المعاصر. فهذا العنصر كان تلك المرونة المطلقة للخامة المتألفة من الجمل وهذه الكلمات وتلك وعلامات الوقف والمكان الفارغ بينها. وفي البحث عن التعبير النهائي عن الحقيقة الفنية قام جويس بأشياء لاتصدق ولم يحلم بها أحد من قبل.
إن جميع أحداث ( يولسيس ) تملك ذلك النوع من حالة الإخضاع. وكل واحد منها مختلف وموظف لإبراز مجموعة أخرى من الظواهر. لذلك تختلف هي فيما بينها. كما لايمكن الحكم عليها إلا كاملة وحين لا ينسى القارئ أن عملية وضع علامات الوقف ، والإيقاع وغرافيكية النص والأخطاء الظاهرية في الأسلوب وبعض التفاصيل ( مثلا كلمة غير مفهومة تظهر بلمح بصر في ذهن البطل في بداية الكتاب وتكتسب معناها بعد بضع مئات من صفحاته) لاتخدم كلها إلا مسألة واحدة وهي التقديم الأكثر كمالا للظواهر كما أنها ليست إلا أدوات لكسب واقعية أكثر إمتلاء.
إن قبول هذا المركز للرؤية يجعل من ( يولسيس ) كتابا سهلا. وما اقصده بالسهولة هو أنني لا ألحظ في الكتاب أيّ شيء يكون فهمه أمرا مقصورا على نخبة من العارفين . و(يولسيس ) لايحوي أيّ شفرة. وانا على قناعة تامة بأن كل إنسان ذكي وواسع الإطلاع هو قادرعلى فهم أسلوب هذا العمل الأدبي وأسراره التقنية.

* ماتشي سوومنتشينسكي: شاعر وروائي ومترجم بولندي معروف. وهذا النص مجتزأ من مقدمة ترجمته لـ(يولسيس ) الصادرة في وارشو في عام 1969/ المترجم