خديجة الحديثي واعادة تقديم سيبويه

خديجة الحديثي واعادة تقديم سيبويه

الدكتور شوقي ضيف
باحث مصري راحل
لا يختلف اثنان في أن كتاب سيبويه أروع كتاب صُنفَّت قديما في النحو والصرف، لا لأنّ سيبويه بناه على غير مثال سابق فحسب، بل أيضاً لأنه استوفى فيه قوانينهما واستقصاها استقصاء بهر معاصريه ومَنْ خلفوهم على مر العصور، حتى أطلقوا عليه جميعاً اسم"الكتاب"عنواناً يتفرد به دون غيره من الكتب التي عاصرته أو ألَّفت بعده،

لما امتاز به من كمال في وضع أصول الصرف والنحو وضعاً نهائياً بحيث لم يترك فيهما للعصور التالية شيئاً تضيفه إلا بعض التفريقات والزوائد الطفيفة مما جعل صاعد بن أحمد الاندلسي يقول:"لا أعرف كتاباً ألَّفَ في علم من العلوم قديمها وحديثها اشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب، أحدها المجسطي لبطليموس في علم هيئة الاقلاك، والثاني كتاب ارسططاليس في علم المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري النحوي، فإن كل واحد من هذه لم يشذّ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له».

وكان أول من تلقَّى هذا الكتاب النفيس عن سيبويه وأذاعه في الناس الأخفش سعيد بن مسعدة، وعنه أخذه نحاة البصرة من تلامذته وتلامذة سيبويه، كما أخذه نحاة الكوفة غير عابثين بما بينهم وبين البصريين من منافسات حادة لتذليله علمي النحو والصرف، وما أشاعه فيهما من التقنين المصيب مع الترتيب الدقيق لمقدماتهما الصحيحة والإحاطة التامة بعللهما ومقاييسهما المطردة. وبذلك كله أصبح هذا الكتاب الأمام المتبوع لعلماء النحو والصرف في كل عصر والكنز الذي لا يزال يسيل بالفرائد النحوية والدرر الصرفية.
وقد عكف أسلافنا على الكتاب منذ ذيوعه يقرأونه ويعكسونه على أذهانهم وأفهامهم مراراً وتكراراً لما استقرَّ بينهم من أنَّ أحداً لا يستطيع أنْ يبلغ مبلغاً محموداً في علمي الصرف والنحو إلا إذا اتقن درسه فقهاً وفهماً، وتحليلاً وتأويلاً. وقد انبرى كثيرون على اختلاف اعصارهم وتفاوت أمصارهم يشرحونه ويفسرونه، وكل يحاول بجهده أن يجلو مواضع استغلاقه وخفيات دلالته، ويبسط ما أجمل من بعض مقدماته وعلله ومقاييسه. وبلغ من ضخم مادته وما يحوي من بعض العسر والصعوبة في جوانب من تصاريف عباراته وكوامن معانيه أنْ سمّاه القدماء"البحر"لعظم ما يحمل من عتاد نحوي وصرفي، وما يحتاجه قارئه من قطنة سليمة يستطيع بها أن يسلك مخارجه ومداخله، ويغوص إلى أعماقه مستخرجاً دقائقه ودفائنه.
ومن أجل ذلك قَدَّرْت للسيدة خديجة عبد الرزاق الحديثي بُعْدَ همتها حين رأيتها تحاول أنْ تخوض في قوة عباب هذا البحر في مستهل دراستها الجامعية العليا. وكلنا نعرف صعوبة التخصص في الدراسات الصرفية والنحوية وما يفتقر إليه هذا التخصص من عزيمة صادقة وجهد مخلص. وقد أبت السيدة خديجة إلا أنْ تبلغ في ذلك غاية بعيدة المنال، متخذة إليها أشد الطرق عسراً والتواءً، إذ عمدت إلى الأصل الذي تفرعت منه كل المباحث النحوية والصرفية والذي لا يستطيع البحث العلمي فيه إلا الحاذقون من أصحاب الصرف والنحو، واتخذت منه لبحثها ودرسها مادتها العلمية، وكأنها أرادت أن تسجل للباحثة العربية المعاصرة في هذا الميدان سبقاً علمياً، فإذا هي ترود مجاهل"الكتاب"وتختار أكثر أغواره صعوبة، وأقصد أغوار الصرف المليئة بالشعب والمنعطفات والأعشاب، ومضت تتغلب على كل ما صادفها من صعاب، مستخرجة درر الصرف اللامعة، بل ناضدة منها عقوداً بديعة ضمنتها هذا البحث القيَّم. وقد مهدت له بالحديث عن علم الصرف ونشأته وصنيع سيبويه فيه، وتطوره من بعده، ثم بسطت الحديث عن الميزان الصرفي والابنية المجردة والمزيدة في الأسماء والأفعال، جامعة من"الكتاب"اللِّفْقَ إلى لفقه وناظمة الفرع مع أصله.
وكان ذلك عملاً شاقاً، غير أنها أقدمت عليه غير حافلة بمشقة أو جهد عنيف تبذله، بل لكأنها كانت تجد متعتها الخالصة فيما تتكلف لبحثها من جهد ومشقة وعناء. وكان حظها عظيماً أنْ تعهدها – في اثناء ذلك – بالرعاية والتوجيه زميلي العلامة المرحوم الدكتور عبد الحليم النجار الذي أوتي من العلم بكتاب سيبويه وغيره من الكتب الصرفية والنحوية ما يجعل فَقْد البيئات العلمية العربية له خسارة كبرى.
ولا شكَّ في أنّ أكبر ما يعزينا عن الرُّزْء فيه أنْ نقرأ المباحث العلمية التي أشرف عليها في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وأن نرى فيها آثاراً من إرشاداته السديدة. ولا أزال أذكر ثناءه على بحث السيدة خديجة عبد الرزاق الحديثي، وثناء الممتحنين لها معه على ما أدَّت فيه من جهد علمي خصب.
والله وليُّ الهدى والتوفيق.

مقدمة كتاب ابنية الصرف في كتاب سيبويه