مصر البهيّة.. تستعيد أغاني الاحتجاج والحُلم

مصر البهيّة.. تستعيد أغاني الاحتجاج والحُلم

علي حسن الفواز
ذاكرة الأغنية السياسية ذاكرة احتجاجية بامتياز، وذاكرة حالمة في الآن ذاته، لأن هذه الأغنية إذ تختصر الاحتجاج والحلم، فإنها تصطنع لهما عبر وظيفة الصوت دوراً اكثر ثورية واكثر تلمساً في هوية هذه الأغنية وطبيعة خطابها ورسالتها الى الجمهور المستهدف. واحسب أن ذاكرة الأغنية السياسية العربية قد حملت هذا التوصيف في مراحل متأخرة،

بسبب طبيعة المزاج الثقافي/ الفني السائد وهيمنة الأغنية التقليدية، وبسبب الظروف الموضوعية التي ترتبط بها انماط الثقافات الاحتجاجية ومرجعيات خطابها السياسي والايديولوجي، إذ أن النمطية التقليدية للغناء السياسي كان محصوراً بين الغناء الوطني الحماسي الذي يؤدي دوراً يتناسب وطبيعة الاخطار التي تهدد الامة/ الدولة، وبين اغاني المونولوج والتي كان يؤديها مطربون محدودون والذي كان شائعاً في العراق ومصر بشكل خاص، لاقترانها بأنماط ثقافية/ فنية وسياسية معينة، مع وجود العديد من الشعراء وكتاب الزجل الشعبي الذين كانوا يكتبون هذه الأغاني الحاملة لرسائل اجتماعية ونفسية فيها الكثير من مظاهر الاحتجاج والسخرية.

أغاني الشيخ إمام ظاهرة صوتية وثقافية استثنائية في تاريخ هذه الأغنية وتحولاتها، إذ ارتبطت هذه الأغاني بخصوصيتها اللحنية الايقاعية المحدودة، فضلاً عن اقترانها باتجاهات سياسية معينة، ومحمولات سسيوثقافية تعبر عن العمق الانساني للناس(اللي تحت) كما يسمّيهم نعمان عاشور، والتي تعبر بالإفصاح عن ظروف قاهرة لهؤلاء الناس، مثلما تتطلب الكثير من المواقف التي لاتملك النخب السياسية والثقافية إلاّ الهروب الى فضاءاتها الاحتجاجية، ولا احسب أن الشيخ إمام ذا الأصول الأزهرية -رغم تمرده عليها في مرحلة لاحقة- يملك القدرة لوحده على أن يحمل هذه المسؤولية الاحتجاجية لوحده من دون وجود السياق الثقافي والسياسي الباعث على تفجير مكنوناتها التعبيرية أولاً، والتعاطي معها كموقف سياسي أو ايديولوجي أو حتى نفسي من ظروف قاهرة ثانياً. ولعل اللقاء الذي جمع الشيخ إمام مع أحمد فؤاد النجم وعازف الايقاع محمد علي، يمثّل البداية الفنية الحقيقية لصناعة (نسق فني جديد) مقابل صناعة الظاهرة المفارقة في الأثر الاجتماعي لتاريخ الأغنية السياسية العربية، تلك التي لامست وجدان الناس واسئلتهم الفاجعة، وعبّرت عن نبض احزانهم واحتجاجاتهم وسط عالم يمور بأحاسيس الخذلان والهزيمة.
الشيخ إمام...غناء الأحلام الأولى
الشيخ إمام محمد عيسى الأزهري في مرجعياته والذي مارس أحلامه الأولى شغوفاً بسماع صوت الشيخ محمد رفعت مرتلاً وباعثاً في نفسه بهجة غامضة، ربما هي التي قادته للدرس في الجمعية الشرعية في الأزهر، وهي التي قادته في مرحلة لاحقة للتمرد على سلطتها والذهاب باتجاه استعادة أحلامه القديمة.
تعرّفه على الشيخ درويش الحريري العارف بأصول الغناء والانشاد والمقامات والعزف، هو الذي قاده للتعرف على عوالم الغناء والموسيقى في انشاد الموالد والمشاركة في التخوت الشرقية ومجالاتها الواسعة آنذاك، إذ كان الشيخ الحريري قريباً من أساطين الغناء آنذاك، أبو العلا محمد، الشيخ زكريا أحمد، والشيخ محمود صبح وغيرهم، وهذا ما دفعه لملازمتهم والتتلمذ على أيديهم، بخاصة الشيخ زكريا أحمد الذي وجد في نبوغه في الحفظ موهبة استثنائية، فكان يرافقه في لياليه الحافلة بالموسيقى، ويحضر أوقاته التلحينية، بمافيها ألحانه لـ(أم كلثوم) إذ كان يحفظ جميع هذه الألحان ويرددها كثيراً في المناسبات. ولاشك أن تأثير هذه النزعة اللحنية بمقاماتها المعروفة ذات النزعة التطريبية كان كبيراً على حساسيته الغنائية، وعلى تطوير قابليته التي أخذت تتفجر من دون ضابط أو توجيه، بخاصة وأنه كان يختزن في ذاته المتأججة صراعاً غريباً بين نزعته للتجديد، وبين نمطية ثقافته الدينية والاجتماعية المحافظة، والذي انعكس على شخصيته العائمة والقلقة وسط فضاءات الموسيقى العربية التي بدت مفتوحة على أنماط تجديدية في التطريب والغناء والموسيقى، وعلى أيدي موسيقيين كبار أمثال محمد عبد الوهاب ورياض القصبجي ومحمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهم.
الشيخ وصدمة الاكتشاف
الشيخ الحالم بسحر الغناء وجمالية أصواته الباذخة ظل مهووساً بإغواء تلك الأحلام التي تطارده في رحلاته القاسية وعند شظف عيشه الذي يعانيه، فهو لم يجد ما يهب روحه اللجوجة والقلقة اطمئنانها، حتى بدا وكأن هذا القلق هو سر ابداعه الغريب الذي قاده للتعرّف على الشاعر أحمد فؤاد النجم عام 1962، ليشكّلا معا ظاهرة غنائية (صوتية وشعرية) لامست وجع الملايين في مصر والبلدان العربية، إذ استشرفت أغانيهما روح التمرد والاحتجاج العميقة السكنى في الذات العربية المكشوفة على فوبيا الخيبات والاغترابات والمراثي. وليعيشا يوميات الانشداد الى فخاخ الأحلام العربية التواقة للحرية والكرامة، بخاصة أيام حكم جمال عبد الناصر الذي كان مثالاً للنموذج التقليدي لصورة البطل القومي الذي تنعكس كارزما شخصيته على الجموع التي تبدو منفعلة بسحر هذه البطولة. انهيار هذا النموذج مابعد هزيمة 1967 وما أحدثه من زلزال كبير في كينونة هذه الشخصية، تبدى وكأنه اكثر الصدمات التي هزت يوميات الحياة العربية سياسياً وثقافياً واجتماعياً، بخاصة ما انعكس منها بعد انهيار سايكولوجيا البطولة التاريخية التي كانت تمثلها أوهام (البطل القومي)، وبدء مرحلة مراثي موت هذا البطل بكل ما يشوبها من روح غامرة بالمرارة والسخرية. مثلما كان من اكثر التحولات العاصفة في حياة الشيخ غمام وأحمد فؤاد النجم، فهما خرجا بيافطة القصيدة والغناء للاحتجاج العلني على الهزيمة، لأنها ليست هزيمة عسكرية بالمعنى المهني، بقدر ماهي هزيمة تاريخية ونفسية وثقافية، والتي انخرط في غمارها الشيخ إمام صوتاً عالياً مليئاً بالوجع والسخرية، فضلاً عن تمثله للكثير من احلام البسطاء الذين كانوا قد وضعوا ثقتهم برمزية (أبطالهم السياسيين والعسكريين) والذين خيّبوا هذه الأحلام وتركوهم مكشوفين لمشاعر الهزيمة النفسية المرعبة،
الحمد لله خبطنا بطاطنا
يامحله رجعة ضباطنا من خط النار
يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش
تعارف يخلي التحالف يعيش
وقعت من الجوع ومن الراحة
البقرة السمرا النطاحة

كلمات هذه الاغنية التي كتبها احمد فؤاد النجم وغنّاها الشيخ إمام تعكس مرارة الاحساس بالهزيمة، وخذلان الرمز، وسخرية الانسان من هذا الوجع الوطني الذي تحول الى انهيار أصاب البلاد والعباد. مثلما تحمل نبوءة كشف لمراحل لاحقة شاعت فيها مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي والتي عبرّت عن طبيعة اختلال التوازن في المعيش، وعن أزمة الحياة المصرية إنسانياً ومعيشياً التي تعاني هيمنة (القطط السمان) كما تسمّيها أدبيات المعارضة المصرية، والتي تكررت صورها اللاذعة في اغنيته المشهورة(أهل مصر المحمية)،
يا أهل مصر المحمية
بالحرامية
الفول كثير والطعمية
والبر عمار
والقشة معدن واهي ماشيه
اخر اشيا
مادام حبابة والحاشية
بكروش اكثار.

هذه القصيدة التي غناها الشيخ إمام وغيرها من القصائد الأخرى أمثال (ياعرب، نيكسون، كلب الست، احنا مين، دور ياكلام، بوتيكات، اناديكم، ياخواجة ويكا، بقرة حاحا وغيرها) أعطت لظاهرة الشيخ إمام واحمد فؤاد النجم حضوراً أكثر تحدياً وإشهاراً في مواجهة العديد من الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي بدأت تقترن بهموم الناس (الغلابة) الذين يبحثون عن عالم اكثر أمناً وإشباعاً، مثلما يبحثون عن وجه مصر الآخر، الوجه الذي عاشوا لياليه مع رومانسيات الغناء الأصيل، وتاريخ السينما المصرية، بخاصة في مرحلتها الواقعية والرومانسية ونماذج أبطالها المعروفين، وطراوة الغناء البليل الذي كرس رومانسيته الثانية اجيال جديدة من المطربين بدءاً من عبدالحليم حافظ ومحمد قنديل وكارم محمود وماهر العطار ومحرم فؤاد ونجاة الصغيرة وغيرهم، والتي وضعت هذا الثنائي أمام مرحلة جديدة تجاوزا فيها الاحتجاج السلبي الى نوع من الوعي الجديد لمواجهة الروح الانهزامية واظهار المشاعر الوطنية البسيطة.
(الأغنية الملتزمة)
تقترن ملامح هذه الاغنية الجديدة (الأغنية الملتزمة) مع بروز ظاهرة الوعي الاجتماعي بضرورة الالتزام بمعناه الاخلاقي ومعناه السياسي وحتى بمعناه الايديولوجي، والذي وضع دور الثنائي الشيخ إمام واحمد فؤاد النجم أمام توصيف آخر انطلق من طبيعة التغيير الذي استدعى النظر الى المغايرة في توصيف مواقف النخبة الثقافية إزاء مسؤولياتها في مواجهة ازمات السلطة واستبدادها السياسي والأمني وخنقها للحريات، وازمة استشراء مظاهر الفساد بكل مستوياته، مقابل استشراء مظاهر الفقر والحرمان والعشوائيات في المدن المصرية، فضلاً عن استشراء مشاعر الإحباط واليأس، والتي باتت تستدعي رؤية أخرى تنطلق من وعي المواجهة، والتصدي لاستحقاقاتها الثقافية والسياسية، والعمل على توظيف الأغنية السياسية الملتزمة في اثراء الخطاب الثقافي، بخاصة وأن تاريخ الأغنية المصرية هو جزء من تاريخ المجتمع المصري وتحولاته الاجتماعية والسياسية، وكان شاهداً على الكثير من ظواهرها السياسية بدءاً من عبده الحمولي وسيد درويش وصولاً الى ظاهرة الشيخ إمام.
اغنية (مصر يامه يابهية) كانت النموذج الواعي الذي تجسدت فيه هذه النقلة الاسلوبية والتطريبية، وكذلك تجليات المعنى الثقافي والإنساني للأغنية السياسية الملتزمة، والتي اثارت جدلاً حول دورها في التعبير عن رؤى ومعطيات جديدة، وعن مواقف اكثر جدّة تضع المثقف المصري في صلب الحراك والنضال الاجتماعي والسياسي، وتضع رؤيته لمفهوم الاحتجاج الاجتماعي في سياق تتفاعل فيه الرؤى السياسية مع المنظور الايديولوجي بخاصة ماكان يطرحه اليسار المصري من شعارات، والذي وجد في أغنية الشيخ إمام شفرات فاعلة للتعبير عن الكثير من اليافطات العالية التي تعبر عن الطموح بحياة حرة كريمة، مثلما تعبّر عن المواقف والأفكار وقيم الايمان بالحياة والوجود والهوية.
مصر يامة يابهية
يام طرحة وجلابية
الزمن شاب وانت شابة
هو رايح وانت جاية

هذا التحول في المواقف وفي توظيف الأغنية السياسية جعل الشيخ إمام يخضع الى رقابة السلطة الامنية واستجواباتها الكثيرة، إذ منع من الغناء في الإذاعة والتلفزيون، بتهمة أن أغانيه السياسية ذات توجهات معينة، وإنها تهاجم المسؤولين في السلطة المصرية، لذا زجّ به بالسجن عام 1969 واعتبر الشيخ إمام أول سجين سياسي بتهمة الغناء المناوئ للسلطة.
سجن الشيخ إمام أثار الكثير من الاحتجاج، ووضع ظاهرته الغنائية في سياق اكثر إثارة لطبيعة التحولات التي تعيش تعقيداتها النخبة المصرية قبل حرب اكتوبر عام 1970، إذ أن هذه التحولات التي شملت الأغنية والسينما والتشكيل والشعر والسرديات، انعكست أيضاً على كشف مساوئ السلطة التي بدت عاجزة عن مواجهة سلسلة من الأزمات الداخلية والخارجية، واحسب أن اغنية (جيفارا) تعبر عن إشكالية هذا الوعي المفارق، لأنها تتحدث عن الموت من زاوية أخرى، الموت الذي يمثل حياة خالدة لصاحبه دونما ضجيج، مقارنة بظاهرة الموت السياسي العربي الذي لايعدو أن يكون إلاّ ضجيجاً وصخباً، وكأنه يوظف الموت الفيزيقي لتغطية الموت القيمي والأخلاقي والسياسي، وجيفارا في هذا السياق بطل إنساني أخلاقي يدافع عن حق الشعوب بالحرية وقد قتلته الامبريالية في أحراش بوليفيا.
جيفارا مات
آخر خبر في الراديو هات
في الكنائس في الجوامع
في الحواري في الشوارع
جيفارا مات
لاطنطنة
ولاشنشنة
ولا اعلانات
جيفارا مات..

التغيرات العاصفة في تجربة الشيخ إمام الغنائية، تحولت الى تغايرات قارّة انعكست على ظاهرة الأغنية العربية، إذ أضحت ظاهرة شعبية وسياسية بالمعنى الإنساني لهذه الظاهرة، وخضعت في هذا السياق الى منظور تجاوز حساسية التعريف الفني الخالص، باتجاه تعريف يضع الأغنية كفعالية اجتماعية في عمق ماتؤديه من دور إنساني مؤثر، وأحسب أن هذا الدور هو الذي أسبغ على وظيفتها نزوعاً آخر، جعلها اشبه ماتكون بظاهرة الغناء السري الاحتجاجي المناهض للسلطة ورمزياتها، والتي فتحت أمامها آفاقاً واسعة مثيرة وصادمة، إذ منحته نجومية لايطمئن إليها وهو الضرير المهووس بفكرة (الحياة الخالصة)، مثلما عرضت علاقته مع رفيق دربه أحمد فؤاد النجم الى الانفصال الفني والإنساني، والتي استدعت الشيخ إمام ليغني قصائد شعراء آخرين أمثال (نجيب سرور، وتوفيق زياد، زين العابدين فؤاد، وآدم فتحي وغيرهم) والتي لم تخرجه عن السياق الاسلوبي اللحني إلاّ انها فقدت الكثير من نبضها الشعبي العميق الذي اقترن بروح النجم الواعية بشعبيتها واستغواراتها السرية لمكنونات الإنسان المصري البسيط.
الشيخ إمام الحاضر في الذاكرة تستعيده اليوميات المصرية الآن وهي تعيش أزمة وجودها المضطرب الذي يواجه صراعات كينونية محتدمة، وحرائق مكشوفة على أزمة السياسة والوجود، مقابل أزمات اكثر قسوة للإنسان والهوية والمكان، والتي تجعل الأغنية كصوت عالٍ تعبيراً عن قوة احتجاجات ذلك الإنسان المصري الحالم بالحرية والكرامة والخبز، والذي خرج الى الشارع مجدداً محتجاً حالماً باحثاً عن زمن وطني آخر، وأحسب أن هذا الصوت هو الذي يبحث في زوايا الذاكرة عن ايقاعات الشيخ إمام التي طالما صدحت لمصر(الأم البهية) بكل أغانيها التي لاتشيخ رغم كل السنوات العجاف، والتي تفتح ايقاع الاحتجاج القديم على استعادة قوة الحياة والجمال والأمل..