ملحمة انتفاضة معسكر الرشيد ضدَّ انقلابيي شباط في 3 / تموز 1963

ملحمة انتفاضة معسكر الرشيد ضدَّ انقلابيي شباط في 3 / تموز 1963

عادل حبة
لم يستكن الشيوعيون في القوات المسلحة على الضيم، ولم يهدأ لهم بال. وشرعوا بالتخطيط للقيام بحركة تطيح بانقلابيي 1963 الدموي. وسعى بدأب من تبقى من قيادة الحزب على قيد الحياة وهم الشهيد جمال الحيدري والشهيد محمد صالح العبلي، إلى تجميع الرفاق والمؤيدين. وقد وصلت اليها معلومات عن وجود مجموعة بقيادة محمد حبيب،

والذي يدعى أبو سلام وكان عضواً في الحزب، الذي بدأ بجمع العناصر المنقطعة عن التنظيم الحزبي. وقررت هذه المجموعة القيام بحركة داخل المدرسة المهنية العسكرية بالتعاون مع عناصر أخرى في معسكر الرشيد من صنف الدبابات، إضافة إلى مجموعة من المدنيين. وكانت هذه المجموعة تبحث عن من تبقى من قيادة الحزب. وهكذا وصلت أخبار المجموعة إلى القيادة.
وتزامن هذا التحرك مع قرار الانقلابيين بنقل الضباط المعتقلين الشيوعيين من معسكر الرشيد الى سجن نقرة السلمان، مما عجل ذلك بحركة حسن سريع، وذلك من أجل الاستفادة من الضباط الموجودين في سجن رقم (1). وهكذا بدأت الحركة في صباح يوم 3 تموز عام 1963 في معسكر الرشيد. وتم الاستيلاء على المعسكر، وحاصر المنتفضون معتقل سجن رقم (1) في معسكر الرشيد، والذي كان يضم أعداداً غفيرة من العسكريين الشيوعيين. إن قادة الحركة كانوا يعتقدون بأن إطلاق سراح الضباط يعد إجراءً مهماً لنجاح حركتهم.
تمكن المنتفضون من اعتقال الوزير البعثي حازم جواد والطيار منذر الونداوي وطالب شبيب وآخرين. وجن جنون حكومة عبد السلام عارف، وبدأ جلاوزة الحكم بتفتيش الطريق المؤدي الى معسكر الرشيد. ومع الاسف، تم العثور على أحد الجنود المكلفين بالاستيلاء على الإذاعة وقراءة البيان الأول، وهو برتبة رئيس عرفاء. وقد انهار هذا العنصر وحمل عبد السلام في دبابته التي كانت من المؤمل أن تتجه نحو الاذاعة. وبدلاً من ذلك توجه بعبد السلام عارف الى معسكر الرشيد مع رتل من الدبابات. وكان رئيس العرفاء على علم بكلمة السر، وأبلغ الانقلابيين بها مما سهل إعادة المعسكر تحت سيطرتهم واطلاق سراح المعتقلين من أركان الانقلاب. ولم يمس الثوريون أياً من المعتقلين بأي أذى، وهذه اخلاقيات الشيوعيين... فقد ابقوهم على قيد الاعتقال دون المبادرة إلى تصفيتهم. وفي أثناء المواجهة مع الانقلابيين، تفوّه الشهيد حسن سريع بكلمات بسيطة ولكننها تنطوي على بلاغة في التعبير وذات مغزى إنساني عميق. فقد أوصى رفاقه بأن"لا تقتلوا الأسرى، فسنقدمهم إلى المحاكمة». وعلى خلاف ذلك كان انقلابيو شباط الدموي يمعنون في تصفية المناضلين بدون محاكمة، وأغرقوا أرض وادي الرافدين بالدماء الطاهرة من العسكرين والمدنيين.
في أثناء محاكمته في المجلس العرفي العسكري، سأل رئيس المجلس الشهيد حسن سريع : كيف تتقلّد رتبة ملازم أول وأنت نائب عريف؟. فأجابه الشهيد....»وكيف يتقلد العقيد عبد السلام عارف رئيس الجمهورية آنذاك رتبة مشير وهو عقيد»!!. وجواباً على سؤال آخر أمام المحكمة الصورية قال الشهيد حسن سريع :»أنا المسؤول الأول عن الثورة ولم أرغم الآخرين على حمل السلاح،... إنهم أبرياء». وسأله رئيس المجلس العرفي....هل تريد أن تصبح رئيساً للجمهورية؟. فأجابه الشهيد:"ما أردت ولا أريد أن أكون رئيساً للجمهورية أو ضابطاً في الجيش، إنما أردت إسقاط حكومتكم....إن الحياة حلوة، ولكن الموت في سبيل الشعب أحلى». ولقد تم الحكم على العشرات من أبطال الانتفاضة بالموت ونفّذ الحكم بهم في نفس اليوم.
في أحد تلك الأيام، حين كنّا في مدينة براغ الجكسلوفاكية، جاء الرفاق الجيك وجلبوا بياناً موقعاً باسم"اللجنة المحلية في الكاظمية»، وأثار هذا البيان دهشتهم. وعبر أحدهم عن ذلك بالعبارة التالية"هذا اي حزب!!! ومن أي معدن جُبل، بيان صغير فيه تحدي للحكم باسم محلية الكاظمية». لقد أنعشنا هذا الخبر في وقته. وكان صدور هذا البيان في بداية تموز 1963، أي قبل اعتقال الرفاق جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وعبد الجبار وهبي وإعدامهم. وعند عودتي الى بغداد لاحقاً رحت ابحث عن مصدر البيان، الى أن عرفت أن احد الرفاق وهو الشهيد عبد الله من البصرة، كان منقولاً من البصرة الى بغداد. وفي اثناء انتقاله، حدث الانقلاب الأسود في 8 شباط من تلك السنة. وراح هذ الشخص يفكر حينذاك إلى اين يذهب وماذا يعمل. فقرر أن يقوم بإعداد دلو من اللبن ويبيع"الشنينة في سوق الكاظمية. فجمع قدراً من النقود، وهكذا استطاع أصدار البيان المذكور باسم محلية الكاظمية. هذا ما استطعت معرفته عن مصدر ذلك البيان، وهو خير مثال على قدرة وعظمة الشيوعيين في الاستمرارية في نشاطهم منذ تأسيس حزبهم، رغم كل تلك المأسي والضربات المتلاحقة والانتهاكات والقتل والتشريد الذي تعرض له الحزب الشيوعي. هذه هي نماذج من الجهد الذي بذله الشيوعيون لمواجهة الريح الصفراء.
كانت حركة حسن سريع خير شاهد على الطاقة الثورية التي تختزنها جماهير الشعب العراقي. كما إنها تشكل تحدياً شجاعاً ومظهراً من مظاهر البسالة في اقدام العراقيين ومعارضتهم لردة شباط 1963 ومجازرها الرهيبة. ولكن فشل الحركة يدل أيضاً على الأمور التالية:
أولاً: إنها حركة غير مخطط لها بشكل دقيق، ولذلك أدت الى نتيجة مغايرة للهدف الذي وضعته أمامها.
ثانيا: على الرغم من البطولة الاسطورية للقائمين بالحركة وشجاعة حسن سريع وتحديات جميع الرفاق، إلاّ أن الحركة جرت في وقت غير ملائم، أي بعد أن وجهت ضربات قاسية إلى الحزب الشيوعي الذي يعد القوة الاساسية لهذه الحركة في مواجهة الانقلابيين. إن نقطة الضعف في الحركة تكمن في عدم تمكن المنتفضون من تحريك قطاعات وقوى أخرى والجماهير في حينها لإسناد الحركة، رغم أن الحركة أثارت الرعب في صفوف الحكم. كما أن من تبقى من قيادة الحزب لم يستطيعوا المساهمة فيها بسبب عدم وجود صلة مع الحركة. وأدت الحركة إلى التسريع بالكشف عن من تبقى من قيادة الحزب، جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وعبد الجبار وهبي، واعدامهم.
ثالثاً: أخطأ المنتفضون في تركيزهم على سجن رقم واحد، لأنهم كانوا يحاولون وبأي ثمن أن يحرروا الضباط المعتقلين إدراكاً منهم إلى أنهم كانوا يفتقرون إلى الضباط والتنظيم. فلقد لعب الضباط في القوات المسلحة دوراً كبيراً في أية حركة تبعاً لتقاليد الأنضباط والتربية العسكرية السائدة في القوات المسلحة. وكانت الحركة تفتقر إلى قادة من الضباط من شأنهم التأثير في الوحدات العسكرية الأخرى.
رابعاً: العجلة في التحرك نحو الانتفاضه لعلم المنتفضين بنية سلطة الانقلاب بنقل الضباط الشيوعيين الموجودين في سجن رقم واحد وتسفيرهم الى سجن نقرة السلمان. وهذا ما لم يسمح للمنتفضين بتضبيط الأمور وتأمين قيادة للتحرك، والتوجه نحو استنهاض الجماهير وتحريكها للمساهمة في العملية. فالتلاحم بين الجماهير وبين المنتفضين له أهميته الخاصة وذلك لشلّ أي عمل مضاد للانقلابيين.
• "صفحة من مذكرات
الفقيد ثابت حبيب العاني"