قبل قانون إسقاط الجنسية عن اليهود..الحكومة العراقية والهجرة اليهودية في الحرب العالمية الثانية

قبل قانون إسقاط الجنسية عن اليهود..الحكومة العراقية والهجرة اليهودية في الحرب العالمية الثانية

صالح حسن عبد الله
اتخذت بعض الحكومات العراقية عدة اجراءات للحد من اتساع النشاط الصهيوني عموماً وتهجير اليهود الى فلسطين على نحو خاص، ولم تقتصر جهود هذه الحكومات في معارضتها لتهجير يهود العراق فحسب، بل حاولت أيضاً التعاون مع أطراف خارجية للحيلولة دون زيادة الهجرة اليهودية بشكل عام نحو فلسطين.

تمثلـت أولـى الخطـوات بهـذا الاتجـاه برفـض الحكومـة العراقيـة عام 1942 السمـاح لعـدد كبـير من المهاجرين اليهود القادمين من اوروبا الى ايران بالتوجه الى فلسطين مروراً بالعراق، كما رفضت الموافقة على نقل (500) طفل يهودي بولندي بنفس الطريقة على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها المفوضية الاميركية في بغداد.
رأت الولايات المتحدة الأميركية أن الدعاية (المحورية) التي أخذت تسود العراق هي السبب وراء إجراءات الحكومة وجاء ذلك على لسان (سمز ويلز Sumre Welis) وكيل وزارة الخارجية الأميركية (1933-1943) والذي يؤكد في هذا الصدد : ((… ولم يكن في العراق في السنوات الماضية أي شعور معادٍ للسامية وكان اليهود المقيمون هناك يعاملون بدون أي تمييز، ولم تثر أي صعوبة بسبب أي مشكلة عنصرية، لذلك فإن الموقف الذي اتخذته الحكومة مؤخراً سيكون تعقيداً جديداً في تقرير حالة فلسطين المستقبلية))، وهو يشير في ذلك الى منع الحكومة العراقية مرور 500 طفل يهودي عبر أراضيها الى فلسطين.
يبدو أن سمز تعمـد أن لا يفـرق بـين الصهيونيـة واليهوديـة بوصفـه اجراءات الحكومة بأنها معادية لليهود، ويفسر ما اقدمت عليه الحكومة العراقية انما هو محاولة منها للضغط على الحكومة الأميركية لاتخاذ موقف مساند للعرب في مواجهة المشكلة الصهيونية.
ساهمت الخلافات الحادة التي شهدتها هذه الفترة بين المنظمة الصهيونية المتمثلة بحركة (ليحي) والبريطانيين في ممارسة الأخيرين الضغط على الحكومة العراقية لمواجهة النشاط الصهيوني المتمثل بتهجير اليهود بشكل أساس، إذ عمدت المنظمة المذكورة الى القيام بعمليات ارهابية ضد البريطانيين في فلسطين وخارجها، وكان العراق احد الاقطار التي اتخذتها"ليحي"هدفاً لتنفيذ هذه العمليات تعبيراً عن معارضتها لسياسة بريطانيا بتحديد الهجرة الى فلسطين، بالمقابل أخذ اهتمام الولايات المتحدة يتزايد لسد نقص سحب الدعم البريطاني.
بدأت جهود السلطات العراقية تأتي ثمارها في السيطرة على محاولات التهجير من خلال تشديد مراقبتها، وجمعها المعلومات بهذا الخصوص، فأستطاعت القبض على مجموعات متفرقة بين الحين والآخر، وايداعهم السجن بأحكام طويلة. وخصوصاً المتعاونيين معهم من (المهربين) الذين ينتشرون على الحدود العراقية. وقد أثر ذلك سلباً في معنويات اقطاب الحركة الصهيونية التي بدأت تعاني من أزمة في نشاطها لبعض الوقت.
ومن الإجراءات الأخرى التي اتخذتها الحكومة العراقية في سعيها للحد من التهجير، بدأت وزارة الداخلية عام 1943 تطلب (200) دينار كتأمينات من اليهودي الراغب في الحصول على جواز لغرض السفر خارج العراق، على أن يسبق ذلك موافقة وزارة الداخلية والأمن العام، كما أن الجواز كان يشفع بعبارة (غير صالح للسفر الى فلسطين) للحيلولة دون توجههم اليها.
أما على الصعيد الخارجي، فقد بذلت الحكومة العراقية جهوداً واضحة للحد من الهجرة اليهودية الى فلسطين، فطلبت من الحكومتين السورية واللبنانية عدم الموافقة على منح سمات المرور للمهاجرين اليهود من تركيا عبر اراضي البلدين، وحثت مصر على التنسيق معاً للاحتجاج على السياستين الأميركية والبريطانية المؤيدتين للهجرة الصهيونية، كما اتصلت الخارجية العراقية في شباط 1943 بقنصلها في بومبي وطلبت منه الاتصال بالزعماء المسلمين ليرفعوا احتجاجاً على موقف (فرانكلين ديلانو روزفلت) المؤيد للصهيونية.
ارسل جميل المدفعي رئيس مجلس الأعيان حينذاك في السابع والعشرين من شباط 1944 برقية الى رئيس مجلس الشيوخ الأميركي (هنري ولدس) والسيناتور (واغنر) نائب نيويورك يعرب فيها عن معارضته الشديدة لسياسة الولايات المتحدة بهذا الاتجاه، ومما جاء فيها : ((اشعر بأنه من واجبي أن استرعي نظركم … أن زيادة عدد اليهود في فلسطين قد أصبح غاية سياسية وليست انسانية وذلك نظراً الى أمنية الصهيونيين التي صرحوا بها وهي الحصول في فلسطين على اكثرية يهودية عن طريق الهجرة بقصد تحويلها من بلد عربي الى وطن قومي يهودي … ارجو منكم أن تتذكروا بأن ما يؤثر على فلسطين يؤثر على العرب جميعهم اذ انه فضلاً عن أن فلسطين الآن يسكنها العرب فإنها أرض مقدسة لكل العرب من المسيحيين والمسلمين وهم يقدسونها لما لها من ذكريات وروابط دينية))
وضمن المسار ذاته بعث رئيس مجلس النواب حينذاك محمد رضا الشبيبي برقية مماثلة أكد فيها: ((.. إن اغراق القطر الفلسطيني بأولئك اللاجئين اليه من اليهود ما هو في الحقيقة إلا غاية سياسية وامنية من اماني الصهيونيين التي يسعون الى تحقيقها في تحويل ذلك القطر العربي الى وطن قومي عن طريق الهجرة … ومن القضايا المسلمة لدى الجميع إن فتح باب الهجرة الى فلسطين بدون قيد أو شرط لا يكون إلا على حساب العرب أبناء البلاد …)). ويبدو أن البرقيتين قد أرسلتا بتوجيه من الحكومة العراقية وهذا ما يظهر من مضمونهما. وعند زيارة الوصي عبد الإله في السادس والعشرين من أيار 1945 الولايات المتحدة، أوضح لرئيسها هاري ترومان قلق الشعب العربي من تزايد الهجرة الصهيونية الى فلسطين.
يتضح لنا أن الحكومة العراقية قد سعت خلال فترة الحرب العالمية الثانية الى اتخاذ بعض التدابير التي من شأنها أن تحد من الهجرة الصهيونية الى فلسطين. ويمكن الاستنتاج أن هذه الإجراءات تعود الى أمرين :
الأول : تزايد الضغط الشعبي المتمثل بالحملات الصحفية التي شنتها الصحف العراقية لمواجهة الخطر الصهيوني. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الصحف كانت لا تزال تفرق في مقالاتها بشكل واضح بين الصهيونية واليهودية وهذا ما اعترفت به تقارير المفوضية الأميركية.
ثانياً : تخفيف الضغط البريطاني على الحكومة العراقية في مواجهتها للخطر الصهيوني والتي ارادت من خلاله تحقيق غايتين:
*إظهار الولايات المتحدة بأنها تتعاون مع الحركة الصهيونية في حين أن بريطانيا تتعاون مع العرب
*تحسين صورة الحكومة العراقية امام الرأي العام العراقي والعربي التي تشوّهت بشكل كبير بعد انتفاضة مايس واحتلال البريطانيين العراق مرة اخرى.
لقد ساهم ضعف الحكومات العراقية بفسح المجال للنشاط الصهيوني في ممارسة نشاطه بحرية كبيرة، فبعد فشل انتفاضة مايس، خضع ساسة الحكم العائدون الى السلطة للهيمنة البريطانية بشكل مطلق، كما استغلت بريطانيا ظروف الحرب لتثبيت نفوذها السياسي والاقتصادي في العراق ومكافحة الروح الوطنية.
وكان ضعف الحكومات العراقية سبباً مباشراً في تعاظم توجيه بريطانيا لإدارة البلاد عن طريق عودة المستشارين البريطانيين الى الوزارات العراقية، وأسندت إليهم مناصب كثيرة ومؤثرة. وإذا ما علمنا أن هذه الفترة (1941-1945) كان نصيب نوري السعيد من الحكم منها مدة طويلة امتدت من التاسع من تشرين الأول 1941 حتى الثالث من حزيران 1944، صار العراق خلالها مرتعاً خصباً للدعايات البريطانية والأميركية بعد توافد بعثات البلدين على العراق بشكل مكثّف.

عن رسالة (تهجير يهود العراق 1941 – 1952)