محمد حديد: محمد حديد: هذا رأيي في حكومة ثورة 14 تموز 1958

محمد حديد: محمد حديد: هذا رأيي في حكومة ثورة 14 تموز 1958

لايمكن تقييم عهد عبد الكريم قاسم من دون أن نأخذ بالحسبان الظروف الخارجية التي واجهها، والتي شكّلت على الدوام تهديداً للاستقرار الداخلي ومصدراً للانقسامات الداخلية. على أن هذه الانقسامات متأصلة في التركيبة السكانية، نتيجة التباينات العرقية في الشمال، والانقسامات الطائفية في الوسط والجنوب، والتي تجسد الفروق الاجتماعية والطبقية، وكذلك الدينية، وكلها نابعة من جذور تأريخية جعلت من بناء دولة حديثة مهمة صعبة معقدة جداً. وكانت الضغوط الخارجية تستغل نقاط الضعف هذه في المجتمع العراقي.

لقد قامت كل القوى المعادية للتطور في فترة عبد الكريم قاسم، بمحاولات لعرقلة ذلك التطور، وكان من الطبيعي أن تواجه اية حكومة، مهما كانت طبيعتها، صعوبات كبيرة في تلك الفترة. غير أنه بالرغم من بعض نواقص نظامه ظل الرأي العام العراقي يعتبره اكثر قبولاً من الأنظمة اللاحقة له.
واعتقد جازماً أن التغيير الوزاري الذي كان عبد الكريم قاسم ينوي القيام به في أواخر عام 1962، لو اقترن بتغيير في النظام السياسي (بدءاً بسنّ دستور دائم واجراء انتخابات نيابية حرّة) تلقى قبولاً أكثر وتعاوناً اكبر، ومن ثم لتفادي الانقلاب الذي أطاحه.
مع ذلك، لا بد من الإجابة على التساؤلات المتعلقة أولاً بقيام ثورة 14 تموز، وثانياً بالتطورات التي حدثت منذ قيام الثورة. فبعد أن مرّت الأحداث التي تلت عهد عبد الكريم قاسم، كانت هناك تساؤلات كثيرة عمّا اذا كان قيام ثورة 14 تموز في مصلحة العراق. وكثيراً ما وجّه إليَّ سؤال عمّا اذا كنا على صواب في العمل على إنجاز الثورة.
ويتلخّص جوابي في أن ثورة 14 تموز كانت حتمية برغم مما وقع، ذلك أن حلف بغداد أصبح، في عهد نوري السعيد الأخير، هو الموجّه للسياسة العراقية العامة، وبسببه ألغيت اجازات جميع الأحزاب، وعطّلت صحفها، والصحف الأخرى غير الحزبية التي كانت تنتقد الحكومة. وحدّدت حرية الاجتماع والتظاهر، وأخذت هذه المظاهر تقمع بشدة. وبات النظام البرلماني شكلياً حينما ألغي المجلس الذي كان قد انتخب سنة 1954، ونجح فيه عدد قليل من النواب الحزبيين الذين دخلوا معركة الانتخابات باسم الجبهة الوطنية، وعدد مماثل من المعروفين بمعارضتهم للحكومة.
فغضب نوري السعيد من نتائج تلك الانتخابات، وذهب للإقامة في باريس مقاطعاً المؤسسة الحاكمة، فذهب الوصي عبد الإله لمصالحته والتفاهم معه، فاشترط لعودته حلّ ذلك المجلس، مع انه قد عقد اجتماعه ذلك قبل شهر واحد. وأجريت انتخابات جديدة قاطعتها الأحزاب وغيرها من المستقلين بسبب التدخلات المتوقعة فيها، فلم يفز إلّا مرشحو الحكومة بالتزكية، وبالأسلوب الذي سارت عليه الحكومة منذ قيام الدولة العراقية. وأبطل التقليد الذي كان يسمح بنجاح عدد ضئيل من النوّاب المعارضين، فأصبح المجلس النيابي شكلياً لا مهمة له.
ومعروف أن ثورة 14 تموز (يوليو) لو لم تقم، ونظراً للتذمر السائد في المجتمع، لكانت السلطة تولت القيام بانقلاب وقائي صوري ضد نوري السعيد والمؤسسة القائمة مع الاحتفاظ بالنظام الملكي. ولو وقع ذلك الانقلاب، وحال دون التغيير الأساسي المطلوب من ثورة حقيقية، لاستمرت السيطرة الاجنبية مع ما يرافقها من اغتصاب لحقوق البلاد وبقاء الأوضاع الدخلية على حالها تقريباً.
وإذا كانت تطورات الأمور، في العهد الجمهوري، لم تجر بحسب توقعات الاوساط المدنية والعسكرية، فإن ذلك يعزى الى عوامل وتعقيدات داخلية وعربية واجنبية، أشرنا، في فصول سابقة، الى بعض جوانبها، ولا نجد مجالاً للإسهاب في بحث تفاصيلها، خصوصاً أن مصادر مختلفة أشارت الى تلك العوامل والتعقيدات.
وفي التاريخ تعرضت الثورات التحريرية، من الثورة الفرنسية وما بعدها، الى مثل هذه النكسات التي عرقلت سيرها، ولكنها عادت، في النهاية، وحققت ما كانت تصبو إليه الشعوب من الحرية والرفاه.
والجدير ذكره، أن ما كتب، الى الآن، عن تلك التطورات لم يكن كلّه حيادياً ومتسماً بالموضوعية، أما لدوافع ذاتية، وأما بتوجيه من السلطة لتحريف التاريخ لمصلحتها، ولكن لابد من أن يقوم مؤرخون جادون، عبر بحث أكاديمي علمي، بتدوين تاريخ هذه الفترة المهمة.
ومما لاجدال فيه أن ثورة 14 تموز (يوليو) حققت، برغم الصعوبات والتعقيدات التي جابهتها، الكثير من المنجزات في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما يحدثنا عن تفاصيله سابقاً، ولكننا نعيد، في سياق هذا الحديث، ذكر ما هو رئيسي منها:
- التحرر من حلف بغداد الذي كان مسيطراً على سياسة البلاد العامة.
- الخروج من المنطقة الاسترلينية واستقلال العملة العراقية، واستقلال السيطرة على الشؤون النقدية في العراق من قبل وزارة المال والبنك المركزي.
- تشريع القانون رقم 80 الذي استعاد وحرر 99.% في المئة من الأراضي التي كانت مشمولة بامتيازات شركات النفط الاجنبية الاحتكارية المجحفة والغاصبة لحقوق العراق.
- تشريع قانون الجمعيات لتنظيم الأحزاب والجمعيات السياسية، واطلاق الحرية النسبية للصحافة.
- سن قانون الاصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية وتوزيع الأراضي على الفلاحين، فضلاً عن إقامة الجمعيات الفلاحية.
- إلغاء قانون العشائر وتعميم القانون المدني والجزائي على جميع القضايا.
- توسيع المؤسسات والخدمات الصحية كالمستشفيات والمستوصفات.
- الاعتراف بحقوق المرأة بحيث جرى للمرة الأولى تعيين وزيرة بشخص الدكتورة نزيهة الدليمي، واطلاق حرية التنظيم النسائي، واعطاء المرأة حقوقاً أكبر في الشؤون الزوجية. وقد لاقى القانون معارضة من القوى الرجعية، ولا سيما من علماء الدين، بسبب المساواة بين المرأة والرجل في الإرث، وقد ادعوا انها مخالفة لنصوص القرآن، ولهذه الاسباب لم يدم ذلك القانون طويلاً بل عدلت فقراته الاصلاحية حينما تولت الحكم عناصر رجعية بعد إطاحة حكم قاسم.
- تشجيع العمل على ممارسة حقوقهم النقابية والمهنية، فضلاً عن تشجيع الطلبة والشباب على اقامة اتحاداتهم ومنظماتهم.
- تشجيع المهنيين كالأطباء والمهندسين والمعلمين والمحامين.. إلخ على اقامة منظماتهم وممارسة حقوقهم، وتخصيص قطع اراضٍ مجانية لتشييد مقار لمنظماتهم.
- تحسين احوال الموظفين المدنيين والعسكريين، لا سيّما ضباط الصف والجنود، بزيادة رواتبهم، وتحسين القوانين الخاصة بخدمتهم.
- القيام بتشييد مجمّعات سكنية للعمال بدل مجمعات الصرائف وتحويل المجمعات السكنية الجديدة الى مدن مثل الثورة والشعلة. بدعم من المصارف المختصة.
- تخصيص أراضٍ للمهنيين لبناء مساكن لهم من خلال الجمعيات، وقد ظهرت احياء المهندسين والمعلمين والاطباء والمحامين في بغداد وغيرها من محافظات البلاد. كذلك قامت الجمعيات التعاونية لموظفي الدولة الآخرين في مجال القضاء والبلديات.. الخ ببناء مساكن للمنتسبين اليها.
- تأسيس وزارة للتخطيط ومجلس للتخطيط الذي أصبح، وإن حل محل مجلس الاعمار، مؤسسة حكومية تتولى القيام بالمشاريع العمرانية بصورة مستقلة وسليمة، خلافاً لما كان عليه مجلس الاعمار الذي كان تحت النفوذ الأجنبي.
- اختفاء الطائفية والتعصب الديني والقومي، وافساح المجال لكل المواطنين على اختلاف الطوائف والمذاهب والاديان والقوميات، بالدخول الى المدارس والكليات والوظائف، والحصول على مختلف فرص التعليم والعمل.
- تشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها، وزيادة الاستثمارات العمرانية، والنشاط التجاري، ومنح اجازات الاستيراد لأكبر عدد من التجار، فضلاً عن المقاولات، من دون تمييز في الفرص.
- وأهم من ذلك كلّه، في اعتقادي، قيام الثورة بتحطيم الحواجز التي كانت قائمة في زمن المؤسسة السياسية السابقة امام جميع طبقات الشعب بدون تمييز، وتحقيق التمتع بالفرص المتكافئة في جميع مراحل التعليم.
وتكوّنت لديّ القناعة التامة بأن عبد الكريم قاسم هو الأصلح لقيادة الثورة، نظراً لما وجدت لديه من ميول نحو الديمقراطية، والحياد في التعامل وتجنب الضغائن في العلاقات مع الاشخاص، والاعتدال والاتزان في الآراء والمناقشات، والابتعاد عن التهور في الأحاديث والمواقف التي كانت تطرح حول شتى المواضيع المهمة في ذلك الحين.
عن مذكرات محمد حديد
(الصراع من أجل الديمقراطية)