عبد الملك نوري وجيل التأسيس في القصِّة العراقية

عبد الملك نوري وجيل التأسيس في القصِّة العراقية

باسم عبد الحميد حمودي
في زمن هيمنة الشعر في العراق، يمكن القول إن القصة القصيرة نمت بشكل خجول ومتردد منذ بداية القرن الماضي. يعد شهر (تشرين الثاني) 1910 شهر الميلاد الأول للقصة العراقية القصيرة. وإن مصادرنا الأكيدة حتى الآن تقول إن أول قصة عراقية قصيرة نشرها رزوق عيسى تحت عنوان «فتاة بغداد"في العدد الأول من مجلته «خردلة العلوم"الصادر في (تشرين الأول) عام 1910،

وانه نشر في العدد الثاني من المجلة ذاتها، الذي صدر في (كانون الأول) من العام نفسه قصة «الأوهام"ليوسف رزق الله غنيمة.

بعدها توقف الكاتب القصصي عن نشر أي قصة قصيرة عامي 1911 ـ 1912، مما يعني أنه لم يكن يجد حماساً ذاتياً كافياً للنشر، أو أن عقبات اجتماعية وصحفية كانت تحول دون ابراز هذا اللون من الأدب ودفعه الى الظهور والانتشار كلون حديث من الكتابة، إذ نشر محمد فائق الكيلاني قصة «رؤية أدبية» في العدد الرابع من مجلة «لغة العرب» عام 1913، لينقطع النشر مرة أخرى في السنوات 1914 ـ 1918، حتى نشر عطا أمين قصته «كيف يرتقي العرب» عام 1919 في مجلة دار السلام، ثم نشر قصتين بعد ذلك في عام 1920، ونشر قصة واحدة في عام 1922، وأخرى في عام 1923، ليزداد عدد القصص المنشورة فيصبح أربع قصص في عام 1925، وسبع قصص في عام 1928 و11 عام 1929، ليتصاعد الى 21 عام 1937، ثم ينخفض الى 5 عام 1943، ولم يتخذ مسار القصة القصيرة في العراق نسقه في الاستمرار إلا عام 1947، حيث بلغ عدد القصص المنشورة 26 قصة، لتزداد كمية النشر بعد هذا وصولاً الى 78 قصة عام 1954، ثم 71 قصة عام 1957، ثم تنخفض كمية النشر بعد هذا بحيث تغدو 29 قصة عام 1960، وسبع قصص عام 1963، وقصة واحدة عام 1964، ثم يرتفع العدد المنشور بعد هذا في نسق متصاعد تجاوز المئات في عقدي السبعينيات والثمانينيات، بحيث غدت القصة القصيرة ظاهرة واضحة المعالم لها تياراتها الفنية ومناهجها السردية المتعددة.
أما بالنسبة للأسباب التي كانت وراء عدم اقبال القاص على نشر نتاجه، خصوصاً في العقود الأولى من القرن العشرين فكانت تتمثل في وجود هيمنة كاملة أدبية واجتماعية وسياسية لديوان الشعر العربي، ولقيمة الشاعر كمعبر حقيقي عن أحاسيس الناس، ولتطور فن المقالة السياسية الواضح التأثير على أيدي ابراهيم صالح شكر وفهمي المدرس ومعروف الرصافي وعبد الحسين الازري وغيرهم، ولوجود تأثير كبير للمقالة الأدبية الخالصة، واقبال القارئ على المترجم من الأدب الروائي والقصصي.
* وماذا عن الجانب الفني في هذه القصص؟
ـ القصة القصيرة كفن خلال سنوات التأسيس، التي استمرت أكثر من عقدين، ظل فيها السرد القصصي أقرب إلى الأدب المحكي، معتمداً المفارقة الحديثة أو الوصف الفوتوغرافي. فأعمال محمود أحمد السيد وعبد الحميد لطفي والخليلي وذي النون أيوب وسواهم كانت هائلة بهذه الصيغة في البناء، وكان محمود السيد ذاته يدرك تماماً عدم بلوغه وأقرانه القدرة للوصول الى درجة القص الفني الحديث. تلك الصورة التي تعتني برسم الشخصية من الداخل والاهتمام بكلية الوصف، وفضاء القصة، قدر اهتمامها بتحرك الابطال أو البطل الأساس، فعبد المجيد لطفي يعترف في العدد 385 من مجلة الهاتف الصادرة في 7 يوليو (تموز) 1944، وهو تاريخ متقدم نسبياً ـ أن قصصه وقصص ابناء جيله، تقع في هنات فنية مبعثها الإكثار من النشر دون توخي الجودة، وبشكل غير مدعوم من عناء الدرس والاستقصاء، ولعل كل هذه المثالب الفنية التي رافقت جيل التأسيس والجيل الذي تلاه، كان لها أن تقابل بتلك الثورة الفنية العارمة، التي قامت على أيدي رجال الريادة الفنية متمثلين بعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ونزار سليم ومحمد روزنامجي، الذين غدت القصة القصيرة لديهم مشروعاً حضارياً لا نتاجاً أدبياً فقط.
ـ لم يكن هؤلاء الكتّاب قد اتفقوا على كل تفاصيل انجازهم الى التجديد، فقد كان عبد الملك نوري يرى في كتابات صديقه نزار سليم مجموعة «فذلكات"مصنوعة، ومفارقات حكائية ظاهرة التكلف، وكان فؤاد التكرلي يسعى لكبح رغبة نوري الجامحة في التجديد بأي ثمن، فيكتب له رسالة بتاريخ 27/ 6 / 1951 يدعوه فيها الى الحذر من الجديد، إذ يقول «حذار من الجديد.. حذار من هذه الرغبة الممزقة لأجله.. انه سراب لمن ركض خلفه، وقد يجده من لا يعرفه، يجده في أحد جيوبه المهملة»، وهو بذلك لا يرفض التجديد في كتابة القصة القصيرة، بل الهوس من أجله.. ذلك الهوس الذي جعل عبد الملك نوري يقلب المائدة القصصية الموجودة، ويدعو الى رفضها، وقد ظهر ذلك واضحاً في مقالته «صور خاطفة من حياتنا الأدبية» التي نشرها في جريدة «أخبار الساعة» في 2 ابريل (نيسان) 1953، التي اعتبر فيها ذا النون أيوب فاقداً للحس الفني، وقصصه مجرد مقالات قصصية، واعتبر صديقه المجدد نزار سليم عاجزاً عن تمثل حيوات الآخرين، وبشر بنتاج مهدي عيسى الصقر، فيما جاءت مقالة فؤاد التكرلي حول دراسة الدكتور سهيل إدريس عن القصة العراقية، التي نشرها في الاعداد الأولى من مجلة «الآداب"رداً قاسياً لا على الدراسة والآراء التي فيها، بل على مجمل النتاج القصصي العراقي المنجز حتى عام 1953.
ـوقد كتب فؤاد التكرلي في مجلة «الاسبوع» العدد 20 السنة الأولى في 15 مارس (آذار) 1953 مقالة تحت عنوان «القصة العراقية والدكتور ادريس».. أجمل فيها ملاحظاته على الدراسة التي كتبها إدريس عن القصة العراقية وفن القصة، بالنقاط الآتية:
ـ لا يمكن أن نغفر للكتاب جهلهم الشنيع بأصول الفن القصصي ـ وهو يذكر السيد وأيوب ولطفي وعبد الحق فاضل والخليلي وعبد الرزاق الشيخ علي ـ ويقول «إن جل قصصهم تقارير يومية خالية من كل تقدير بسيط لفنية موضوعهم.. انهم لم يكونوا كتّاباً ولن يفتحوا طريقاً للقصة العراقية، ومن التعسف حقاً أن يبحث نتاج هؤلاء على مستوى واحد من نتاج المحاول الوحيد في أدبنا القصصي عبد الملك نوري».
وإذا أخذنا بالحسبان أن هذا الهجوم الجارح على النتاج القصصي العراقي المُنجز حتى عام 1953، قد تم على يد الشاب فؤاد التكرلي، وقد كان في عمر لا يتجاوز (26 عاماً)، أدركنا أن محاولة قتل الأب (الأوديبية) كانت تتم هنا على يد ممثل جيل آخر أكثر حماساً وأكثر قدرة فنية على التجديد، ولكن نظرة غير موضوعية كانت تشوب علاقة عبد الملك بفؤاد، المنحازة الى بعضها، في وقت لم يكن فيه نزار سليم وجماعته، جماعة «الوقت الضائع»، أقل انحيازاً لفنية القصة وضرورة التجديد، وان جيلاً من الكتّاب المجددين الذين يجدون في السرد القصصي الحديث ملاذاً هو الفيصل في الكتابة القصصية الجديدة الخارجة عن ظروف الحكي السردي العادي وجو الشخصية المسطحة ذات الحواف المستقيمة «رديء، جيد، بدين، أسمر، ثري، فقير..."تلك التي كانت لعبة القصة العراقية القصيرة لسنوات طويلة قبل أن تتدخل اقلام مهدي عيسى الصقر ومحمد روزنامجي وقبلهما يوسف متّى، لتكتب قصة حديثة تعتني بالشخصية وبظروف الانتاج، وبوعي القاص لأهمية البناء الداخلي للقصة، وعدم تسطيح الشخصية، وترك تلك الاستطرادات المخلة بالسرد التي تحول القصة الى حكاية عادية، مع اعتناء كامل بالذروة والتبشير ووجهة النظر، وصولاً الى الخاتمة الفنية التي قد تكون مفتوحة أو تنتهي بحدث ما.