أحمد مطلوب في كتابه: رفيقة عمري.. ردّ الجميل إلى حواء

أحمد مطلوب في كتابه: رفيقة عمري.. ردّ الجميل إلى حواء

فاضل عبود التميمي
نادراً ما تكتب المرأة المثقّفة عن زوجها في المجتمع الشرقي، فالكثيرات يحجمن عن ذلك لأسباب تتعلّق بالخوف من مجانبة الموضوعيّة، أو الابتعاد عن تهمة الانحياز إلى الزوج بوصفه مشاركاً فاعلاً في الحياة، لا سيّما حين يكون على قدر عال من الأهميّة الأدبيّة، أو الاجتماعيّة، أو العلميّة، ومنهّن من تصرف النظر عن هذه المهمّة بدوافع نفسيّة مختلفة،

والواقع يشير بقوّة إلى نساء كَتَبْنَ عن أزواجهنّ كتباً مهمّة، فقد قُدّر لي أنْ أقرأ لـ(سوزان طه حسين) التي كتبت: (معك) عن تجربتها الحيّة مع عميد الأدب العربي زوجها (طه حسين) قد تكون هذه المرأة استثناء؛ لأنّها فرنسيّة الأصل، لكنّها – والحق يقال- تطبّعت بطباع الشرق وعاداته، وصارت أمّاً مصريّة بامتياز، من النساء اللائي كتبن عن سيرة أزواجهنّ: (عبلة الرويني) التي كتبت سيرة زوجها الشاعر(أمل دنقل) في كتابها: (الجنوبي)، ثمّ (غادة السمّان) التي كتبت:(بشير الداعوق كأنّه الوداع) وفيه تحدّثت أول مرّة عن حياتها الزوجية، وعشقها لزوجها الراحل الذي رافقته أربعين عاماً كانت بالنسبة لها تأريخاً شخصيّاً لا ينسى.

أمّا في العراق فإنّ د. خديجة الحديثي قد أخذت على عاتقها مسؤوليّة الكتابة عن زوجها:(د.أحمد مطلوب) حين أصدرت كتابها الأخير:(رفيق عمري في كتابات الآخرين)، ويبدو لي أنّ الأزواج المثقفين يحجمون عن الكتابة عن زوجاتهم لأسباب كثيرة يقف في أوّلها الخجل المتوارث الذي جعل الحديث عن الزوجة يدخل في باب الحياء الموروث الذي تدحضه قامات النساء السامقات، وهنّ يمارسن وجودهن الفاعل في الحياة عاملات، و عالمات، وأمّهات يشار إليهنّ بالبنان.

ردّ جميل
وربّما كان الدكتور أحمد مطلوب، ومن باب ردّ الجميل إلى زوجته التي ابتدأت الكتابة عنه بوصفه شريكاً لعمرها، قد خاض تجربة الكتابة عن زوجته د. خديجة الحديثي ليصنّف كتاباً استذكاريّاً عنها، وهي لمّا تزل على قيد الحياة تعطي أكثر ممّا تأخذ في كتابه الموسوم بـ(رفيقة عمري) الصادر عن المطبعة المركزيّة في جامعة ديالى 2015 وقد جعله أستاذ الأجيال متناً يمور بما يشتهي القارئ المحبّ لشخصيّة خديجة الحديثي التي أجزم أنّ تأريخها ينبض بالبياض، والحبّ النقيّ لمن كان معها زميلاً، أو طالباً، أو جاراً، أو قريباً، أو بعيداً، فقد جُبلت هذه المرأة العراقيّة الراقية، والرقيقة على طبع الأمّهات الرابضات في منابع الطيبة، والحنان، فضلاً عن أنّ الله سبحانه – وهذا من حسن حظّها- حباها علماً ومعرفة، وتسامحاً، وخصالاً يندر أنْ تجتمع كلّها في عقل امرأة تعيش في عصر متقلّب الأهواء، والولاءات.
كتب د. مطلوب مسترجعاً صورتها الأولى قائلاً: (كان من بين نساء العراق فتاةٌ وُلدت في قرية جنوب البصرة، وتلقّت تعليمها في البيت لا متوسطة، ولا ثانوية في قريتها ودخلت في عام 1952م كليّة الآداب والعلوم) ص3، وقال واصفاً إيّاها بعبارات ميسورة استمدت دلالاتها من تواضعها الجم في الجامعة، وفي بيتها أيضاً:(ولم أرها يوماً تشكو من تعب، أو تردّ من يسعى إليها لتعينه) ص 5، وكان صيتها ملء الأسماع في العراق، وخارجه انتدبت للتدريس في جامعة الكويت، وألقت محاضرات في جامعة وهران بالجزائر، ودعيت إلى المؤتمرات العالميّة، فمثّلت العراق في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في إندونيسيا سنة 1965م، وحضرت المؤتمرات العلميّة في العراق، والأردن، وقدّمت فيها البحوث، وترأست اللجان وكانت في جميعها مثالاً يحتذى للمرأة المتعدّدة المهام، فضلاً عن أنّها كُرّمت عدّة مرات لتميّزها. لقد عُرفت الدكتورة بتواضعها المميّز، تواضع العلماء الذين يرون في ما وصلوا إليه بداية الانطلاق نحو العلم، وكأنّهم في أوّل الطريق، حدّثني يوماً زميلي وقريبي الشهيد د. كريم أحمد جواد التميمي -رحمه الله –، وهو من طلابها النابهين، والمقربين إلى قلبها وعقلها عن تواضعها قائلاً: كانت أستاذتنا تدرّسنا في إحدى مراحل البكالوريوس في آداب بغداد، وكانت تملأ بخط يدها سبورة القاعة شرحاً وتعليقاً على شواهد النحو أملاً في تقريب المادّة إلى الأذهان، وكانت كلّما امتلأت السبورة عمدت إلى تنظيفها بيدها الكريمة مرات وليس مرة واحدة، وهي في عمرها الجليل من دون أن تنتدب طالباً، أو طالبة للمهمّة، كما يفعل قسمٌ من أساتذتنا، ما قاله التميمي جزء يسير يكشف شغف الدكتورة بالدرس الجامعي، وتعلّقها بأساسيّات المهنة، وتقاليدها، ليحيل على سجاياها، وخصالها التي يعرفها الجميع. بُني الكتاب الذي جاء بأربعمئة وخمس وخمسين صفحة على (ثلاثة وثمانين) نصّاً، لم أسمّها فصولاً بل سميّتها (نصوصاً) لاختلافها في مضمونها الدلالي بين نصّ سيرة، وقصائد، ومقالات، ومقابلات، ووثائق، على وفق الآتي:
السيرة: في نصوص السيرة أدخل د. مطلوب في متن الكتاب سيرتين الأولى: السيرة العلميّة التي تتبّع فيها المصنّف الحديثيّة بدءاً من تحصيلها الدراسي والعلمي وصولاً إلى إشرافها على رسائل الماجستير و أطاريح الدكتوراه، وانتهاءً بالجوائز التي حصلت عليها، والكتب المؤلّفة التي بلغت إثني عشر كتاباً في النحو، والصرف والمدارس النحويّة، وتيسير النحو، والكتب المحقّقة التي بلغت عشرة كتب، والكتب المدرسيّة التي ألّفت فيها كتابين، والبحوث التي بلغت إثني عشر بحثاً، والمواد الموسوعيّة التي بلغت خمس عشرة مادة. أمّا السيرة الأخرى التي كتبها أستاذنا مطلوب فسيرتها الحياتيّة التي تتبّع فيها حياتها بدءاً من الولادة في (السيبة) جنوب البصرة، حتى إقامتها في بغداد أطال الله في عمرها، وهي ما اصطُلح عليها نقديّاً بـ(السيرة الغيريّة) التي يكتبها أديب عن سيرة غيره، وقد لفت انتباهي فيها أنّ د. مطلوب استبدل اسم (خديجة) بـ(وفاء)، ولعلّ ذلك يردّ إلى أنّه وجد في لفظة (وفاء) ما يقارب حقيقة المرأة التي أخلصت له، ولبيته فكانت وفاء في وفاء.
وسيرة الأستاذة خديجة حافلة بالإشارات إلى الأمكنة التي صارت جزءاً من عالمها، فـ(السيبة) قرية لا شارع فيها سوى ذلك الذي يربطها بـ(الفاو)،وقد دخلت كليّة الآداب (على استحياء ونظراتها معقودة على الأرض، وخطواتها متعثرة، حتى إذا ما بدأ الدرس الأول وَجَدَتْ نفسها بين سبعة طلاب، وثلاث بنات طالبات فاطمأنت قليلاً) ص20? فكانت خطوبتها بعد عامين من تعارفهما على مقاعد الدرس الجامعي، ثمّ الزواج والعمل في الإعداديّة المركزيّة ببغداد، وهو معيدٌ في كليّة الآداب، ثم السفر إلى القاهرة للدراسة، والعودة الى بغداد، والعمل في الكويت، والرجوع إلى بغداد التي لم يفارقاها بعد ذلك.
القصائد: وهي مجموعة من القصائد التي كتبها د. أحمد،و كانت د. الحديثي موضوعاً قويّا ًفيها، منها قصيدة:(ستّون) التي كتبها بمناسبة مرور ستّين عاماً على زواجه منها، وقد قسّمها الشاعر على مجموعة أقسام كلّ قسم يتحدث عن رؤية معينة، فالاستهلال الذي كتبه شعراً عموديّاً كان مقدمة للاحتفاء بالمناسبة، تلاه (اللقاء) الذي وقف من خلاله الشاعر عند أوّل لقاء كان بينهما، و(الطفولة) الذي تحدث فيه عن بواكير حياته في تكريت، و (بعد اللقاء)، و (الاعتقال)، و(الإبحار)، و(المناجاة)، و(القرار)، و(عند الوداع)، القصيدة كتبت في العام 1957 بنفس قصصي سلس عبّر فيه الشاعر عن تجربة حياتيّة بطلاها هما معاً، فضلاً عن قصائد أخرى كتبت في د. الحديثي منها: حبيبتي، وطيف، وأطياف، وحبيبتي، وعشرون، ووطن وزهرة، و زهرتي، القصائد جميعها التي كُتبت في الدكتورة إمّا على وفق الشكل التفعيلي المعروف، أو العمودي الموروث جامعها المشترك: خديجة الحديثي بما تملك من مزايا جميلة أهّلتها لأن تكون زوجة، وأمّاً، وأستاذة أجيال، يقول في قصيدة (طفولة) مستذكراً مكانه الأول والخطاب لها:

حبيبتي (تكريت) كانت مرتعي الجميل
وكنت طفلاً لا أعي حوادث الزمن
لكنّ أمي وأبي قالا وفي عيونهم أحزان
قد كان فيها العيش مرّا يصرع الإنسان… ص31.

طبيعة القصائد
وقد بيّن الدكتور المصنّف طبيعة هذه القصائد حين قال:(لكلّ قصيدة زمن وموقف فقصيدة (عند الوداع) صورة لموقف من الفراق جديد، أي بعد خروجي من المعتقل ورحيلي الى (كركوك) لا برغبة ولكن بما اقتضته ظروف من تُفكّ عنه القيود، ومثّلت العراق – يعني د. خديجة – في (المؤتمر الإسلامي بإندونيسيا) فكانت قصيدة (طيف)، ومثلها (أطياف)، و(عشرون)، و(وطن وزهوره)، وفي سنة 2004 تَوَجَّهَتْ إلى (مكّة المكرّمة) لأداء فريضة الحج فكانت (زهرتي)، وكان ما أصبت به من مرض وحي (سلافة حب)، و(زهرة المنى)، وكانت هذه القصيدة تعبيراً عن صدق المسيرة التي قطعناها خلال عشرات السنين) ص6، يقول في قصيدة (الإبحار)، والخطاب لمّا يزل موجّهاً إليها:

حبيبتي سِرْنا وسارتْ معنا قوافلُ الأعوام
تحمُلُنا، نحمُلُها حبّا وما زلَّت بنا الأقدام نقذفُها، تقذفُنا في لجّة التيار
وانطلقَ البحّار
في قلبه عزيمةُ الأحرار
وصرخةُ الثوار…ص38.