نصف حياة نايبول: إشكالية العلاقة بين روحانية الشرق وبراغماتية الغرب

نصف حياة نايبول: إشكالية العلاقة بين روحانية الشرق وبراغماتية الغرب

إبراهيم حاج عبدي
يمكن تصنيف رواية"نصف حياة"للروائي الفائز بجائزة نوبل الآداب 2001 ف.س نايبول والصادرة في ترجمة عربية وقعها عابد إسماعيل عن"دار المدى"(دمشق ـ 2001) ضمن تلك الروايات التي تطرقت إلى قراءة العلاقة الإشكالية بين الشرق بروحانيته وسحره وطقوسه الغريبة من جهة، والغرب بماديته ووضوحه وبراغماتيته من جهة أخرى،

لكن هذه الثنائية التي طالما قاربتها النصوص الروائية لا تشكل الهاجس الرئيس لهذه الرواية، فهي رواية أمكنة، وشخصيات وحالات أقرب إلى"أدب الرحلات"تحاول رسم صورة لشخصية نهلت من ثقافات عدة، وتنتمي لأسرة جعلته يعيش مشاعر متضاربة تنزع نحو"قتل الأب"و"حتى الحب الذي شعر به تجاه والدته كان مملوءاً بالألم".
فنحن حيال بطل يحاول التخلص من إرثه الثقيل، ويبحث عن صوته الخاص وسط صخب الأمكنة التي عاش فيها والتي منحته"نصف حياة"في كل محطة. إنه ويلي تشاندران صاحب الطموح والأحلام، لكنه لا يستطيع أن يصوغ أمنية بعينها"فالحياة تنصب له شراكها القاسية"، ولا تترك له فسحة واعية لأن يسأل نفسه عما حققه، وإلام يهدف؟ الأقدار تقود خطوته، وهو مستسلم من دون تذمر للإصغاء إلى ما تمليه عليه نوائب الدهر ومباهج اللحظات العابرة.
رواية"نصف حياة"، تقدم سيرة ويلي تشاندران، فتسرد في القسم الأول طفولته، حيث يقوم والده هنا بدور الراوي على إثر سؤال وجهه له الابن حول سبب اسمه الأوسط"سومرست"وهو كاسم الكاتب الإنكليزي"سومرست موم"، يفتح هذا السؤال شهية الوالد الذي راح يروي لابنه ويلي حكايات الطفولة وأيام الشقاء وشعوره بالاضطهاد"بسبب فراغ عالمنا وخنوع حياتنا". وذكّر الابن بما كتبه عنه سومرست موم بعد زيارة قام بها الأخير إلى بلادهم الهند، وكيف أنه استجاب لنداء المهاتما، وأضرم النار في أشعار شللي، وكيتس، وووردزورث مقاطعاً الثقافة الإنكليزية، ومقرراً أن يجعل من نفسه أضحية، وعزمه على الزواج من أدنى امرأة يمكنه العثور عليها، وهي"فتاة المنحة"التي ستصبح والدة ويلي.
وحين يروي الوالد كل ذلك يصف مشاعره آنذاك:"كنت مثل طفل يرى السماء معكوسة في بركة بعد المطر، وسمحت لقدمي أن تلمس البركة، راغباً في أن أشعر بالخوف حيث أنا آمن، وعلى أثر تلك الملامسة ارتدت علي البركة فيضاناً كاسحاً يجرفني سيله الآن... ولم يعد العالم مكاناً عادياً مملاً.. بل مكاناً تجري فيه سيول سرية يمكنها في أي لحظة أن تجرف معها الغفل".
إن القناعات التي آمن بها الأب، وحياة التضحية التي عاشها لا تستهويان ويلي الذي يبحث عن مخرج من هذه المتاهة، فيرسله والده بمساعدة صديق له إلى لندن، وهنا تبدأ ملامح حياة أخرى بالتشكّل، فنقرأ كلمات الراوي المجهول، بضمير الغائب، وهو يروي فصولاً من حياة ويلي في هذه المدينة التي شعر فيها بأنه"يسبح في الجهل وبدأ ويلي يدرك أنه حر في تقديم نفسه بالطريقة التي يرغب". إن مدينة لندن التي قدم إليها ويلي في النصف الثاني من القرن العشرين لا تشبه مطلقاً تلك البلاد التي غادرها، فهو يجد هنا ثقافة مختلفة، وشخصيات جديدة، ويقيم علاقات صداقة مع زملاء في الكلية، ومحامين وناشرين ويتأقلم مع هذا المناخ الجديد المنفتح على أكثر من صعيد والذي يتيح له إقامة علاقات عاطفية ـ جنسية مع الفتيات هو القادم من بيئة تنظر إلى مثل هذه العلاقات على أنها خطيئة.
إن ما يؤرق ويلي في لندن هو السؤال الذي يلح عليه، إلى أين سيمضي بعد أن ينهي دراسته؟ وهنا تظهر في حياته الفتاة الأفريقية المنحدرة من أصول برتغالية آنا التي أعجبت بقصصه، فيقرر ويلي الذهاب معها إلى بلدها الأفريقي البعيد لتكون أفريقيا، هي المحطة الثالثة في حياته، والتي حين وصل إليها راعته غرابة المكان وقسوته، فقال:"لا أريد لهذا المنظر أن يصبح مألوفاً، يجب ألا أتصرف وكأنني سأمكث هنا"لكنه مكث في هذا المكان مدة ثمانية عشر عاماً، حيث يقوم ويلي بسرد هذه الحياة الأفريقية بضمير المتكلم لشقيقته ساروجيني في برلين، حيث تزوجت من ألماني في القسم الثالث والأخير من الرواية، فهو يفتش الآن في ذاكرته ليلتقط شذرات من حكايات عاشها في ذلك البلد الأفريقي، بلد زوجته آنا، الذي كان يسوده المناخ الكولونيالي وتعيش فيه شخصيات غريبة، متمردة، تبحث عن أمجاد دفنت تحت رمال تلك البلاد التي خَبِرها ويلي طويلاً واستطاع أن يُعيد تفاصيل حياته في الأرياف والمزارع والحانات الليلية، وأن يرصد حياة الأفارقة بعنفوانها ونزقها وقسوتها، من دون أن ينسى خصوصية المكان بنباتاته ومناخه ومفرداته التي شكّلت له عالماً غاب فيه فترة طويلة ليقرر ترك زوجته في النهاية والبحث عن مكان يحتضن ويلي الفرد الذي تلاشت حياته في حيوات الآخرين.
يبتعد نايبول في روايته هذه عن الإنشاء والتطويل، ولا يجنح مع المخيلة، بل إن لغته وعوالمه شديدة الالتصاق بالواقع، وهو يختار جملته في تكثيف ودقة محاولاً تدويل الشيء الرئيس في ملامح الشخصيات، وتفاصيل الأمكنة، وهو رصين في سبر نفسية بطله ويلي، الذي يحاكي في هذه الرواية سيرة الروائي ف.س نايبول نفسه الذي ولد في ترينيداد عام 1932 ونال جوائز عدة إثر مجموعة من الكتابات النقدية والروايات منها:"بيت للسيد بيسواس"(1961)،"في بلد آخر"(1971)،"منعطف النهر"(1979). ولعل مما يلفت النظر في الرواية التي نحن بصددها هي تلك التقنية الفنية التي يسند فيها نايبول مهمة القص إلى أكثر من راوٍ وكأنه يستشهد بأكثر من صوت حتى يستطيع تقديم الصورة الكاملة لويلي تشاندران.
عن/ الحياة