عندما كتب جان بول سارتر عن ناتالي ساروت

عندما كتب جان بول سارتر عن ناتالي ساروت

عبد الباقي يوسـف
استطاعت الرواية أن تستقطب مختلف شرائح الناس، كما استطاعت أن تستقطب كبار الشخصيات الفكرية والفلسفية، ذلك أن الرواية مُتاحٌ لها أن تصوّر العالم الداخلي للإنسان، فتتحوّل بذلك إلى مرآة تعكس خفايا وخلجات هذا الإنسان. عندما قرأ الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر رواية (صورة لمجهول) لناتالي ساروت، وضع لهذه الرواية مقدّمة تحليلية تعين القارئ على تلقي هذا العمل الروائي الذي أبدعته ساروت.

يقول سارتر في مقدّمته التي كتبها سنة 1847 :
يبدو أن ناتالي ساروت تميّز ما بين ثلاثة أفلاك من العمومية: فلك الطبع، فلك المكان العام الأخلاقي، فلك الفن، وبالدقة فلك الرواية. فإذا جعلت من نفسي ذلك الشخص الخير الفض، كما هو عليه الأب في"صورة لمجهول"أكون ضمن الفلك الأول؛ لكن إذا ما صرحت، حينما يرفض أب إعطاء بنته نقوداً، مثلاً:"أليس من التعاسة أن يرى المرء ذلك؛ ثم يأتيك أحدهم ليقول بأنه لا يملك شيئاً في العالم سواها... آه، ولا يأخذها معه"، فأني أضع نفسي في الفلك الثاني، فيما سأكون ضمن النطاق الثالث إذا ما قلت عن فتاة بأنها"تنغارا"Tanagra، وعن مشهد طبيعي بأن ذلك هو"كوروت"Corot، وعن قصة عائلية بأنها قصة بلزاكية.

المنطقة المحايدة
يتناول سارتر حيثيات هذا العمل الروائي ليقدّمه إلى القارئ، فيقول: سيصدقني ويفهمني أولئك الذين يعرفون جيداً هذه الميادين، وحينما يتبنون موقفي، حكمي وطريقتي بالفهم، يكونوا قد منحوها خاصية مقدسة. فلأني أصبحت موضع طمأنينة للآخرين، ولنفسي أيضاً، بلجوئي إلى تلك المنطقة المحايدة والعامة والتي هي ليست بالدقة الموضوعي، طالما أني دخلتها بمرسوم، ولا هي بالذاتي أيضاً، مادام بإمكان الجميع أن يصلني فيها ويتعرف على نفسه من خلالها، لذا قد يكون بمقدورنا تسميتها في آن معاً بذاتية الموضوعي وموضوعية الذاتي. فمادمت أتظاهر بأني لست سوى هذا، ولأني أرفض أن تكون لي مناطقي الخاصة، يُسمح لي، على هذا الصعيد، أن أثرثر، أتحرك، أسخط، أكشف عن"طبعي"وحتى في أن أكون"أصيلاً"، أي أني أضم الأماكن العامة بطريقة غريبة لنفسي : هناك، في الحقيقة،"تناقضات عامة". وعلى أية حال، سيتركون لي فرصة أن أكون ذاتياً ضمن حدود الموضوعية. وكلما أصبحت ذاتياً ضمن تلك الحدود الضيقة، كلما أولوني اهتماماً أكبر : أكشف عن هذا الطريق بأن الذاتي هو لا شيء، ومن ثم لا ينبغي التخوف منه.
في عملها الأول، "انتحاءات" Tropismes، كانت ناتالي ساروت قد أظهرت لنا سلفاً كيف أن النساء يمضين حياتهن في مشاركة العام ذاك : كن يتحدثن :"كانت بينهم مشاهد تثير الشفقة، عراك من أجل لا شيء. يجب عليَّ القول بأني أشفق عليه هو في نهاية المطاف. كم؟ لكن في الأقل مليونين. إذ لا شيء سوى ما ورثته العمة"جوزفين"... كلا... ما الذي تشاؤه؟ أنه لن يتزوجها. أنه بحاجة إلى امرأة تظل في الداخل، لكنه لا ينتبه هو نفسه لهذا. لكن كلا، كما قلت لكم. أنه بحاجة إلى امرأة تبقى في الداخل... في الداخل... في الداخل..."لقد قالوا لهم ذلك دائماً من قبل. وهن قد سمعنا هذا يُقال لهن دائماً، وكن يعرفن ذلك : العواطف، الحب، الحياة، ذلك هو ميدانهن الخاص. أنه ينتمي لهن".
هناك الهروب داخل المواد التي تعكس بهدوء الكوني والدائم، الهروب في الانشغالات اليومية، والهروب ضمن ما هو بائس. لا أعرف صفحات أكثر إثارة من تلك التي تُظهر"العجوز"الذي يهرب في اللحظة الأخيرة من قلقه حيال الموت، وذلك برمي نفسه، بقدميه العاريتين وقميصه، في المطبخ ليتحقق إذا ما كنت أبنته قد سرقت منه الصابون.
المرأة وأدبها
لقد ركّز سارتر على كيفية قيام المرأة بتقديم صورة عن سيكولوجية الأنثى بشكل عام، وبالتالي مفهومها للعديد من مقومات الحياة التي تختلف عن مفهوم الرجل، وبذلك تحقق المرأة خصوصيتها كأنثى، وتحقق كذلك غنى لمنظومة المعرفة البشرية.

يقول سارتر:
تتمتع ناتالي ساروت برؤية جِبلُيةً لكوننا الداخلي: لترفعوا صخرة المكان العام، وستجدون تحتها السكب، الزبد، المخاط، الحركات المترددة، والأشياء المتمورة. كذلك فإن لغتها من الثراء الذي لا يمكن مقارنته لكي توحي لنا بذلك الدبيب الهارب من المركز للإكسيرات اللزجة والحية"وكأنها نوع من الزبد اللاصق، كانت أفكارهم قد أنسلت فيه، التصقت به، وملأته داخلياً" "الانتحاءات ص 11". وإليكم المرأة-الفتاة الخالصة"صامتة تحت ضوء المصباح، وكأنها نبتة هشة وناعمة تحت بحرية مكتظة بالمحاجم المتحركة"(نفس المصدر ص 50). ما تتلمسه تلك الهروبات، المخجلة، التي لا تجرأ على الكشف عن اسمها، هو أيضاً العلاقات بالآخرين. وهكذا فإن النقاش المقدس، التبادل الطقوسي للعموميات، يُخفي"نقاش تحتي"(sous-conversation) تتلامس فيه المحاجم، يلحس واحدها الآخر، ويمصه".
ثمّة أولاً الشعور بعدم الراحة: إذا ما شككت بأنك ليس ببساطة وكلية ذلك الشيء العام الذي تدعيه، فسوف تستفيق جميع أشباحي الرخوة؛ وسيتملكني الخوف:"كانت متكورة في زاوية من الكرسي، وهي تبرم رقبتها المشدودة، وعيناها ناتئتان:"نعم، نعم، نعم"، قالت، وهي تؤكد على كلمة من جملتها بهزة من رأسها. كانت مفزعةُ، رقيقة ومسطحة، ناعمة تماماً، وعيناها وحدهما كانتا بارزتين. كان فيها شيء مُقلق، محير وكانت رقتها مُهددة. كانت تشعر بأنه ينبغي عليها بأي ثمن إعادتها إلى مكانها، تهدئتها، لكن لا يمكن لأحد القيام بذلك ما لم يكن يتمتع بقوة فوق طبيعية... كان خائفاً، كان على وشك الجنون، وما كان عليه تضييع أية لحظة لكي يفكر، حتى يتأمل. شرع بالكلام، بالكلام دون توقف، بقول أي شيء، كل ما يخطر بباله، ثم صار يتلوى (كما تتلوى الأفعى أمام الموسيقى؟ كالعصافير أمام ثعبان صل؟ ما عاد يعرف)، بسرعة، بعجلة، دون أن يتوقف، دون تضييع لحظة، بسرعة، بعجل، قبل فوات الأوان، للسيطرة عليها، لتملقها"(نفس المصدر، ص 35). تزدحم كتب ناتالي ساروت بأشكال الرعب هذه : يتكلم أحدهم، ومن ثم سينفجر شيء ما، ليضيء فجأة العمق المُتعفن للروح وسيشعر كل واحد بوحل حركات روحه. لكن كلا: لقد تمّ إبعاد مصدر التهديد، وجرى تفادي الخطر، ومن ثم شرعوا بهدوء تبادل احاديثهم العامة. ومع ذلك، تنهار أحياناً هذه الأخيرة ويظهر الرعب العاري الجبلي protoplasmique :"بدا لهم بأن محيطاتهم تنهد، وتتمدد في جميع الاتجاهات، وتتكسر الأقحاف والواقيات من كل جهة، إنهم الآن عراة، دون حماية، وها هم ينزلقون يلتصق الواحد منهم بالآخر، يهبطون وكأنهم ينزلون في بئر... هنا، حيث ينزل هو الآن، وكأنه ينزلق في ممر تحت بحري، كذلك تبدو جميع الأشياء مُهتزةً، تتأرجح، وكأنها غير حقيقية ودقيقة، كالأشياء التي تظهر في كابوس، تتبخر، وتأخذ أحجاماً غريبة... كتلة ضخمة تضغط عليها، تسحقها... تحاول برعونة تخليص نفسها نوعاً ما، تسمع صوتها هي بالذات، صوت غريب ومحايد للغاية...". وبالرغم من ذلك لا شيء يحدث: لا يحدث أي شيء أبداً. فالمتحاورون ينزلون، باتفاق الكل، ستار العمومية على ذلك الخلل المُباغت.

وينتهي سارتر في مقدمته إلى القول :
إن أفضل ما في ناتالي ساروت هو أسلوبها المُتعثر، المُتلمس، والنزيه تماماً، المملوء بالندم، والذي يقترب من موضوعه بكل المحاذير الورعة، لكنه لا يتراجع باسم عفة أو حياء ما أمام تعقيد الأشياء، فهو يُقدم لنا بغتة في النهاية المسخ المخاطي كما هو، ومن دون أن يلمسه تقريباً، وذلك بفضل الصورة السحرية. هل ينتمي للبسيكولوجيا؟ ربما كانت ناتالي ساروت، المعجبة الكبرى بديستويفسكي، ترغب في جعلنا نعتقد ذلك. بالنسبة لي، كنت أظن أثناء قراءتي له بأني أتشوف فيه صدقاً زائغاً، فبكشفها عن ذلك الذهاب والإياب الذي لا ينقطع ما بين الخاص والعام، ومحاولتها رسم عالم مطمئن ومُخيّب، تكون قد وضعت تقنية تسمح، بذهابها إلى ما هو وراء البسيكولوجيا، بلوغ الواقع الإنساني، بوجوده ذاته.
مقدمة سارتر تبيّن مدى أهمية ما تكتبه المرأة، وأهمية ما يتلقاه الرجل من هذا الأدب وهو يسعى للتعرف على المرأة بشكل أفضل.
لم يكتف سارتر بتناول هذه الرواية بشكل منفصل، بل جعل بينها وبين سائر ما أبدعت ساروت من أعمال روائية، ليبيّن بذلك الرابط بين كل تلك الأعمال التي تكاد تتكامل مع بعضها بعضاً في المشروع الروائي الذي اشتغلت عليه الروائية الفرنسية الشهيرة ناتالي ساروت.