مجلس النواب وحرية الصحافة في الخمسينيات

مجلس النواب وحرية الصحافة في الخمسينيات

د. علي طاهر الحلي
تناول النواب موضوع الرقابة على الصحف والمنشورات باهتمام بالغ، ايماناً منهم باهمية حرية النشر، مع ملاحظة ان جهودهم في هذا المجال جاءت متماشية مع ما طرحوه من مداخلات ونقاشات حول سياسة الحكومة التعليمية وطبيعة تعاملها مع نشاط الطلبة السياسي، وآلية تعامل الحكومة مع ماتنشره الصحف حول تلك النشاطات...

وان لم يفصحوا في ذلك صراحةً الا اننا يمكننا ان تتبين ذلك من خلال التناغم الزمني والانفعالي الذي ميزت طروحات النواب في مجالي السياسة التعليمية وحركة النشر...

وبالرغم من إلغاء الأحكام العرفية، إلا أن الحكومات المتعاقبة أستمرت بمراقبة الصحافة والتشديد على الحريات العامة، الأمر الذي دعا نواب المعارضة في عام 1952 إلى مطالبة وزير الداخلية بأن لا تلعب يد الرقيب في خطب نواب المعارضة، وكان من بينهم النائب عبد الجبار الجومرد (الموصل) الذي قال :
“بأنه ليس من النظم الديمقراطية أن تتحدث هيئة تشريعية في قضايا البلاد الدقيقة والخطيرة فتودع أمام موظف،من الموظفين فيتصرف بها تصرفات خاصة، فيحـرم الرأي العام من سمـاع حقيـقة ما قالته المعارضة في مشـاكل الدولة الحيوية"().
حيث يتبين هنا بان الحكومة قد وضعت اشخاص مهمتهم الاساسية مراقبة كلام نواب المعارضة بما يتلائم مع مصلحة الدولة، وقد عد الجومرد هذا العمل تجاوزاً على القانون واستهانة بالحريات العامة التي نص عليها الدستور.
وتواصلت انتقادات النواب لمنع نشر مداخلاتهم مع أستمرار الرقابة الحكومية عليها... الى الحد الذي امتنع النواب عن المذاكرة حول الميزانية العامة لسنة 1957 ليجعلوا كامل الجلسة لمناقشة اعتداء الحكومة على حرياتهم في منعهم من نشر مايقولون داخل المجلس، حيث اكد كل من النواب حسن عبد الرحمن (البصرة) ورسول حسن (السليمانية) وتوفيق السمعاني (الموصل) وجمال عمر نظمي (اربيل) بضرورة وجود حلول سريعة لهذا”الغبن الحكومي”الواقع على كاهل النواب ليحرموا من حقهم في النشر... ليكتفي وزير الداخلية سعيد قزاز بالرد قائلاً”بان طبيعة الأحكام العرفية تفرض مثل ذلك الشئ”(). وهو ما اعتاد عليه المسؤولون الحكوميون اذا ما أرادوا ايقاف النقاش في موضوع يتعلق بالحريات العامة، وليتركوا فهماً بداخل اصحاب الحق بان الكلام في مثل هذه المواضيع لايجدي نفعاً.
وبناءً على فهم وموقف النواب ازاء الرقيب الحكومي... تصدى نخبة كبيرة منهم إلى الاجراءات العملية التي مارستها الرقابة ضد الصحافة من غلق وتعطيل اداري واحالة الى المحاكم...الخ، فعلى سبيل المثال لاالحصر وبعد اعلام مديرية الدعاية العامة صاحب جريدة اليقظة
السيد سلمان الصفواني، باغلاق جريدته، معللة ذلك بـ”عدم صلاحيته لان يكون مديراً مسؤولاً لها"... فند النائب اسماعيل الغانم (بغداد) كونه صحفياً عارفاً بقوانين المطبوعات والنشر، ادعاء المديرية اعلاه بتاكيده على توفر جميع الشروط المطلوبة فيه وحسب قانون المطبوعات العثماني لان حصوله على امتياز الجريدة كان عام 1924، ولم يصدر بحقه أي منع حتى مع تعديل واصدار قوانين لاحقة للمطبوعات... مطالباً بالغاء”هذا السبب غير القانوني”واعادة اجازة الصحيفة... ولعدم حصول النائب على أي اجراء حكومي ايجابي يذكر، ولقناعته التامة بمصداقية موقفه، كرر منطوق سؤاله بعد عدة اشهر ليحصل على اجابة وزير الداخلية جمال عمر نظمي، وكما وصفها النائب بانها”غير شافية ولا كافية”، بعد ان برر الوزيـر بكونه من صلاحيات القائد العسكري للاحكام العرفية ليوقف ما يراه متعارضاً مع المصلحة العامة، وهو ما ينذر بتقدير الباحث بخطر كبير، اذ ان تكرار تذرع المسؤولين بالمصلحة العامة بالمطلق دون تحديد المضامين الاساسية لها، سوف يجـر الى ماهو خارج عنها... وبذلك يكثر الايقاف والغلق وحتى المحاكمة والتوقيف تحت شعار المصلحة العامة.
وعلى خلفية تعطيل مجلس الوزراء لمجموعة صحف كان منها جريدتي العالم العربي والاوقات البغدادية، وجه النائب ذيبان الغبان (بغداد) تساؤلاً الى وزير الداخلية عن الاسباب الموجبة لهذا الغلق لعدم ذكرها في قرار الغلق.... وبعد احالة السؤال من قبل رئيس المجلس الى الوزير المختص، اهملت الاجابة عليه تماماً... ليعود النائب عبد الهادي البجاري (البصرة) ويكرر الطلب ذاته في الجلسة نفسها ليهمل مرة اخرى، مما ينبئ بمرحلة جديدة في الحياة الصحفية العراقية يكون فيها اغلاق الجرائد غير مبرر، ومطالبات النواب بتوضيح حول تلك الامور غير مجابة.وهو كلام عميق في دلالاته ومعانيه، الا إن نصيبه من الإهمال قد جارى من سبقه.
ومن الجدير بالذكر ان في بتاريخ 29 آب 1954 عطلت وزارة الداخلية تسع عشرة صحيفة لمدة سنة واحدة، وفرضت حصاراً فكرياً بإصدارها عشرات القرارات بمنع الكتب والصحف والمجلات ذات الاتجاهات القومية والتقدمية من دخول العراق، بحجة أنها كانت مصدر لإشاعة الفوضى وبث روح التفرقة بين أبناء الشعب وان تمويلها من مصادر سرية بقصد ترويج مبادئ حرمها القانون، ولم تسمح بعد ذلك إلا لسبع صحف بالأستمرار في الصدور().
وتكلم النائب عبد الجبار الجومرد (الموصل) عن أستمرار الحكومة بتعطيل الصحف في الجلسة الخامسة من إجتماع سنة 1953 الأعتيادي بقوله”إن الصحف هي التي توجه الرأي العام،وان خنقها يعني خنق حرية الرأي العام،وان ثمانية عشر وزيراً لا يستطيعون توجيـه البلد من دون وجود رأي عام”.
كما حاز موضوع غلق تسع صحف في مدينة البصرة نتيجة لتداعيات بعض المظاهرات التي قام بها الشيوعيون، اهتمام عدد غير قليل من النواب الذين وجهوا تساؤلاتهم واسهبوا في مناقشاتهم مع الحكومة بشكل عام، ومديرية الدعـاية بشكل خاص... فعلى سبيل المثال تسـائل النائب رمزي العمري (الموصل) ومسعود محمد(اربيل) عن الاسباب التي دفعت الحكومة لهذا العمل... مع العلم بان بعضها لم يكن يصدر وقت صدور قرار تعطيلها... لياتي الجواب على لسان مدير الدعاية روفائيل بطي بان الحكومة وجدت في هذه الصحف”روحاً هدامة فيها كثير من التشجيع على روح الاضطراب والفوضى، كما ان فيها ترويجاً لبعض الترجــمات الاجنبية والتي لا تخص الجهـات العراقية بصلة”، مما جعل كلامه عرضة لنقد عدد من النواب كالنائب عبد الكريم كنه (بغداد) الذي ذكر مدير الدعاية بما كانت تنشره جريدته من”مذكرات انصار السلام”والتي لم يعاقبه احد عليها، في حين علق النائب شاكر ماهر (بغداد) على موضوع الترجمات الاجنبية التي قال بان جريدة الوزير (أي مدير الدعاية) كانت تزخر بها... كما يرى الباحث بان ما قام به مدير الدعاية ازدواجاً واضحاً، فبعد ان دافع عن حرية الصحافة الحزبية ورسالتها في تصحيح مسار الحكومة في جلسات سابقة، نجده وعند تسنمه زمام الرقابة الصحفية في البلاد يسعى لغلق ما ايده سابقاً... وهو هنا يكون قد وقع تحت احدى فرضيتين براي الباحث، اما ان يكون قد نفذ قرار مجلس الوزراء في ذلك ولم يكن له رأي في الموضوع... او ان يكون قد انفرد بأصدارهذا القرار، وكلا الحالتين لا تخدمان مسيرة روفائيل بطي المهنية كونه نائب وصحفي وممن يحملون راية الدفاع عن حرية الصحافة.
ووجه النائب عبد الرزاق الحمود (البصرة) تساؤلاً الى وزير الداخلية سعيد قزاز عن الاسباب الباعثة على منع الرقابة دخول جريدة الجمهورية المصرية الى العراق... حيث اجاب الوزير بعدم وجود مثل هذا الامر، لتثور ثائرة النائب ضارباً على المناضد احتجاجاً على رد الوزير غير الحقيقي... ليتلاحق الاخير الامر بعبارة”يواش يواش”العامية تهديئاً للنائب، ومعترفاً بانه اوعز الى مديرية الدعاية العامة لمراقبة ومنع بعض اعداد من تلك الجريدة بالتداول داخل العراق لكونها تنشر امور تتعلق بسياسة العراق الداخلية، لينتفض النائب مرة اخرى مؤكداً على ان منع تلك الجريدة”يتنافى مع سياسة الوحدة التي اعلنها رئيس الوزراء الجمالي"، في محاولة لاحراج الوزير الذي خرج عن برنامج حكومته الوحدوي.
عن رسالة (موقف المجلس النيابي من السياسة التعليمية وحرية النشر)