جورج جرداق... لقاءٌ معه على رصيف بيروت!

جورج جرداق... لقاءٌ معه على رصيف بيروت!

اسكندر داغر
رحيل الأديب جورج جرداق (1926 - 2014) عاد بي سنوات طويلة الى الوراء. وذلك عندما التقيته بالمصادفة على أحد أرصفة بيروت، كما قفز الى ذهني الحديث الصحفي الذي أجريته معه في ذلك الحين، وكان إبن ساعته - كما يقال - وتراني اليوم، استعيد ذكرى ذلك اللقاء العفوي، مستحضراً بعض ما دار بيني وبينه في تلك الجلسة - من غير ميعاد - في إحدى زوايا «بار روكسي"المزدحم بروّاده...

في ظهيرة ذلك اليوم البعيد، من سنة 1963، كان قلب بيروت - كعادته - ينبض بالناس الذين يأتون من مختلف مناطق العاصمة، ومن مختلف مناطق لبنان.
يومها، كنت أتجه صوب «مكتبة المرّ» الشهيرة، بحثاً عن جريدة او كتاب جديد. وفجأة وجدت أمامي الكاتب جورج جرداق، واقفاً على رصيف المدينة، امام «بار روكسي"أو «مقهى الحاوي» الذي كان محطة رئيسة للأدباء والشعراء وأهل الصحافة والفن... وبعد السلام والكلام، ومن دون معرفة سابقة، تم الاتفاق بيني وبينه على اجراء حوار صحفي معه، واقترح أن يكون في «بار روكسي"اي «مقهى الحاوي» بالذات.

وطلبت منه أن يكون اللقاء في مكان آخر، يتوفر فيه الهدوء المطلوب... ولكنه أصرّ على أن يكون في المكان المذكور من دون غيره!
وخيّل إلي، انه ليس في وسعه أن يبتعد عن هذا المقهى الذي كان يرتاده الأخطل الصغير، وأسعد سابا، وتوفيق ابرهيم، وحليم الرومي، ومارون كرم، وميشال طعمة، وغيرهم العديد... وهنا لا بدّ لي من الإشارة الى أن في داخله جلس أيضاً أمير الشعراء أحمد شوقي عندما زار بيروت واختلف مع الشاعر الياس أبو شبكة!
البداية مع"فاغنر والمرأة"
في ذلك المقهى الصغير الذي تتلاصق في داخله الطاولات والكراسي، وتتعالى أصوات روّاده - الغائب اليوم عن خريطة المدينة - دار الحديث بيني وبين جورج جرداق حول مختلف القضايا التي لها علاقة بالأدب والشعر والفن والحياة...
تحدثنا بشكل خاص، عن مؤلفاته المختلفة... وعرفت منه، أن كتاب «فاغنر والمرأة"هو أول كتبه وأحبها إليه «لأني وضعته وأنا ما أزال في طور الدراسة، وهو عبارة عن سيرة قصصية شئت أن أوضح بها كيف أفهم الفنان الذي يتمثل به الشاعر والموسيقي والراقص والممثل والمغني، دفعة واحدة.
وقد اختار فاغنر من دون غيره، «لأنه اكبر من يبرز وحدة هذه الفنون... ومن ثم، هو أصلح من غيره ليكون مادة خصبة لمن يريد أن يكتب في الفنون كوحدة تامة تختلف بمظاهرها وأشكالها الخارجية، وتتحدد باصولها وينابيعها وجوهرها.

من هو مؤلف كتاب «الإمام علي»؟!
ومن ثم، تطرقت الى المؤلف الإشكالي - اذا جاز القول - ألا وهو «الإمام علي... صوت العدالة الانسانية"الذي يتألف من خمسة اجزاء، أي من الكتب الآتية: علي وحقوق الانسان - بين علي والثورة الفرنسية - علي وسقراط - علي وعصره - علي والقومية العربية.
وعند صدور هذا الكتاب الموسوعي في سنة 1958، أحدث ضجة كبرى... فمن ناحية، تلقاه القرّاء بالإعجاب والإكبار، وترجم الى اللغات الآتية: الفارسية والهندية والانكليزية، وغيرها... ومن ناحية ثانية، رُسمت حوله علامات استفهام كبيرة، اذ أن هناك من شكك بقدرة جورج جرداق على تأليف مثل هذا الكتاب عن الإمام علي، شهيد العدالة الانسانية... وهناك من تجرأ على القول، أن مؤلفه الحقيقي ليس جورج، إنما شقيقه البكر فؤاد جرداق، الباحث والشاعر المعروف. وحسب معرفتي، فإن أول من أثار هذه القضية، في حينه، هو الصحافي علي هاشم في جريدة"النهار!".
قصائد من فوق سطح البيت!

وفؤاد جرداق، هو من بلدة جديدة مرجعيون في جنوب لبنان، وكان يعمل موظفاً في وزارة الزراعة، وفي الوقت نفسه، كان ينكب على كتابة البحوث الفكرية وينظم القصائد المختلفة... وقد أخبرني صديقي الشاعر نقولا قربان حكايات كثيرة ومثيرة عن ابن بلدته وجاره الذي كان يحب كأس العرق...
ومن الحكايات الطريفة التي سمعتها من نقولا قربان، أن فؤاد جرداق كان أحياناً، ينظم القصائد التي تحمل في أبياتها الهجوم الشديد على اسرائيل والصهيونية، ومن ثم، يصعد الى سطح بيته المقابل للدولة الغاصبة ويتحداها بتلاوة قصائده بصوت عال، لعلّها تصل الى الهدف الذي يرمي إليه!
ولفؤاد جرادق مجموعة شعرية بعنوان «الهواجس»، وأخرى بعنوان «المنعشات»، ومخطوطات عدة.
دستور كامل وشامل

في لقائي الأول مع جورج حرداق، قبل اكثر من نصف قرن، وبمناسبة الحديث عن كتاب «الإمام علي... صوت العدالة الإنسانية»، سألته عن أفضل عبارة اطلقها الإمام علي، حسب رأيه؟ وكان في ذهني عبارته الشهيرة: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".
قال لي: «العبارات العظيمة التي اطلقها الإمام علي اكثر من أن تُعد، وغير المتداول منها على ألسنة الناس ربما كان اعمق واعظم من المتداول، ولا ارى موجباً لذكر عبارة معينة لأن الامام علي ذو شخصية واحدة جامعة لا يجوز تجزئتها باختيار هذه العبارة دون تلك من أقواله، ورسائله، وعهوده، وخطبه، التي تجد لكل منها مناسبة قال فيها ما قاله، وجاء قوله منسجماً مع عظم شخصيته وعمق إنسانيته، وشمول فكره... فإذا انت اطلعت على مجموعة من عباراته التي قيلت في مختلف هذه المناسبات تألّف لديك دستور كامل شامل للكون والحياة والاجتماع. وأنك تجد في ما قاله الإمام علي على نظريات اجتماعية تكاد فلسفات العصر الحديث لا تزيد على جوهرها شيئاً جديداً.
مؤلفات أخرى منوعة...
وأذكر، أن جورج جرداق حدثني في ذلك الحين عن كتبه المنشورة وغير المنشورة، فذكر لي العديد من العناوين... ومثالاً على ذلك، كتاب بعنوان «صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد» وهو رواية غرامية تاريخية، اقتبس حوادثها من الملحمة الصليبية للكاتب الانكليزي السير والتر سكوت. وكتاب «قصور وأكواخ"ويضم مشاهد من الحياة الأميركية، وفيه طرائف من هنري ترويا، ومارك توين. وترجمة لرواية «المشردون"للكاتب الروسي مكسيم غوركي. الى عناوين أخرى، منها: شاعر وجارية في قصور بغداد - الشرق على ألسنة شعراء أوروبا - حديث الغواني - حديث الملاهي - نجوم الظهر - وغيرها...
كما ذكر لي، في ذلك الحين، أنه في صدد اصدار ثلاث مجموعات شعرية، من دون أن يذكر عناوينها!

آثار العظام تؤثر في قارئها

في سياق ذلك الحديث، سألته: ما علاقة الأدب بالحياة؟ فقال:"ليس لي رأي انفرد به في علاقة الأدب بالحياة، لأن هذا الموضوع درس كثيراً وليس فيه مجال للزيادة، وتقول خلاصة الدروس حول هذا الموضوع أن علاقة الأدب بالحياة هي علاقة الصورة بالكائن المصور، أو علاقة النار بحرارتها، أو علاقة الشمس بوهجها".
واعتبر جورج جرداق، أن سؤالي له عن الأديب أو الشاعر الذي تأثر به، هو من النوع التقليدي، متناسياً أن الأديب في كل زمان ومكان، يتأثر ويؤثر، ولا عيب في ذلك...
وقال: "إلا أن الكتب التي تؤثر في قارئها تأثيراً شديداً كثيرة جداً... فجميع آثار الأدباء العظام، من عهد هوميروس الى اليوم، تؤثر في قارئها ولا يمكنني ذكرها لكثرتها".
وهنا، لم أتمالك من طرح السؤال نفسه بطريقة أخرى: وما هو الكتاب الذي قرأته وكان له الوقع الطيب في نفسك؟
قال: «ليس هناك كتاب واحد، بل كتب كثيرة... والذي لم أقرأه من الكتب العظيمة اكثر من الذي قرأته منها".
أما الكتاب الذي كان له الوقع السيئ في نفسه، قال: «95 بالمائة من الكتب التي تصدر في العالم العربي ولا سيما في لبنان... واسخفها جميعاً الكتب التي يقول اصحابها أنها دواوين شعرية. وغاية السخف فيها ما يصدر باسم ما يدعونه"شعراً حديثاً". أما أشعر شعراء لبنان في نظره: الأخطل الصغير، وميشال طراد.

ليست المرأة وراء كل عمل عظيم
ويرى جورج جرداق، أن علاقة الفنان بالمرأة «كعلاقته بغيرها من الكائنات، أما ما درج عليه الناس من القول بأن الفنان لا يمكنه أن يعطي نتاجاً عظيماً الا إذا كانت المرأة وراءه، فهو أسطورة لا مبرر لها. وأريد أن أسأل هؤلاء أن يخبروني ما هو أثر المرأة في سمفونيات بتهوفن، وفي أشعار فرجيل وشكسبير، وفي تماثيل ميكل انجلو، وفي «دونكيشوت"لسرفانتس وفي أثار غوركي ودوستويفسكي، وإذا قرأنا رواية «البوساء» أو «أحدب نوتردام"لفيكتور هوغو، نجد أن المرأة فيهما ليست أكثر من عنصر من عناصر الروايتين الكثيرة... هذا مع العلم أن المرأة يمكنها أن تكون وراء كثير من الآثار العظيمة، بوصفها أحد الكائنات التي يستلهمها أهل الفن، ولكن هذا الأمر لا يعني أن المرأة يجب أن تكون بالضرورة وراء كل عمل عظيم".

حركة نسائية لا علاقة لها بالأدب!
وفي ختام ذلك الحوار الذي من شأنه أن يرسم لنا شخصية جورج جرداق الساخرة في بعض جوانبها، تبيّن لي أن أحب الناس إليه، هم «البسطاء... غير العظماء الذين يكثرون جداً في لبنان!".
أما رأيه في الحركة النسائية الأدبية، فقال: «في لبنان حركة نسائية، لا علاقة لها بالأدب!"، وإن أحب الأصوات إليه، هي: «أصوات الريح، والمطر، والحيوانات، والبحر، والنساء الجميلات!".

عن مجلة الاسبوع العربي