هل حقاً كتب جيمس جويس ملحمة القرن العشرين؟

هل حقاً كتب جيمس جويس ملحمة القرن العشرين؟

شكيب كاظم
ثمة اعمال ابداعية تأخذ اكثر من استحقاقها ضجة وتاثيرا ومداولة في حين تمضي بعض الاعمال بهدوء دون ان تثير احدا لا بل تقرأها حتى دون ان تتعرف على كاتبها، ومن هذه الاعمال التي اثار موضوع اصدارها ضجيجا ومعارضة من جهة ومساندة ومؤازرة من جهة اخرى، حتى قبل الشروع بنشرها، رواية (يوليسيس) للكاتب الايرلندي جيمس جويس،

المولود في العاصمة دبلن في 2/ من شباط/ 1882 والمتوفى في زيورخ في الثالث عشر من كانون الثاني/ 1941 والتي نشرتها دار المدى للثقافة والنشر بطبعتها الاولى عام 2001 والثانية عام 2008 وهي السادسة ضمن زاوية (اعمال خالدة) التي تتولى (دار المدي) مشكورة نشرها، وبترجمة انيقة قام بها الشاعر صلاح نيازي الذي قدم من خلال شروحه وهوامشه الاضافية، اضاءات لهذا النص الروائي المعتم العصي على القراءة، بله الفهم، والمترجم صلاح نيازي يصف محاولته او اقدامه على ترجمة هذا العمل بانه تحد لا لقابلية المترجم، بل تحد لاية لغة تترجم اليها، لقد طوع جيمس جويس اللغة الانكليزية تطويعا عَزَّ له نظير، فهل يمكن تطويع اللغة المُتَرْجم اليها بالمثل؟ ثم ان التقنية في هذه الرواية - وهي اهم مميزاتها - شيء فريد لا عهد للغة الانكليزية بها فكيف باللغة العربية التي هي في طور تأسيس الفن الروائي بالمقارنة، ثم يذكر لنا صلاح نيازي انه قدمها الى مكتبة الكشكول بلندن فرفض نشرها صاحبها ثم اعتذر صاحب دار الساقي عن النشر بأدب لذا تقرر نشرها على حلقات قصيرة في مجلة (الاغتراب الادبي) فلاقى النشر تصويبا وتشجيعا.
لقد اخذ هذا العمل من كاتبه اكثر من سبعة اعوام، والذي نشر في باريس للمرة الاولى عام 1922 بعد ان رفضت دور النشر بايرلند نشره، واثار نشر بعض فصوله في الولايات المتحدة الامريكية ضجة كبيرة، ادت الى تقديم الرواية الى المحاكمة ومن ثم السماح بطبع العمل ونشره، وانقسم ادباء ذلك الوقت بشأنه اذ وقف الى جانبه الشاعر الشهير ازرا باوند، صديق الادباء والناذر نفسه لتقديم الخدمات والمعونات لهم، سواء بتقديم المساعدات المالىة ام بنشر نتاجاتهم، وكذلك وقف الى جانبه الشاعر توماس ستيرن ايليوت الى جانب الروائي ايرنست همنكوي، والروائي ذائع الصيت سكوت فيتز جيرالد، مبدع روايتيّ (كاتسبي العظيم) و(رقيق هو الليل) في حين ناهض نشره الاديب الايرلندي الشهير ديفيد هربرت لورنس (11/ من ايلول/ 1885 - 2/ من آذار/ 1930) عادا العمل جنسيا فاضحا، وكذلك الروائية المنتحرة فرجينيا وولف.
منع ومصادرة
هذه الضجة الاعلامية التي رافقت نشره، جعلت القراء يشغفون بقراءته والحصول عليه لأن عمليات المنع والمصادرة تقدم خدمات جلى للعمل المكتوب، شهرة وذيوعا واقبالا، ولدينا الكثير من الشواهد مثال ذلك الضجة الاعلامية والقضائية التي جوبهت بها المجموعة القصصية (سفينة حنان الى القمر) التي نشرتها ليلى بعلبكي عام 1962، ولقد كنا نقرأ ما تكتبه ليلى بعلبكي من اعمدة صحفية في مجلة (الاسبوع العربي) اللبنانية التي لم تثر انتباهنا، حتى جاءت الملاحقة القضائية لها لتشعل جذوة اقبال القراء عليها، وجعلت منها هالة اعلامية قبل ان يقف الناس عند مستوى ابداعها.
محاكمة كتاب (في الشعر الجاهلي) الذي اصدره الدكتور طه حسين عام 1926 قدمت له خدمة اعلامية وشهرة ما حلم بها وجعلت جهده الثقافي والمعرفي في كفة و(في الشعر الجاهلي) في كفة اخرى قبل ان يغير عنوان كتابه هذا لاحقا الى (في الادب الجاهلي).
المحاكمة التي اجراها الجامع الازهر لكتاب (الاسلام واصول الحكم) لمؤلفه على عبد الرازق قدمت له شهرة وذيوعا غطى حتى على من كان من العائلة ذاتها من الباحثين ايذكر الناس مصطفى عبد الرازق مثل ذكرهم لعلى عبد الرازق؟!!
كذلك رواية (وليمة لاعشاب البحر) للقاص والروائي السوري حيدر حيدر، نشرت منذ سنوات عدة، ولم يلتفت اليها احد، حتى اذا صدرت فتوى ضدها عام 2000 بحجة تناولها للجنس بشكل واضح، كانت هذه الفتوى بمثابة اشتعال النار لتدخل الرواية حقل المقروء والمطلوب من لدن القراء، وبيعت منها ما لا يحلم كتابها من نسخ، مع ان له رواية، تناولت الجنس بشكل فاضح اسماها (الزمن الموحش) صدرت طبعتها الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت عام 1979 لكن لانها اخطأتها الفتوى فلم تحظ بالاهتمام الكافي واراها اكثر جنسا وفضائحية عن (وليمة لاعشاب البحر) مما يؤكد ان اصحاب الفتاوي لا يقرأون بل يحيون على ثقافة النم والاشاعة.
من هذا النوع رواية (يوليسيس) لجيمس جويس لقد جوبهت بالرفض من بعض دور النشر وقدمت الى المحاكمة فجعلت الانظار تجه اليها ليبني على هذا العمل الكثير من الاوهام والاقوال، وما اراها الا تشبه ثقافة ثياب الامبراطور العاري الذي يخشى كل فرد ان يصرح بعريه خشية اتهامه بالغباء والبلادة!!
اقانيم ثلاثة
فأنت اذ تتوكل على الله بعد ان تحوقل وتبسمل، كي تلج عتبات هذا النص الروائي، تواجهك لافتات التحذير، اللافتة تخاطبك: الى القارئ: (ملحمة القرن العشرين، هذه كما سميت في غاية الصعوبة، ومغالىقها مستغلقة لدرجة الىأس والاحباط وانقطاع النفس مرة بعد مرة (...) لتكن هذه الرواية - الاعجوبة، امتحانا لقدرتك على الصبر والجَلَدْ، ومحكا لقابلية اصغائك الكامل وبكل الجوارح والحواس، انها مثل مراقبة نمو نبتة عملية بطيئة بلا شك، اي انك لا تستطيع ان تقرأها دفعة واحدة، او بدفعات كبار (الصحيح كبيرة) فتصاب بالتخمة لا مفر من التعامل مع هذه الرواية، على انها مركبات ادوية الاكثار منها يؤدي الى عطبك قراءة مقطع، التأمل فيه، التمعن في ابعاده ثم اعادة قراءته مرات ومرات، لا يمكن الانتقال الى مقطع اخر دون التأكد من هضم المقطع الاول وتمثله، اي ان هذه الرواية تتطلب تغييرا اساسيا في العادات التي تعودنا هنا في القراءة سابقا، لابد للقارئ الذي وطن نفسه على قراءتها من تخصيص وقت ينقطع فيه اليها انقطاعا كاملا، كما لابد من الاطلاع على اوذيسة هوميروس بالدرجة الاولى وعلى التوراة والانجيل وقصص (Dubliners) القصيرة لجيمس جويس نفسه).
ايصح هذا، ايقبل؟ فأن كنا نقدم كل هذه التوجسات وكل هذه التحذيرات بين يدي عمل روائي فما الذي سنقدمه ونحن نزمع قراءة عمل فلسفي، او اقتصادي او فلكي اذن ماذا نقول ونحن نحاول اكتناه نظرية انشتاين في البعد الرابع للكون، او نظرية ستيفن هوكنغ في تمدد الزمن والانفجار الكبير؟ ولا اريد ان اطيل، نعم الرواية مغلقة ومستغلقة، ولقد حذرني شقيقي من قراءتها بعد ان احبط وهو يحاول فك مرموزاتها لكني ازمعت قراءتها، خاصة ان مترجمها الشاعر صلاح نيازي معروف بباعه الطويل في اللغتين العربية والانكليزية، فضلا على ذائقته المرهفة شاعرا وقدراته المعرفية باحثا، لذا قررت قراءتها لأكتشف ان جيمس جويس اقامها على اقانيم ثلاثة: الجنس، وقد خفف منه وحذف بعد ان تعذر نشرها، فضلا على محاولته الانتقاص من الكنيسة، ولأن مدي الحرية الفكرية والتعبيرية كانت اقل في بدايات القرن العشرين، قياسا بالوضع المعاصر اي بعد مئة سنة، فانه حاول التمويه والتعمية، وتغليف نصه بالغموض من اجل تمرير عمله الروائي هذا، فضلا على محاولات الاستهانة باليهودية واليهود.
وسأحاول النص على العديد من هذه الادلة والشواهد. يقول (انا اعزب شاب، سمع عنه على الاطلاق امي يهودية وابي طائر مع يوسف النجار، لا يمكن ان اتفق، لذا ففي صحة الجواري والجمجمة، رفع سبابته محذرا: اذا ما اعتقد اي منكم انني لست كهنوتيا فلن يحصل على شراب مجاني حينما اصنع الخمر، بل عليه ان يشرب ماء ويود ان يكون ما اصنع صافيا حينما يصبح الخمر ماء مرة ثانية) ص32.
جيمس جويس هنا يعرض بأم السيد المسيح، مؤكدا يهودية السيدة مريم مما لا يأتلف مع التفسير المسيحي فضلا على ذلك يضيف جويس: (لست مؤمنا، الىس كذلك، سأل هينز، اعني مؤمنا بالمعني الضيق للكلمة، الخلق من العدم والمعجزات ورب مجسد كأنسان (...) نعم بالطبع قال بينما كانا يوصلان السير ثانية اما ان تؤمن واما لا الىس كذلك؟ لا يمكنني هضم فكرة الرب المجسد انت لا تؤمن بذلك كما اعتقد)ص33.
ثم يفصح عن كرهه لليهود ليقول (انا بريطاني، قال صوت هينز، واشعر وانا واحد منهم، انا لا اريد وطني ان يقع بايدي اليهود الالمان كذلك هذه مشكلتنا القومية، كما اخشي في الوقت الحاضر) ص35.
جيمس جويس ينقل بما يشبه التهكم وعدم التصديق مشي السيد المسيح ذاهبا على الماء ذاهبا على تلامذته مشاركا اياهم وليطمئنهم لأن سفينتهم (قد صارت وسط البحر معذبة من الامواج لأن الريح كانت مضادة كما ينقل الشاعر صلاح نيازي عن انجيل متي، جيمس جويس متهكما يقول: (الفكرة هي فكرة الفكرة، لمعان ساكن، الروح بوجه من الوجوه كل شيء كائن: الروح هي صورة الصور (..) كرر تالبوت - بقدرته العزيزة، ذاك الذي مشي على الامواج بقدرته العزيز...- اقلب الصفحة، قال ستفين بهدوء لا افهم شيئا ماذا يا استاذ؟ سأل تالبوت بسذاجة، منحنيا الى الامام)ص55.
انه يريد ان يشكك ان يتهكم لكن الكنيسة وانصارها له بالمرصاد لذا هَوَّمَ واغرب واغمض القول كي يسرب هذه المعلومة وسط كم من الضباب اللغوي والتعمية اللغوية.
ثم يعود لمهاجمة اليهود واليهودية علنا مفصحا دون لف او دوران مثلما كان يتناول القضايا المسيحية والكنسية، اللغة هنا واضحة مفهومة يقول (دوِّن كلماتي، يا مستر ديدلس، انكلترا بايدي اليهود في جميع المناصب العلىا شؤونها المالىة صحافتها وهم امارات تدهور الامة، حيثما يجتمعوا يلتهموا القوة الحيوية للامة اري ذلك قادما هذه السنوات متأكد كتأكدي من وقوفنا هنا من ان التجار اليهود ظالعون في التخريب. انكلترا، كما عرفناها ما انفكت تموت (...) لقد اقترفوا خطيئة ضد النور، قال المسترديسي ببطء ووقار وبوسعك ان تري الظلام في عيونهم وهذا سبب انهم مشردون في الارض (..) ليس لهم هذه الملابس (صحيحها: ليست) هذا الكلام هذه الاشارات عيونهم البطيئة تماما تناقض كلماتهم الاشارات متحمسة وغير مؤذية ولكن عرفوا الضعائن تراكمت حوالىهم وعرفوا ان المروءة كانت عبثا (...) عيونهم خبرت سنوات تشردهم وصبورين، عرفوا هوانات نفوسهم) ص64،65.
اليهودي التائه
هنا كما قلت يفصح جويس، ويترك المعميات، حينما يتحدث عن اليهودي التائه، الذي سيبقي في التيه لأنه تهكم على السيد المسيح عن صلبه، اذن هو يستطيع الافصاح والكتابة الواضحة التلقائية لكنه يفتعل الغموض افتعالا محاولة للتمويه على ما يريد قوله في النيل من المسيحية، وكذلك لايهام القارئ باسلوبه الكتابي العالى وخزينه المعرفي، مما وقع فيه حتى العديد من كتابنا المعاصرين، الذين لايفهمون حتى هم ما يكتبون في محاولة للتدليس على القارئ.
ثم يعود كرة اخرى للنيل من الخالق قائلا: (ان نهج الخالق هو غير نهجنا، قال المسترديسي كل التأريخ البشري ينحو نحو هدف واحد عظيم هو كشف الخالق) ص66.
يعود جويس الى موضوعه الاثير كره اليهود، مما يؤكد ان العداء الاوربي لليهود، هو الذي دفعهم على التفكير بانشاء الوطن القومي، الذي كان حلما يراود الاجيال اليهودية، والتي وضعت اولي لبانته على طريق التطبيق، يوم عقد المؤتمر الصهيوني الاول في مدينة بازل السوىسرية عام 1897 والذي حاول ثيودور هرتزل جاهدا تحقيق هذا الحلم اليهودي بالوطن القومي في حين كان اليهود في الشرق والعالمين العربي والاسلامي يحيون كما يحيا المسلمون والمسيحيون العرب يمارسون طقوسهم بحرية، واصبح منهم وزراء في الحكومات العربية او العراقية على وجه التحديد، اضطهدتهم اوربة المسيحية فدفعنا نحن ضريبة هذا الكره وهذا الاضطهاد فاضاعوا علىنا فلسطيننا مرة بالتقسيم واخرى بحق اليهود في العيش بسلام الم يكونوا يحيون معنا بسلام؟ انتم الذين شردتموهم ثم وهبتم لهم ما لا تملكون، تبرعت اوربة لهم بفلسطيننا.
يعود جويس الى هذه النغمة السائدة بدايات القرن العشرين، الكره الاوروبي لليهود، كتب: (اردت ان اقول فقط، قال ايرلندة يقولون لها الشرف بانها البلد الوحيد الذي لم يضطهد اليهود، هل تعلم ذلك؟ لا، وهل تعلم لماذا؟
عبس بتجهم في الهواء الوضاء
لماذا ايها السيد؟ سأل ستيفن، وهو يشرع يبتسم
- لانها لم تدعهم يدخلون البته. قال المسترديسي بوقار
كرة ضحك سعالىة قفزت من حنجرته جارة وراءها سلسلة بلغم التفت الى الوراء بسرعة ساعلا، ضاحكا، وذراعاه المرفوعتان تلوحان للهواء.
- لم تدعهم يدخلون البتة صاح مرة من خلال ضحكة بينما يدوس بقدميه المحتذيتين الى الركبة على حصي الممر هذا هو السبب) ص67،68
صور منفرة
وهو هنا اذ يصور لنا بشكل منفر مقزز للضحكة السعالىة التي ملأت فم ستيفن بالبلغم، فانه يأتي بما هو ادهي اذ يصف عملية افراغ بطن ليوبولد بلوم ولماذا نُجَمِّل العبارة لنقلها واضحة جويس يصف عملية تغوط بلوم بشكل منفر ومزعج واتساءل ما شأن القارئ بهذا الامر الشخصي والمقزز؟ ومع ان هذه السطور حذفت، كما يذكر الناقد ريتشارد ايلمان في كتابه (جيمس جويس. مدخل تحليلى مقارن الى عوالمه) والذي ترجمه وعلق عليه الشاعر الانيق على الحلي، وهو الكتاب الخامس، في ضمن سلسلة (كتب شهرية) التي كانت تصدرها دار آفاق عربية. اقول لقد شطب عزرا باوند - كما يقول الناقد ايلمان - بتهور من دون ان يسأل جويس عما فعل، عشرين سطرا بشأن حركة امعاء بلوم من الفصل الرابع، وقد علم جويس بعملية الاستئصال، او الحذف بصورة متأخرة تماما بحيث لم يقدر على ابطالها، لكنه اوضح بانه كان عازما على ان ينشر عمله، كما كتبه بنفسه من دون تغيير او حذف) ص24
العزم الجويسي على نشر عمله كما كتبه، جعل القارئ يصدم بهذا الهراء وهذا النعت المقزز متحدثا حتى عن الرائحة المتصاعدة من تغوط بطل روايته ليوبولد بلوم يكتب (مقرفصا على كرسي التشهير، فتح جريدته مقلبا صفحاتها على ركبيتيه العاريتين (....) بهدوء راح يقرأ، كابحا بطنه العمود الاول ومستسلما لكنه مقاوم، شرع بقراءة العمود الثاني، في نصف العمود الثاني، انهارت مقاومته الاخيرة فافسح المجال لامعائه ان تفرغ نفسها بهدوء، بينما هو يقرأ، قارئا بصبر ذلك الامساك الخفيف الذي اصابه امس ذهب تماما. آمل ان لا تكون كبيرة فتجلب لي البواسير ثانية، لا بالحجم المضبوط (...) واصل القراءة وهو جالس بهدوء فوق خاصة رائحته المتصاعدة صافية بالتأكيد (....) حدق بما كان قد رأه بينما شعر ببوله يتدفق بهدوء) ص140
تري ما الذي ابقى جويس صاحب ملحمة القرن العشرين كما توصف روايته هذه، يوليسيس!! ماذا ابقى في قاموس التقزز والنفور ولم يكتبه؟ ولماذا يكتب بوضوح مثل هذه التفاهات ثم يرجع لطلاسمه ومعمياته اذ تناول مسائل خطيرة تجلب لذهنه الاذي والازعاج؟ مما يؤكد افتعاله الغموض والتعمية لغاية في نفس يعقوب وللتخلص من قلم الرقيب ومقصه!! لم يكتف جويس بالوصف الدقيق لتغوط بلوم بل يواصله حتى النهاية، مشفقا على قراءه ان لا يمتعهم بهذا الوصف الجميل ويحرمهم منه!! يكتب مواصلا وصفه (قطع نصف القصة الفائزة بحدة وتمسح بها، ثم ثبت حزام بنطلونه، وزرره، سحب باب الكنيف المتداعي المتهز وخرج من الظلام الى الهواء) ص141 ثم يعود للزراية بالمسيحية، ولكن بتعمية مع كثير من الضبابية حين يتحدث عن الخبز المقدس الذي يجب ان لا يلاك بالاسنان او تمسه، بل يجب ان يوضع على سقف الفم، وهو ما اشاهده انا غالبا في الطقوس الكنسية يقول جويس: (جسد، جثمان، فكرة سليمة هي اللاتينية. تشدهم اولا. ملجأ المحتضرين، لا يبدو عليهم انهم يلوكونه: يبلعونه فقط فكرة غريبة: فكرة غريبة: يأكلون قطعا من جثة. لماذا آكلة لحوم البشر يولعون بها؟) ص167
نصيحة تزارا
ان رواية (يوليسيس) لجيمس جويس، تشبه الى حد بعيد، تلك القصيدة الدادائية التي نصحنا تريستان تزارا بكيفية كتابتها وطريقتها، متهكما قائلا: (خذ جريدة/ خذ مقصا/ اختر منها مقالا له الطول الذي تنويه لقصيدتك/ قص باعتناء الكلمات التي يتألف منها المقال ثم ضعها في كيس!!/ خضه برفق/ اخرج قصاصة تلو القصاصة حسب ترتيب خروجها من الكيس/ استنسخ بنزاهة/ ستشبهك القصيدة/ وها انك كاتب في منتهى الاصالة وذو حسية ظريفة وان لا تفهمها العامة لا تفهمها).
نصيحة تريستان تزارا موجد الحركة الدادائية في كتابة القصيدة التي يعرضها عليها بموضع المزاح والتهكم ناعيا على القصيدة الدادائية طلسمتها وغموضها نفذها جيمس جويس وهو يكتب روايته فلقد اطلعت على نص جدير بالتدبر والتمعن فيه كتبه الناقد ريتشارد ايلمان، موضحا فيه كيفية كتابة جويس لروايته هذه مما يؤكد عملية اللصق والكولاج التي اختطها في بنائها واظهرها على القراء، يقول ايلمان: (.. نراه قد دون باختصار قائمة طويلة من العبارات ووضع خطوطا تحتها بالوان متباينة لكي يقدر على تذكر.. في اي فصل كانت مثيرة في نهاية عام 1917 ربط جويس الفصول الاولى بالقضية حيث قدر لها ان تطبع على الآلة الكاتبة وتنشر). ص23 من الكتاب النقدي الذي سبقت الاشارة الىه. انها رواية اللصق والكولاج، والتأكيد بقوة كونها غير مفهومة بسهولة للقارئ العادي ولأن اي فرد منا لا يريد ان يتهم بكونه قارئا عاديا او بكونه لا يفهم ما يقال في مواجهة من قال لماذا لا تقول ما يفهم؟ التي ربما اطربت جويس فذهب يبني عليها عمله الروائي.