من نوادر القضاء العراقي عالم دين كبير يدافع عن صحافي ماركسي سنة 1946

من نوادر القضاء العراقي عالم دين كبير يدافع عن صحافي ماركسي سنة 1946

عندما صرخ الشيخ الزهاوي: ((فخيرُ الصحف من ترشّد وخيرُ الحكومات من تسترشد..))
إعداد : ذاكرة عراقية
عرف الشيخ أمجد الزهاوي في حقل المحاماة وقد اشتهر بالشجاعة في طلب الحق والدفاع عنه، كما اشتهر الزهاوي في الأوساط القانونية في العراق بأنه كان لا يتوكل عن الدعوى إلا إذا كان الحق فيها واضحاً، وكان لا يتراجع أو يتساهل تجاه أي قضية حتى لو تعرض لضغط ما بل كان يمضي في دعوته حتى يتمكن من أخذ الحق وإظهاره.

ومن أشهر القضايا التي توكل عنها واستطاع أن يضع لها تاريخاً مشرفاً قضية حسينية محلة الشيخ بشار (أنظر مقالتنا عن كعبة البهائية في الكرخ) وقضية محاكمة الشيخ ضاري المحمود وقضية محاكمة الأستاذ ناظم الزهاوي الشخصية الوطنية واليسارية المعروفة.

استقال الزهاوي من عضوية محكمة الموصل بعد أن تنقل في المحاكم المختلفة في الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1919 إثر تعيين أحد المستشارين البريطانيين رئيساً لتلك المحكمة، إلا أنه عاد للعمل في سلك المحاماة، فتم ادراج اسمه في سجل المحامين في بداية عام 1920 وكان تسلسله في ذلك السجل هو السابع والأربعين ضمن قائمة تألفت من ستين محامياً أبرزهم مزاحم الباجة جي ورشيد عالي الكيلاني) وقد أفصح الزهاوي عن رغبته في ممارسة مهنة المحاماة، وقد عبر عن تلك الرغبة في جريدة العرب البغدادية بقوله: ((لقد عزمت بعد الاستعانة بالله على الاشتغال بالمحاماة امام المحاكم النظامية والشرعية)) كما قام الزهاوي بفتح مكتب له لاستقبال الدعاوى وكان ذلك المكتب مجاوراً لجامع مرجان الملاصق للبنك الايراني، ووقع الاختيار على الزهاوي من قبل مجلس بلدية بغداد الذي أوكل إليه مهمة النظر في الدعاوى نيابة عنه، وقد كان السبب في ذلك الاختيار لما كان يتمتع به الزهاوي من قدرة فائقة فضلاً عن تدهور أحوال ذلك المجلس ولابد من الاشارة الى أن الزهاوي كان قد اختير في بداية عام 1921 مشاوراً للحقوق في وزارة الأوقاف، وقد استمر به حتى عام 1925.

أحيل الأستاذ ناظم الزهاوي ابن عم الشيخ أمجد الزهاوي الى المحاكمة في الأول من أيلول 1946 وكان السبب في ذلك عائداً في الأساس الى قيام ناظم الزهاوي الأستاذ ناظم الزهاوي أحد اعضاء حزب الاتحاد الوطني وهو من احزاب المعرضة الوطنية وذو توجهات ماركسية، وكان زعيمه الأستاذ عبد الفتاح ابراهيم، بنشر مقال في جريدة السياسة هاجم فيه حكومة أرشد العمري رئيس الوزراء، بسبب المذبحة التي وقعت في كركوك بين عمال شركة النفط بعد أن قامت الشرطة بإطلاق الرصاص على عمال تلك الشركة الذين تظاهروا في حديقة (كاروباغي) مما أدى الى مقتل خمسة أشخاص وجرح اربعة عشر شخصاً وإصابة تسعة اشخاص من الشرطة.
كان دفاع الزهاوي عن ناظم الزهاوي قد أثار جدلاً في الأوساط القانونية والسياسية وكان مثار ذلك الجدل: ((كيف يدافع عالم ديني معروف بتقواه وورعه وزهده عن رجل كان متهماً بنشر الماركسية الشيوعية))؟، وظهرت عدة تفسيرات لذلك منها ما برر دفاع الزهاوي عن حرية الرأي ومنها فسر ذلك لصلة القربى التي كانت تجمع الزهاوي بالزهاوي المتهم أي كانت تجمع بين الاثنين وحدة اللقب، يمكن أن نرجح الرأي الذي أكد على أن الزهاوي قبل الدفاع عن ناظم الزهاوي انطلاقاً من ادراك الزهاوي بأن البلاد كانت تواجه وضعاً لا يحترم حرية الفكر، فضلاً عن إلحاح والدة ناظم الزهاوي على الزهاوي في اثناء زيارتها اليه في داره وتوسلها إليه للدفاع عن أبنها في قضية تخص الصحافة ليس إلا كانت قضية ناظم الزهاوي هي أول وآخر قضية توكل فيها الزهاوي بعد احالته على التقاعد، ولذلك قام بتجديد اجازة ممارسة المحاماة التي كان قد ألغاها عام 1933 بعد توليه مهام رئاسة مجلس التمييز الشرعي السني، وفي الثالث من ايلول تشكلت المحكمة الكبرى في بغداد برئاسة القاضي احمد طه وعضوية محمد الهاشمي ومحمد الشماع، وكانوا حكاماً من الدرجة الأولى ومأذونين بالقضاء من قبل البلاط الملكي، وتشكلت هيئة الدفاع عن المتهم ناظم الزهاوي ومعه عبد الله مسعود الذي نشر هو الآخر مقالاً في العدد نفسه، وكذلك شريف الشيخ، وتألفت من تسعة وثلاثين محامياً ومنهم فضلاً عن الزهاوي عزيز شريف وعبد الجبار العبيدي وعبد الصمد الراوي وآخرون، وبعد الاستماع الى افادة ناظم الزهاوي، بدأ الزهاوي بالدفاع عن المتهمين، فأوضح الدواعي التي دعت الى نشر مقالاتهم بأنها دواعٍ وطنية هدفوا من ورائها الدفاع عن حقوق الشعب واستنكار الأعمال التي قام بها بعض الأفراد، ومما جاء في دفاعه : ((أن الاتهام قد حدد القصد بأخبار كاذبة وليس في ذلك سوء بل الظاهرة من الصحافة القيام بواجبها، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس ولا سيما من نصب نفسه لذلك، فخير الصحف من ترشد وخير الحكومات من تسترشد..)) وبعد انتهاء الزهاوي من دفاعه، تم اجراء المذاكرة صدر قرار المحكمة النهائي بإطلاق سراح ناظم الزهاوي وحبس عبد الله مسعود وشريف الشيخ لمدة شهر واحد، وبعد انتهاء هذه القضية سئل الزهاوي عن سبب قبوله الدفاع عن ناظم الزهاوي؟ وكان جوابه: ((ألم يأمرنا الله عز وجل، أن نحكم بين الناس بالعدل،"وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ". بعد دراستي للقضية وجدت أن ما ورد في المقال حق لكونه إرشادياً يدعو المسؤولين الى تصحيح مواقفهم وسياستهم تجاه الشعب.