آلان تورين والبحث عن الديمقراطية في عالم متوحش

آلان تورين والبحث عن الديمقراطية في عالم متوحش

علي حسين
في يوم من أيام عام 346 ق.م توجه "ديموسثنيس" أحد مواطني مدينة اثينا، ألى مكتب أحد القضاة حيث وجّه اتهاماً رسمياً ضد المدعو ميدياس، وبعد النظر قرر القاضي أن يدرج الشكوى ضمن جدول المحكمة، وفي اليوم المحدد تم اختيار 500 محلف اختياراً عشوائياً من بين المواطنين الذين تزيد أعمارهم على الثلاثين عاماً، وسمح لكل من ديموسثنيس وميدياس بأن يلقيا خطبة أمام المحلفين،

وبعد الانتهاء من خطبتيهما، كان على المحلفين أن يدلوا بأصواتهم عن طريق الاقتراع السري لصالح أحد الطرفين، وبعد حصر الأصوات يتم النطق بالحكم، ماذا كانت تهمة ميدياس؟ وما علاقة هذه القضية بمعنى الديمقراطية؟

حسبما جاء في خطبة ديموسثنيس الموجّهة الى هيئة المحلفين، فقد كان ديموسثنيس في مسرح ديونيسوس عندما وجه إليه ميدياس لكمة سبّبت له إضافة إلى الإصابة الجسدية، إهانة شنيعة على مرأى ومسمع من الناس، لقد كان فعلاً يتسم بالوقاحة، وأدعى ديموسثنيس أن الأمر لا يتعلق بالإهانة الشخصية فقط، إذ أن الأمر يُعد إهانة لجموع المواطنين، لأن ديموسثنيس كان وقت الحادثة يعمل مشرفاً على الاحتفال السنوي لديونيسسوس، وعندما وقع الحادث قام ديموسثنيس باتهام ميدياس وصوت آلاف المواطنين الحاضرين الى الحفل بإدانة سلوك ميدياس، إلا أن تصويت المشاهدين بالإدانة لم يكن سوى توبيخ أدبي، أما إذا أراد ديموسثنيس أن يعاقب المعتدي حقاً، كان لزاماً عليه أن يقيم دعوى أمام هيئة محلفين، وقد أتاح لنا قرار المحكمة الشعبية وخطبة ديموسثنيس أن نختلس نظرة خاطفة خلف الأجهزة الحكومية في أثينا، لنلاحظ الأداء الحقيقي لأول ديمقراطية في العالم، حيث ترينا خطبة ديموسثنيس كيف يقدم مواطن اثيني نفسه إلى المحلفين من الجمهور، وكيف يحدد علاقته ببقية المواطنين، وبخصمه وبمواطني النخبة في أثينا، وفي خطبته يعلن ديموسثنيس أنه ليس ضعيفاً وكان بإمكانه الرد على اعتداء ميدياس، لكنه أراد أن يقف في صف القوانين، بل في عبارة درامية يقول إن قوانين أثينا هي أهله وناسه.
يخبرنا آلان تورين في كتابه الممتع"ما هي الديمقراطية"أن الديمقراطية رغم أنها ممارسة قديمة، ألا أنها كنظرية، فكرة جديدة، وهذه الفكرة نمت وتطورت فوق أنقاض فكرة الثورة. فبقدر ما كان القرن العشرين في نصفه الأول قرن الآمال الثورية، كان في نصفه الثاني قرن البيرقراطية والتسلط. ويؤكد تورين أن خيبة الأمل بالثورة، هي التي فرضت طوال حقبة مديدة تصوراً متواضعاً للديمقراطية بوصفها محاولة للحد من سلطة الدولة وهيمنتها، ويعترف تورين أن هذا الحد الضروري لهيمنة الدولة ليس بحد ذاته ضمانة للديمقراطية، فهو قد لا يتأدى في نهاية المطاف إلا إلى هيمنة سلطة المال والإعلام، هذا إن لم يؤدِ إلى تحويل الحوار السياسي الذي هو شرط لازم للديمقراطية إلى مواجهة عنيفة.
في الثالث من آب عام 1925 ولد آلان تورين في بلدة على شاطئ بحر المانش. والده طبيب ميسور الحال، ووالدته تعمل في التدريس، حاولت أن تعلّم أبنها كيف يحب الحرية والعلم والمعرفة، التحق عام 1945 بمدرسة المعلمين العليا في باريس، التي تخرّج منها جان بول سارتر وريمون آرون وسيمون دي بوفوار وميرلو بونتي وغيرهم من الأعلام، لكنه بعد عامين يترك الدراسة، ليقرر السفر إلى هنغاريا ومن بعدها الى يوغسلافيا، ثم يعود الى فرنسا ليعمل عاملاً في أحد المناجم، كانت تجربة العمل في المناجم مرحلة غنية في حياة تورين حيث قربته من المسائل المتعلقة بالصناعة وعالم رجال الأعمال، وتعرف من خلالها على الحياة الاجتماعية للعمال، الأمر الذي مكّنه من أن يصدر أول كتبه عام 1955 وكان بعنوان"تطور العمل في مصانع السيارات"والكتاب هو أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، بعدها يسافر الى تشيلي، يتزوج هناك وتصبح بلدان أميركا الجنوبية موضوع أبحاثه، حيث أصدر كتابه الشهير"الكلمة والدم"عن معاناة عمال المناجم في تشيلي. ساهم عام 1959 في تأسيس مجلة"سوسيولوجيا العمل". وحصل عام 1964 على دكتوراه ثانية من خلال أطروحته"سوسيولوجية الفعل الاجتماعي". يذهب الى بولندا ليعايش تجربة العمال هناك، ويعقد صداقة مع رئيس نقابة التضامن ليش فاليسا، الذي أصبح فيما بعد، رئيساً لجمهورية بولندا.
رفض طروحات صموئيل هنتنغتون حول صدام الحضارات، وسخر من مقولة فوكوياما"نهاية التاريخ"، والتي يرى فيها فوكوياما الانتصار الكامل والنهائي للمعسكر الرأسمالي ولنظرياته الليبرالية، وفشل النظريات الاشتراكية، حيث يطرح تورين بديلاً آخر يتعلق بـما أسماه"نهاية المجتمعات"، والذي عنون به أحد كتبه، حيث يجد تورين أن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي انطلقت في عام 2008 لتشمل آثارها، العالم كلّه والتي لم يشهد لها مثيلاً إنما تمثل"قطيعة عميقة"بين الرأسمالية المالية التي تجد تعبيراتها البليغة في الأسواق المالية، وبين الاقتصاد بالمعنى الرأسمالي الإنتاجي. تلك القطيعة تمثل دلالة واضحة، برأيه، على نهاية المجتمعات الصناعية التي قامت قبل حوالي قرنين من الزمن.
عندما تندلع أحداث 68 في فرنسا والتي سمّيت بثورة الطلبة، يقف تورين إلى صفها ويصدر عن الحركة كتاباً بعنوان"حركة مايو أو الشيوعية الطوباوية"، حيث وجد في هذه الحركة لحظة أساسية في دخول الثقافي والمعرفي والفني إلى ساحة التأثير السياسي، حين اعتبرها بمثابة هجمة الثقافة على القرار السياسي وشبهها بهيجان بركان يفرض حراكه الداخلي، وقد وجد في حركة الطلاب تعبيراً عن"حراك سياسي لم يعرف كيف يجسّده السياسيون في الأطر التقليدية للعمل السياسي".
وضعت كتب آلان تورين ضمن قائمة أفضل مائة كتاب في مجال علم الاجتماع، وتورين الذي يبلغ من العمر 93 عاماً، لا يزال يواصل الكتابة وقد صرح لإحدى الصحف"اعتقدت أنه عند شيخوختي ستكون لدي رغبة، أقلّ فأقل، للتفكير الجدي، لكن من دون أن أنام، مع ذلك، أمام التلفزيون".
في كتاب"ما هي الديمقراطية"يعالج تورين مسألة مهمة ربما يعاني منها العراق الآن وهي: هل الديمقراطية بالفعل هي حكم الأكثرية؟، أم أنها إلى جانب ذلك هي ضمانات الأقلية، وتورين يدعو إلى نظام سياسي، يسعى إلى الجمع بين قانون الأكثرية واحترام الأقليات، وإلى عملية استيعاب المهاجرين ضمن شعب معين، وإلى إيجاد طريقة تمكّن النساء من الوصول بصورة طبيعية إلى موقع القرار السياسي، وهو يرى أن قوة الديمقراطية تتأتى من النضال الذي تمارسه القوة المجتمعية الفاعلة، ضد منطق الأجهزة المسيطرة، حيث ينبغي لنا حسب تورين أن نضع شروطاً مؤسساتية تشكل تعريف الديمقراطية بذاتها، وتفضي إلى امتزاج التنوع الثقافي عبر انضواء الجميع تحت وحدة القانون والعلم وحقوق الإنسان.. يعلن تورين بوضوح أن :"العالم الإنساني قد تم اجتياحه من اللاإنساني وما فوق البشري كليهما معاً، ولم يعد الاجتماعي يمثل الانساني حصراً"، وهو ما دفعه إلى التاكيد بأننا الآن وبسبب سياسات الحكومات دخلنا مرحلة نهاية الاجتماعي وزواله وتلاشيه، فبدل أن يكون العالم الحديث مأوى للإنسان ومسكناً له، تحول إلى معتقل.
يصر تورين في كتابه"ما هي الديمقراطية"على القول إن الديمقراطية والتنمية لا يمكن أن تعيشا إلا متحدتين، لا مفترقتين، وهو يرى أن التنمية السلطوية تنتج أزمات اجتماعية متزايدة الخطورة، والديمقراطية التي تتحول الى محض سوق سياسية مفتوحة، ولا تتحدد بكونها تسييراً متوازياً للتغيرات التاريخية ولمصالح الأفراد والمجتمع معاً، ستضيع في النهاية في متاهة بيروقراطية الأحزاب والفساد السياسي.