ما هي الديمقراطية؟ استعادة لسؤال قديم وإجابة في رؤية جديدة

ما هي الديمقراطية؟ استعادة لسؤال قديم وإجابة في رؤية جديدة

عقيل يوسف
ما هي الديموقراطية؟ هو عنوان الكتاب الذي أصدره قبل أعوام عدة عالم الاجتماع الفرنسي (آلان تورين). ولكن ما هي وجاهة هذا السؤال من جديد ولاسيما أن البعض الكثير يرى أن هذا المفهوم قد ترسّخ أو كاد في العقل والتاريخ.

فبعد كل الضجّة والثورات والنضالات التي حصلت في العالم من أجل الديموقراطية وكل التضحيات والدماء التي سالت من أجلها، وبعد كتابة آلاف الكتب حول الديموقراطية وأزماتها وسبل الوصول إليها وتحقيقها..إلخ. هاهو تورين يعود ليطرح السؤال من جديد (ما هي الديمقراطية؟).
لعل مجرد طرح السؤال يشكّل تشكيكاً ونقداً لتلك الديمقراطيات كما مورست منذ نشأتها وحتى الوقت الراهن. وبداية النقد تعود إلى بداية الفكرة، وقد انطلقت بحسب تورين عبر نقض الأفكار التقليدية والاستبدادية.
ولأن المشكلة الأساسية كانت، بالنسبة إلى أوروبا، هي التوتاليتارية أي الشمولية في القرن العشرين، فقد أعطيت الأولوية في تعريف الديموقراطية لفكرة (الحد من السلطة)، الحد من سلطة الدولة عن طريق القانون أو عن طريق الاعتراف بالحقوق الأساسية.
إذاً فقد جاء التحديد الأولي للديموقراطية سلبياً باعتبار أنها نقيض التوتاليتارية والديكتاتورية والشمولية. إلاّ أن الحد من سلطة الدولة، على ضرورته، لا يمكن أن يقدم ضماناً للديمقراطية وقد حذّر الكثير من المفكرين والباحثين من غياب الدولة معتبرين أن (الدولة أسوأ الشرور قاطبة باستثناء تلك التي ستنجم عن غيابها).
والبديل من سلطة الدولة في المجتمعات (المتقدمة) و(الحديثة)، هو هيمنة سلطة رجال المال والإعلام. أما في المجتمعات الأقل تقدماً، فستخضع لهيمنة العصبيات الطائفية أو العرقية أو الإثنية والهويات المنغلقة على نفسها.
من هنا يتميّز طرح تورين بنقده ما يسمى الضمانات المؤسساتية والدستورية والقانونية وعدم كفايتها في تحقيق الديموقراطية، داعياً إلى تطوير فلسفة سياسية إيجابية تعتمد على (الذات الفاعلة).
هذه الذات ليست عقلاً محضاً، ولا هي هوية ثقافية مخصوصة، ولا حرية شخصية مجردة. إنها ذات تركّب وتجمع بين هذه المعطيات، وهي، بما أنها (مركبة)، تستطيع أن تعيد تركيب العالم باستمرار.
من هنا، لم تعد الديموقراطية عند تورين (تشاركية) أو (تشاورية) بمقدار ما أصبحت (تحررية) و(تركيبية) في الوقت نفسه. وهي (تركيبية) لأنها تقوم على الاعتراف بالآخر، والاعتراف بتنوع المعتقدات والأصول والآراء والمشاريع.
وعندما يقول آلان تورين إن الذات ليست عقلاً فقط، فهو بذلك يقوم بـ (نقد الحداثة) وهو بالمناسبة عنوان كتاب للمؤلف نفسه. وهو نقد لمفهوم (الذات العاقلة) عند هيغل (1770- 1831م) – من دون أن يسمّيه – التي تقوم على العقل والذي حدّد دوره وغايته بالاعتراف بالآخر قبل أن تكون غايته المعرفة.
ونقد الحداثة يعني نقد تلك الثنائية التي قام على أساسها العقل الحديث و(عصر التنوير) كثنائية الوعي واللاوعي، التقدم والتخلّف، العقل والدين، التراث والحداثة، الوحدة والتعددية..إلخ، إنه نقد لهذا التجاوز والتستّر، ولهذا الإهمال والنفي والاستبعاد والتهميش لما هو غير عقلي، لهذا (اللا مفكر فيه) بحسب تعبير محمد أركون.
فهذا اللا مفكر فيه، المكبوت، عاد لينتقم وبشكل لا واعٍ ولا معقول، وهذا ما يفسّر عودة الأفكار التي توصف حيناً بـ (الأصولية) وحيناً آخر بـ (العنصرية) و(الرجعية) وغيرها من مفردات مرادفة.
الديمقراطية = ثقافة
من هنا، وجاهة طرح تورين الجديد وتحديده للديموقراطية باعتبارها ثقافة، أكثر مما هي مجموعة من المؤسسات والتدابير الإجرائية. إنها ثقافة تنظّم الحوار بين الثقافات المختلفة وتقوم بدور التوفيق والجمع والدمج بينها.
وهو يدعو أيضاً إلى ترجمتها ببرامج تربوية تولي أكبر الأهمية للاعتراف بالآخر، والاعتراف بالفروقات والاختلافات، هذا الاعتراف الذي يقوم على المساواة باعتبارها المسألة المركزية والدائمة لكل الأفكار والسياسات الديمقراطية.
لذلك كان لا بد من الإشارة إلى هذا الربط الذي قام به المؤلف بين (مبدأ المساواة) باعتباره مفهوماً مركزياً لكل الأفكار الديموقراطية، وتبنّيه تعريف المفكّر الكندي شارل تايلور للديموقراطية بأنها (سياسة الاعتراف بالآخر).
فهل الاعتراف بالفروقات وبالاختلافات هو في الوقت نفسه اعتراف بالمساواة؟ أليس في الاعتراف استسلام للواقع؟ أم كان عليه أن يقول بأنها سياسة (الاعتراف بالأقوياء)، أو على الأصح (اعتراف الأقوياء)، أي اعتراف الأكثرية بالأقلية، والأغنياء بالفقراء والسلطويين بعامة الشعب؟
إلاّ أن الدعوة إلى المساواة التي يطلقها تورين لا تقتصر على المساواة في الحقوق أو على تكافؤ الفرص أو تقليص الفواصل المجتمعية والتوزيع المجحف للموارد المادية والرمزية.
إنها مساواة تقوم على (وعي بالانتماء المشترك لمجال بشري واحد لا يعتبر ملكاً لأحد، لا للفقراء ولا للأغنياء، لا للحديثيين ولا للقدماء).
ويبدو أن تورين استفاد في نظريته هذه من طروحات وسياسات الحركات المجتمعية والثقافية ذات البُعد الكوني. إنها حركات وسياسات ما فوق تعددية وما فوق قومية.
ويبقى الرهان في النهاية مع آلان تورين على (الحركات المجتمعية) كما يسميها، أو على القوى المدنية والأهلية كما هو متعارف على تسميتها. وهو ليس رهاناً على تشكلها كجماعات ضغط سياسي فحسب، بل على عمل أفراد يريدون أن يكونوا قوى مجتمعية فاعلة ومنتجة لثقافة توفّق بين أشكال التنظيم المجتمعي التي لا بد منها والذاتيات التي لا غنى عنها. إنها ثقافة ديمقراطية جديدة مدعوّة لإيجاد توجّه جديد لتطوّر المجتمع.