الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري
نـشـرت مـجـلّـة الـنّـاشـيـونـال جـيـوغـرافـيـك The National Geographic Magazine الأمـريـكـيـة في عـددهـا الـسّـادس (مـجـمـوعـة 26) الـصّـادر في شـهـر كـانـون الأوّل 1914، مـقـالـيـن عـن الـعـراق، عـنـوان الأوّل مـنـهـمـا : الـمـكـان الّذي عـاش فـيـه آدم وحـواء Where Adam and Eve Lived، والـثّـاني : Mystic Nedjef, the Shia Mecca.
وهـذه الـمـجـلّـة تـصـدرهـا الـجـمـعـيـة الـجـغـرافـيـة الأمـريـكـيـة الّـتي أسـسـت عـام 1888، والّـتي كـان مـشـروعـهـا :"نـشـر الـمـعـارف الـجـغـرافـيـة".وسـأبـدأ بـالـكـلام عـن الـمـقـال الأوّل الّـذي كـتـبـه فـردريـك سِـمـبِـك وشـاركـت فـيـه زوجـتـه مـرغـريـت.
وفـردريـك سِـمـبِـك وزوجـتـه يـسـتـعـمـلان صـيـغـة الـمـتـكـلّـم، فـلا نـعـرف بـالـضّـبـط مـن كـتـب مـاذا، ولـكـن يـبـدو أنّ مـرغـريـت كـتـبـت مـا يـتـعـلّـق بـنـسـاء بـغـداد وخـاصـة زيـارتـهـا لـ"حـريـم"رجـل مـن أغـنـيـائـهـا، وكـذلـك عـن نـسـاء الـبـاديـة.
يـبـدأ الـمـقـال بـالـكـلام عـن سـحـر اسـم"بـغـداد"ومـا يـثـيـره في مـخـيـلـة الـقـارئ الأمـريـكي في ذلـك الـزّمـن مـن صـور"ألـف لـيـلـة ولـيـلـة"و"هـرون الـرّشـيـد"… ولـكـنّ الـوصـول إلى الـعـراق كـان صـعـبـاً فـقـد قـضى كـاتـب الـمـقـال أيـامـاً عـديـدة يـبـحـث عـن وكـالـة سـفـر يـمـكـن أن تـوصـلـه وزوجـتـه إلى بـغـداد. واسـتـطـاع الـحـصـول في الـنـهـايـة عـلى بـطـاقـة تـوصـلـهـمـا مـن نـيـويـورك إلى مـصـر، وأخـرى مـن مـصـر إلى عـدن، ثـمّ مـن عـدن إلى بـومـبـاي، ومـنـهـا إلى كـراتـشي فـمـسـقـط. ومـن مـسـقـط إلى الـبـصـرة.
ويـبـدو أنّ كـاتـب الـمـقـال غـادر نـيـويـورك مـع زوجـتـه في نـهـايـة عـام 1913 أو بـدايـة 1914، فـهـو يـذكـر أنّـهـمـا أقـامـا في الـعـراق سـنـة، وقـد نـشـر مـقـالـهـمـا في نـهـايـة عـام 1914.
وعـنـدمـا كـانـا عـلى مـتـن الـبـاخـرة الّـتي عـبـرت بـهـمـا الـمـحـيـط الأطـلـسي نـظـر إلـيـهـمـا الـقـبـطـان بـدهـشـة عـنـدمـا أخـبـراه بـوجـهـتـهـمـا، ثـمّ هـمـس لـصـبي الـبـاخـرة أن يـأتي لـه بـأطـلـس فـقـد أثـار اسـم بـغـداد فـضـولـه وأراد أن يـعـرف في أي مـكـان في الـعـالـم تـقـع هـذه الـمـديـنـة!
بـغـداد :
وبـعـد سـفـرة طـويـلـة اقـتـربـا مـن بـغـداد، الّـتي تـقـع في :"بـلاد الـعـرب الـتّـركـيـة وبـدت لـهـمـا في الأفـق قـبـابـهـا ومـنـائـرهـا الـرّائـعـة الـجـمـال، ثـمّ أبـصـرا بـجـسـر الـقـوارب الّـذي يـربـط بـيـن جـانـبي الـمـديـنـة، وخـاصـة بـجـانـبـهـا الـغـربي الّـذي تـحـيـط بـ"الـمـديـنـة الـقـديـمـة"فـيـه غـابـات الـنّـخـيـل والـبـرتـقـال.
ونـزلا مـن الـبـاخـرة لـيـركـبـا"قـفّـة"تـوصـلـهـمـا إلى الـشّـاطئ. ويـصـف سِـمـبـك تـلـك"الـقـفّـة"بـأنّـهـا مـسـتـديـرة مـثـل سـلّـة حـيـكـت مـن أغـصـان الـصّـفـصـاف قـطـرهـا حـوالي 6 أقـدام طـلـيـت بـالـقـار، ونـقـرأ في الـمـقـال أنّـه لـم يـكـن في بـغـداد شـوارع وإنّـمـا دروب لا يـمـكـن فـيـهـا لـحـمـاريـن أن يـتـجـاوز الـواحـد مـنـهـمـا الآخـر، وأنّ سـوراً كـان يـحـيـط بـالـمـديـنـة مـا زالـت بـعـض أبـوابـه قـائـمـة، وأنّ الـدور الـبـغـداديـة مـسـطـحـة الـسّـقـوف، لا نـوافـذ لـهـا وتـحـيـط بـحـوش داخـلي، وأنّ الـعـرب يـقـضـون لـيـالي الـصّـيـف عـلى الـسّـطـوح يـضـربـون عـلى الـطّـبـول ويـنـفـخـون في الـنّـايـات بـيـنـمـا تـرقـص نـسـاؤهـم!
وأول مـا نـلاحـظـه في هـذا الـمـقـال عـنـد قـراءتـه سـطـحـيـة الـمـعـلـومـات الّـتي وضـعـت فـيـه وقـلّـة تـنـظـيـم الـسّـرد فـنـحـن نـجـد في نـفـس الـمـقـطـع اسـتـطـرادات يـقـفـز فـيـهـا الـكـاتـب مـن مـوضـوع إلى آخـر، ثـمّ يـكـمـل حـديـثـه عـن الـمـوضـوع الأول في الـمـقـطـع الـتّـالي أو الّـذي بـعـده!
ولا شـكّ في أنّ الـقـارئ كـان يـنـتـظـر أن يـجـد مـقـالاً جـديّـاً في مـجـلّـة تـصـدرهـا جـمـعـيـة جـغـرافـيـة، ولـكـنّـه لا يـقـرأ إلّا اسـتـطـلاعـاً صـحـفـيـاً مـسـطّـحـاً لا تـعـمّـق فـيـه ولا تـدقـيـق.
وتـزداد دهـشـتـه عـنـدمـا يـذكـر كـاتـب الـمـقـال، الّـذي لـم يـكـلـف نـفـسـه مـشـقّـة قـراءة كـتـاب تـاريـخ عـن بـغـداد، أنّ الـخـلـيـفـة الـمـنـصـور شـيّـد الـمـديـنـة سـنـة 731 م.! ويـنـتـقـد مـاضـيـهـا"الـمـلئ بـالـعـنـف"مـقـارنـة بـحـاضـرهـا الّـذي بـدأت فـيـه تـتـحـضّـر بـفـضـل احـتـكـاكـهـا بـأوربـا الـحـديـثـة!
ونـعـود إلى الـمـقـال، ونـقـرأ فـيـه أنّـه"شـيّـدت أمـام الـنّـهـر، بـعـيـداً عـن أحـيـاء الـعـرب، قـنـصـلـيـات الـدّول الأجـنـبـيـة الـمـهـيـبـة ومـكـاتـب الـتّـجـارة والـدّور الـفـخـمـة لأغـنـيـاء الـيـهـود والأرمـن والـيـونـان والـسّـوريـيـن، أي الـرّجـال الّـذيـن صـنـعـوا بـغـداد الـحـديـثـة"، ولـكـنّ"زمـن عـلي بـابـا (وحـكـايـات ألـف لـيـلـة ولـيـلـة) كـان قـد مـضى، وأغـلـب قـصـور الـمـديـنـة الـقـديـمـة ومـسـاجـدهـا تـتـسـاقـط خـرابـاً".
ويـتـكـلّـم عـن طـرقـات بـغـداد الآمـنـة في الـلـيـل مـثـلـهـا مـثـل شـوارع نـيـويـورك أو لـنـدن، ويـذكـر أنّ مـقـر قـيـادة الـجـيـش الـسّـادس الـعـثـمـاني، الّـذي يـضـمّ 25000 جـنـدي، كـان في بـغـداد.
ويـتـكـلّـم عـن تـجـارة بـغـداد الّـتي سـيـطـر عـلـيـهـا الأرمـن والـيـهـود الّـذيـن يـصـدّرون بـالـبـواخـر الـصّـوف والـتّـمـر والـسّـجـاد إلى أمـريـكـا ويـسـتـوردون مـن مـديـنـة مـانـشـسـتـر الإنـكـلـيـزيـة بـضـائـع تـصـل قـيـمـتـهـا إلى مـا يـعـادل 5 مـلايـيـن دولار سـنـويـاً.
ويـعـود كـاتـب الـمـقـال إلى ذكـر أنّ"دروب بـغـداد الـضّـيـقـة تـسـتـمـرّ في ضـجـيـجـهـا بـعـد حـلـول الـلـيـل بـوقـع الـدّنـابـك الـمـمـل وصـخـب الـنّـاي الـحـاد. وتـغـني نـسـاء مـطـلـيـات الـوجـوه مـتـزيّـنـات بـأقـراط وحـجـول ومـرتـديـات سـراويـل واسـعـة ويـرقـصـن عـلى الـسّـطـوح. ولـكـنّ الأقـراط والـحـجـول مـسـتـوردة مـن الـنّـمـسـا. أمّـا الـنّـسـاء فـجـئـن مـن بـورسـعـيـد"."ونـجـد أعـداداً مـن الـمـقـاهي عـلى ضـفـة دجـلـة يـجـلـس فـيـهـا في الـمـسـاء سـمـاسـرة يـدخـنـون الـنّـارجـيـلـة ويـتـحـدثـون عـن تـجـاراتـهـم. وحـتّى طـرابـيـشـهـم اسـتـوردت مـن ألـمـانـيـا".
ونـلاحـظ أنّ كـاتـب الـمـقـال أخـطـأ هـنـا أيـضـاً فـالـطـرابـيـش كـانـت تـسـتـورد خـاصـة مـن مـديـنـة"فـيـيـنـا"عـاصـمـة الـنّـمـسـا، ولـهـذا كـان الـبـغـداديـون يـسـمـونـهـا"الـفـيـنـة".
ويـكـمـل :"ولا تـصـنـع في بـغـداد مـمـا يـرتـدون إلّا نـعـالـهـم الـجـلـديـة الـحـمـراء الـمـرتـفـعـة الـمـقـدمـات وكـوفـيـاتـهـم الـبـرّاقـة وعـبـاءاتـهـم الـواسـعـة".
“وتـبـدو دروب الأسـواق أنـفـاقـاً عـقّـدت سـقـوفـهـا بـالـطّـابـوق لـتـحمي الـنّـاس مـن لـهـب الـقـيـظ. وهي تـقـطـع حيّ الأسـواق مـثـل مـسـالـك مـا تـحـت الأرض في كـل الإتـجـاهـات، طـويـلـة خـانـقـة قـلـيـلـة الإضـاءة مـكـتـظـة بـالـنّـاس والـبـغـال والـجـمـال. وعـلى كـلّ جـانـب مـنـهـا دكـاكـيـن لا تـتـجـاوز سـعـتـهـا سـعـة أكـشـاك الـهـواتـف الـعـامـة يـتـربّـع فـيـهـا تـاجـر يـهـودي أو عـربي تـتـكـوّم حـولـه بـضـائـع تـصـل إلى الـسّـقـف".
“ويـنـصّ قـانـون مـعـمـار قـديـم عـلى أن سـقـف الـسّـوق يـنـبـغي أن يـشـيّـد عـلى ارتـفـاع يـمـكـن لـراكـب جـمـل يـحـمـل رمـحـه أن يـمـرّ تـحـتـه. ومـع ذلـك يـتـرك الـبـدو في أيّـامـنـا هـذه جـمـالـهـم خـارج أبـواب الـمـديـنـة"،"وتـرتـفـع مـن حـنـاجـر لا تـعـدّ ولا تـحـصى نـقـاشـات بـالـعـربـيـة والأرمـنـيـة والـتّـركـيـة والـكـرديـة والـفـارسـيـة والـيـونـانـيـة والـهـنـدوسـتـانـيـة والـفـرنـسـيـة، وتـسـمـع صـيـاح :"بـالـك!"…"بـالـك أفـنـدي!
“ويـمـكـن الـتّـعـرف عـلى سـكـان الـبـاديـة بـيـنـهـم مـن أوّل نـظـرة : مـن شـعـورهـم الـكـثّـة الـمـنـسـدلـة عـلى أكـتـافـهـم ومـن مـلابـسـهـم الّـتي بـهـتـت ألـوانـهـا تـحـت ضـربـات الـشّـمـس ومـن هـراواتـهـم الـضّـخـمـة ومـن نـظـراتـهـم الـمـتـوحـشـة. وتـراهـم يـرفـعـون أطـراف عـبـاءاتـهـم إلى أنـوفـهـم لـتـحـمـيـهـم مـن روائـح الـسّـوق الـكـريـهـة وهـم الّـذيـن تـعـودوا عـلى اسـتـنـشـاق الـهـواء الـنـقي في فـيـافـيـهـم. ويـمـوت آلاف مـن أهـل الـسّـوق مـن مـرض الـسّـل كـلّ عـام".
“ولـلـبـاعـة الـمـتـجـولـيـن طـريـقـتـهـم في مـمـازحـة الـمـشـتـريـن، فـيـصـيـح بـائـع الـزّهـور بـالـمـارّة وهـو يـمـدّ بـبـاقـاتـه :"صـالـح حـمـاتـك!". ويـنـادي بـائـع الـفـطـائـر الـمـشـويّـة :"أمّ الـنّـاريـن! أمّ الـنّـاريـن!".
“ونـجـد في الـدّروب الـجـانـبـيـة أمـاكـن مـبـهـرجـة هي الـمـسـارح الـشّـديـدة الإضـاءة في الـلـيـل والّـتي يـشـرب فـيـهـا الـنّـاس كـمـيـات كـبـيـرة مـن الـقـهـوة، ونـرى فـيـهـا سـاحـراً يـبـتـلـع سـيـوفـاً أو يـخـرج عـلاجـيـم ضـفـادع مـن عـمـامـتـه الـوسـخـة …".
“وتـبـقى الأسـواق مـفـتـوحـة كـلّ الـلـيـل في رمـضـان، فـالـمـسـلـمـون يـصـومـون طـيـلـة الـنّـهـار لـمـدّة شـهـر ولا يـأكـلـون إلّا في الـلـيـل بـعـد أن يـضـرب مـدفـع الـسّـراي في الـمـغـرب".
“وأكـل الـنّـاس شـديـد الـدّسـم. دهـن يـسـتـخـرجـونـه مـن ألـيـات الـنّـعـاج ونـقـانـق مـن لـحـم الـمـاعـز وقـرع ورمّـان ولـيـمـون وتـمـر وتـيـن مـجـفـف ولـحـم خـرفـان وبـقـر. نـجـد عـنـدهـم كـلّ أكـل إلّا لـحـم الـخـنـزيـر. ولا أحـد يـمـوت هـنـا مـن الـجـوع. أمّـا الـمـتـسـولـون فـهـم قـلّـة".
عن (بـيـن دجـلـة والـفـرات مـدونـة الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري)