فيليب روث.. الساخط الفكاهي المتعجرف

فيليب روث.. الساخط الفكاهي المتعجرف

محمد حجيري
"في أحدى المرات كتب فيليب روث(1933 ــ 2018)"أيها الموت.. أنت تجيء عندما تكون الأبعد من بالي". لا نعرف ان كان هذا القول قد حضر في ذهن روث، لحظة توقف قلبه ورحيله. هو افتراض أدبي في لحظة موت روائي يعتبر من أبرز أدباء القرن العشرين، وفي العام 2005 أصبح واحداً من ثلاثة كتّاب أحياء حُفظت كتبهم في المكتبة الأميركية،

مع الكاتبين سول بيلو وجون أبدايك. كتب مرة يقارن بينه وبين هذين الروائيَين:"أبدايك وبيلو يحملان كشافهما الضوئي خارجاً في العالم، ويكتشفان العالم كما هو. أما بالنسبة لي، فأنا أحفر كوة وأسلط عليها الضوء".

وصاحب رواية"السخط"وقصة"الثدي"، من الأسماء التي بقيت متداولة لسنوات كمرشحة لجائزة نوبل للآداب، فمات ولم ينلها. بل مات في العام الذي احتجبت فيه الجائزة لأسباب باتت معروفة. مقابل هذا التجاهل من الجائزة الأسوجية، حصد روث جوائز أدبية مثل"بوليتزر"عن روايته"حكاية رعوية أميركية"(1997)، و"جائزة مان بوكر الدولية"(2011) وثلاث جوائز"PEN/فوكنر"، وثلاث من جوائز"الكتاب الوطني لدائرة النقاد"الأميركية. وعدا عن ضجيج نوبل الموسمي، نعرف أن روث تحدى نفسه وأعلن تقاعده أو اعتزاله ثم عودته ثم اعتزاله. فعندما كان يستعد لعيد ميلاده الثمانين، قال:"أصعب شيء في الحياة أن نكسر الصمت بالكلمات، ثمّ نكسر الكلمات بالصمت". أضاف:"هذا الشّيء الّذي لطالما كان ثمينًا بالنسبة إليّ على امتداد العمر، لم يعد له مكانٌ في صميم حياتي".
أعلن روث هذا القرار غداة إصدار روايته الأخيرة"نيميسيس". ومعروف أن"نيميسيس"هي آلهة الانتقام في الحضارة الإغريقية، وهي أيضاً كلمة شائعة في الولايات المتحدة الأميركية وتعني القدرية التي لا يمكن الإنسان أن يتخلص منها. تنبأ روث بموت الرواية، ورغب في أن ينعم بـ"استراحة المحارب"الذي نَذَر حياته للكتابة، فلا يكاد يمرّ يوم واحد من دون أن يكون منشغلاً بها، بأساليبها، وفنّياتها، وهمومها، وآلامها. قال إنه لا يريد العودة إلى الأدب، وإنه يعيش حياة سعيدة كروائي متقاعد يمضي أيامه في السباحة ومراقبة الطبيعة والاستمتاع بحقيقة"أن الحياة ليست كلها كتابة روايات ونشرها". وأكد نظرته السوداوية إلى الأدب قائلاً:"بعد عقدين من الآن سيكون جمهور الرواية الأدبية بعدد الأشخاص الذي يقرأون الشعر باللغة اللاتينية".
فيليب روث غير البعيد من الأجواء الكافكاوية، يصفه روبرت مكروم في"الأوبزرفر"بـ"المتعجرف المزعج، والفكاهي في الوقت نفسه". وهو ألّف أكثر من 30 كتاباً. باكورته القصصية"وداعاً كولومبوس"(1959) حصدت"جائزة الكتاب الوطني"الأميركية، فيما نقلته رواية"شكوى بورتنوي"(1969) إلى موقع الكاتب النجم بعد بيعها أكثر من 400 ألف نسخة لدى صدورها، من دون أن تحميه من اتهامات"معاداة السامية". روايتة"بورنوي وعقدته"(1967)، اثارت فضيحة، إذ تروي، بسخرية لاذعة، اعترافات محام يهودي شاب مضطرب جنسياً، لطبيبه النفسي، ما دفع بحاخامات أميركيين الى اتهامه بمعاداة السامية، وانتقدته شخصيات يهودية بارزة بسبب كتاباته عن الوضع اليهودي. لكنه كان يقول:"أنا لا أكتب بصفتي يهودياً بل بصفتي أميركياً".
بعض أعماله نبش أجواء أميركا وتناقضاتها، ووثق أبرز فتراتها التاريخية الحديثة مثل مرحلة الخمسينيات والحرب الكورية في"نقمة"(2008)، وحقبة الفاشية الأميركية خلال الأربعينيات في"خطة ضد أميركا"(2004). وثمة من اتهمه بالانحياز الى اسرائيل في بعض الأعمال. وفي مذكراته الصادرة العام 1991 تحت عنوان"باتريموني"، تناول علاقته المعقدة بوالده، ونال عنها جائزة دائرة نقاد الكتب الوطنية. وفي سنواته الأخيرة، تحول روث إلى أزمات منتصف العمر الوجودية والجنسية، من دون أن يتخلى عن التزامه باستعراض أسرار النفس، مثل الخزي والإحراج. لكن عادة ما خرج ذلك مصحوباً بجرعة كبيرة من الدعابة. هكذا تنوعت كتابات روث ما بين السخرية السياسية، والمحاكاة الساخرة، والخرافة، قبل ان يعود الى كتابة السيرة الذاتية وشيء من الرومانسية. وكان قد عَيّن أخيراً، الكاتب بليك بايلي، لكتابة سيرته الذاتيّة التي يُتوقّع نشرها العام 2022.
هوجم روث وتعرض لعاصفة من الإشاعات، واتهمه البعض بأنه يكتب عن نفسه وعائلته وعلاقات الغرامية في شخصيات رواياته. الأمر الذي نفاه روث بحزم، وقال :"الكتّاب الحقيقيون هم كذلك، لأنهم يملكون ما لا يملكه الآخرون، المخيلة". واتُّهم روث من قبل المنظمات النسوية بمعاداة المرأة، بعدما اتهمته زوجته السابقة"بعدم النزاهة"، الأمر الذي دفع عدداً من النساء إلى التظاهر بعد منحه جائزة"مان بوكر".
ولد روث العام 1933، في نيو آرك بولاية نيوجرسي، وتلقى تعليمه في مدارسها العامة وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة باكنيل، والماجستير من جامعة شيكاغو، ولم يكمل درجة الدكتوراه. عمل في تدريس اللغة الإنكليزية، ثم في تدريس الكتابة الإبداعية في جامعة آيوا وبرنستون، وتقاعد من مهنة التدريس العام 1992 ليتفرغ نهائياً للكتابة، وقد تزوج العام 1990 من الممثلة كلير بلوم التي تخصصت في أداء الأدوار الشكسبيرية.
في أواخر العام الماضي، أصدرت"مكتبة لابلياد"الشهيرة، المجلّد الأول من أعمال فيليب روث، وضمّ رواياته من العام 1959 إلى العام 1977. وسبق لـ"مكتبة أميركا"، وهي معادلة لـ"لابلياد"لكنّها متخصّصة في الكتّاب الأميركيين، أن أصدرت قبلها بأشهر قليلة، المجلّد الثاني والأخير المكرّس لفيليب روث، بعنوان"لماذا أكتب؟"، وهو يجمع العديد من المقالات التي كتبها خلال مسيرته الأدبية.
وفي حوار أجرته معه جوسلين سافينيو، لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية ونشره موقع "ضفة ثالثة" بالعربية، قال روث إن "الرواية الأميركية العظمى" ليست فقط كتابًا عن البيسبول، إنّها محاكاة ساخرة لفولكلور وأساطير هذه اللّعبة. وقد يبدو الكتاب غير مفهومٍ لشخص أوروبيّ مثلما تبدو"يقظة فينيغان"غير مفهومة بالنسبة إليّ. وعن واقع أميركا في ظل دونالد ترامب، قال:"الكابوس الّذي تعيشه أميركا اليوم - وهو في الحقيقة كابوس- يرجع إلى أنّ الرجل الّذي انتُخب رئيساً، يعاني نرجسيّة مفرطة، إنّه كذّاب كبير، جاهل، متعجرف، كائنٌ وقِح تُحرّكه روح الانتقام ومُصاب بالخرف مسبقًا. وإذ أقول ذلك، فأنا أُقلّل من عيوبه إلى أدنى حدّ. إنّه، يوماً بعد يوم، يثير سخطنا بسلوكه، ونقص خبرته وانعدام كفاءته. ولا حدود للأخطار الّتي يمكن لجنون هذا الرجل أن يجُرّها على البلاد وعلى العالم أجمع".
عن جريدة العرب