فيليب روث.. الكفاح بالكتابة

فيليب روث.. الكفاح بالكتابة

علي حسين
ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته يحتفظ، بملاحظة على شاشة كومبيوتره تقول :"الكفاح بالكتابة انتهى". وقد صرّح لكاتب سيرته قائلاً :"إنني أنظر إلى تلك الملاحظة كلَّ صباح، وهي تمنحني قدراً كبيراً من القوة".
كان فيليب روث قد قرر عام 2011 اعتزاله الكتابة، حيث يرى أنه لم يعد يجد منفعة في الرواية، كما كان الحال من قبل، ويعزو سبب ذلك في ردّه على أسئلة الصحافيين"لقد نضجتُ!"..

في سنواته الأخيرة ظل يعبّر عن سروره لأنّه أصبح"حرّاً"!، فهو مرتاح لقرار إنهاء مسيرته كأحد أكثر الكتّاب الأميركيين شهرةً في العالم، لم يعد يشعر كما قال بالطاقة لإدارة الإحباط المرافق للحالة الإبداعيّة،"ليس لديّ الطاقة على تحمل الإحباط، إن تكتب يعني معايشة حالة إحباط يومي، دون أن أتكلّم عن الاهانة"!.

كان قبل هذا القرار يأمل في إنهاء عشرة أعوام من النحس النوبلي، لكن الجائزة دائماً ما كانت تخدعه. ولم يكن أمامه من خيار غير أن يعيد قراءة الروايات التي أحبها على مدار عقود من عمره، فلوبير هنري جيميس وليام فوكنر والمعلم فرانز كافكا، وقال للصحافيين: إنه يقرأ لكي تزداد أفكاره عن الحياة. وصفه النقّاد بأنه امتداد لوليم فوكنر ولسكوت فيتزجيرالد صاحب غاتسبي العظيم، قال للصحافيين بعد قراره باعتزال الكتابة :"أردت أن أرى إن كنت قد أضعت الوقت بالكتابة!". مع انه لا يشكك بالقيمة الإبداعية لما كتب، ويرى أنه مارس مهنة الكتابة بنجاح وبذل ما بوسعه من أجل أن يقدم الحقيقة مجردة للقرّاء. طلب من القائمين على موقع"ويكيبيديا"إزالة جملة تقول إن كتابته"موضع إلهام لبقيّة الكتاب".
لا يصعب على فيليب روث الذي ولد في نيويورك عام 1933 لعائلة يهودية، استعارة حياة الآخرين وتغليب طابع السخرية عليها. روايته الأولى"وداعاً كولومبوس"الصادرة عام 1959، لفتت أنظار النقاد إليه. لكن روث يرفض القول إنه كتب رواية عن تاريخ أميركا، إنها حياته التي أراد أن يفككها ليفهم كيف يفكر ابناء الطبقة الوسطى من اليهود وهم يعيشون في مدينة كبيرة مثل نيويورك.. بطل الرواية يعمل في وظيفة بسيطة يحصل من خلالها على أجر متدنٍ، يعاني من صراع الهوية الذي يطارده كظله، ظل الكاتب الوحيد الذي يجد القرّاء اسمه على ترشيحات نوبل كل عام، ولم يصدّق القرّاء والنقّاد أن الجائزة تدير ظهرها له، أهم روائي في أميركا حسب استطلاعات القرّاء، وربما كان أحد الأسماء القليلة التي تعرّف عليها القارئ العربي بسبب وجوده الدائم على قائمة المرشّحين لجائزة نوبل. مع أن اعماله التي ترجمت الى العربية قليلة جداً – من بين واحد وثلاثين عملاً روائياً كتبها فيليب روث خلال حياته لم تُترجَم له في العربية سوى أربعة اعمال"الحيوان المحتضر"و"كل رجل"و"سخط"و"الوصمة البشرية"- كان يخشى أن ينساه القرّاء، يقول لكاتب سيرته :"لا اخشى الموت لكني أخشى النسيان أكثر، أخاف من ألاّ أكون مفعماً بالحياة، ببساطة أخاف من ألا أشعر بالحياة، من ألا أشمها، أحضن بين ساعديك الحياة مثلما تحضن امرأة ليكون لديك الشعور الأفضل ولكن على امتداد سنوات تلت، قد قررت ألاّ أفكر بالموت أبداً. أصعب أنواع الوداع هي تلك التي تقولها لذاتك، وبشكل عميق وسري."
اغرم في شبابه بأدب فرانز كافكا :"قرأت ما يكفي من كافكا في حياتي.، ودرسته وعلمته ثم أعدت قراءته كاملاً"، ويتذكر أن رواية"المسخ"سحرته منذ الصفحة الأولى، فحاول تقليدها، جلس ليكتب روايته الأولى عن رحلة شاب مغمور في مدينة كبيرة، وفيها يطرح اسئلة عن جدوى الحياة ومصير الإنسان. وبالرغم من أن والدته اخبرته أن روايته ممّلة ولا معنى لها، لكنه جازف وأرسلها الى احدى دور النشر قائلاً لأحد اصدقائه:"أخيراً وجدت مهنة تناسبني.. إنها الكتابة".. لتحصل الرواية"وداعا كولومبيس"على جائزة الكتاب الوطني للرواية، وتتوالى بعد ذلك الجوائز التي بلغت 19 جائزة، أشهرها بوليتزرومان بوكر الدولية، وثلاث مرات جائزة فوكنر، ليتوّجها بالحصول على جائزة كاتبه المفضل كافكا، ويصبح بعد ذلك واحداً من أهم أربعة كتّاب في تأريخ الأدب الأميركي الى جانب وليام فوكنر وسول بيلو وجون أبدايك. ومثل كافكا كان جميع ابطال رواياته يعانون قلقاً وجودياً، ويعتقدون أن ثمة مؤامرة تُحاك ضدهم يقول لكاتب سيرته بليك بيري :"شخصياتي في حالة دائمة من اللا توازن، على حافة السقوط، هي ليست حالة احباط، ولكن على الأرجح هي حالة تعطيل أو إلغاء."
يجمع النقاد على أن روايته"الحيوان المحتضر"– صدرت عن سلسلة الجوائز في مصر بترجمة مصطفى محمود - هي من أكثر رواياته، كشفاً لسيرته الذاتية، وظل النقاد يعقدون مقارنة بين سيرة روث، وبين سير بطل الرواية الاكاديمي"دافيد كيبيش"المهموم في سؤال الوجود، والمنشغل دوماً بالبحث عن اطياف الماضي وعن معنى الموت وأهمية الجنس..إنها سيرة غنيّة بالتفاصيل لرجل عرف الحياة جدياً، وعاشها بكل تفاصيلها، ولهذا نجده يتحدث عن علاقاته بالنساء اللاتي تركن أثراً عميقاً في الروح، وعن أخريات تركن أثراً عابراً، يتحدث عن زواجه الفاشل، وعن مغامرات عاطفية كشفت له اسرار الجسد البشري.
"الجسد يحوي الكثير من قصص الحياة تماماً مثل العقل"..
في الرواية يجد القارئ نفسه امام إحالات واقتباسات لشخصيات روائية وروائيين مشهورين، ويعثر في صفحاتها على أسماء لفنانين وموسيقيين ورسامين معروفين، وقادة وسياسيين، وأسماء لأفلام ومسرحيات ومقطوعات موسيقية، كل ذلك يحاول فيليب روث أن يجد له حيّزاً في مفكرة بطل الرواية الاكاديمي، الذي يرى المواضيع من منظاره الخاص، المملوء بالحجج الفلسفية والحوار النخبوي. حيث نجد بطل الرواية في النهاية يعيش يأساً من هذا العصر المغلف بالأفكار المجردة، والذي لايبالي لتفاصيل الحياة اليومية الدقيقة والجميلة.
في"كل الرجال"التي ترجمها الى العربية مصطفى محمود. نحن إزاء شخصية تؤمن بأنّ لا حياة بعد الموت، ورغم هذه الفكرة إلاّ أن الرواية اعتبرها النقّاد رواية موت بالدرجة الأولى، بدءاً من موت الأب والأم وصولاً إلى موت البطل الذي تبدأ به الرواية، لنجد أنفسنا أمام فلاش باك طويل يتقاطع فيه الماضي مع الحاضر، حيث يضعنها فيليب روث من الصفحات الأولى أمام بطل يعجّ بالرغبة الجسدية التي سرعان ما تتحول إلى تعاسات نفسية، ولا يتوقف الأمر عند حدود فشله الدائم مع زوجاته وحبيباته، ولكن يشمل ارتياب الجميع فيه، ونبذه أو اتهامه بالدائم بالخيانة، اضافة الى أنّ القارئ سيشعر الشخصية تبدو كما لو أنها ولدت مريضة وبلا سبب، وكأنه مصاب بلعنة غير معروفة، والمدهش أن أمراضه مع تنوعها لم يكن لها علاج غير التدخلات الجراحية، بدءاً من الفتاق الذي أصابه في صباه، وانتهاءً بعملية توسيع الشرايين التي توفي فيها، مروراً بسبع عمليات جراحية على مدار سبع سنوات متوالية، خضع خلالها لتخدير نصفي أتاح له أن يرصد لنا كل الإجراءات التقنية التي اتخذها الأطباء معه، أما الموت فحضوره كان دائماً ومتنوعاً، بدءاً من ذلك الصبي الذي اضطر الأطباء إلى الإجهاز عليه تخفيفاً لآلامه مروراً بوفاة أمه ووالده وصولاً إلى موت زوجته وأصدقائه، وقد احتلت مشاهد المقابر وحفار القبور وطقوس الدفن مساحة واسعة في الرواية.. ومن اجل الرواية هذه قضى اكثر من اسبوع في إحدى المقابر :"لأرى كيف يحفرون المدافن، ويهيأون القبر..".
ويعود روث لموضوعة الموت في روايته سخط – ترجمها الى العربية خالد الجبيلي – نقرأ تفاصيل الاحداث على لسان"ماركوس مسنر"وهو يحتضر، حيث يستعيد سنوات دراسته الجامعية عام 1951، في ضوء فترة مفصلية من التاريخ الأميركي الحديث. خلال السنة الثانية للحرب الكورية، يترك البطل الشاب ماركوس مسنر منزل والده للالتحاق بالجامعة، هرباً من اقتياده إلى الحرب ومن سلطة والده وحرصه. الاكتشافات الجنسية المدهشة، وضياع الانتماء الديني للطالب اليهودي الذي يعلن إلحاده لاحقاً، وطبعاً الموت المطبوع على معصم أوليفيا عشيقته التي تكبره سناً، هي عوالم الرواية الأساسية. نقرأها بلسان البطل الميت.
في رواية الوصمة البشرية – ترجمتها الى العربية فاطمة ناعوت – نجد بطل الرواية كاتب روائي شهير"ناثان زوكرمان مصاب بالسرطان فيعتزل الحياة، إلاّ أن، يقتحم عزلته أستاذ جامعي"كولمان سيلك"الذي يطلب منه كتابة روايته الحزينة، وتبدأ معه صداقة طيبة لينشغل ناثان"بحكاية صديقه هذه حتى النهاية.. حيث نجد أن"كولمان سيلك"كان قد تنكرمن عرقه الأسود، مفضّلاً اختيار طريق رأى أنه سيفتح له الأبواب المغلقة، وذلك بالتنصل من هويته العرقية. فيقدم نفسه للمجتمع على أنه أبيض اللون ويساعده لون بشرته الفاتح واختلاف تقاسيمه التي ورثها من أحد أسلافه في سبك خيوط الكذبة!.. ثم لاحقاً بعد عمله لسنين بروفيسوراً في الجامعة يقضي على مستقبله الأكاديمي عندما يرفض الدفاع عن نفسه أمام لجنة تحاكمه في الجامعة بتهمة العنصرية ضد السود بناءً على زلة لسان، رأى فيها المجتمع الأكاديمي ما يشي بالعنصرية العرقية.. فيفضّل تقديم استقالته من الجامعة على البوح بأصله العرقي الأسود الذي كان يمكن أن ينقذه من التهمة!.. فظل يحمل وصمته البشرية على عاتقه وينوء بتبعاتها النفسية الثقيلة وعقد نقصه، فرغم بياض بشرته الظاهري ظلّ يتعامل مع ذاته وهويته من منظورها العرقي الافتئاتي الضيق!
وفي الرواية هناك الجندي الذي تلاحقه لعنة الحرب الفيتنامية وتدفعه في النهاية الى الخضوع لجلساتِ علاجٍ نفسية تعجز عن تخليص ذاكرته مما رسخ فيها من صورٍ عن الموت والعنف والاستهتار بحياة البشر. ونجد روث يكشف بدقّة عن مقدار اللعنة التي شعر بها الجنود الأميركيون الذين شاركوا في حرب فيتنام. هذه اللعنة التي كانت سبباً في تفكيرهم، بأنّ هذه الحرب هي وصمة عار في تاريخ حياتهم وبلادهم.
ظل فيليب روث مشغولاً بالمجتمع الأميركي المعاصر، وخصوصاً بالشعارات الزائفة عن الحرية والديمقراطية والمساواة، بينما تتغلغل في جذوره أزمة العنصرية بشكل واضح. ولهذا يجد روث في انتخاب دونالد ترامب كابوساً جديداً تعيشه أميركا :"الكابوس الّذي تعيشه أميركا اليوم - وهو في الحقيقة كابوس- يرجع إلى أنّ الرجل الّذي انتُخب رئيساً يعاني من نرجسيّة مفرطة، إنّه كذّاب كبير، جاهل، متعجرف، كائنٌ وقِح تُحرّكه روح الانتقام ومُصاب بالخرف مسبقاً. وإذ أقول ذلك، فأنا أُقلّل من عيوبه إلى أدنى حدّ. إنّه، يوماً بعد يوم، يثير سخطنا بسلوكه، ونقص خبرته وانعدام كفاءته. ولا حدود للأخطار الّتي يمكن لجنون هذا الرجل أن يجُرّها على البلاد وعلى العالم أجمع".
في آخر حوار معه قال روث ردّاً على سؤال، كيف يرى حياته الآن؟:"حياتي هي ما جرى لي على المستوى الأدبي. الكتب التي كتبتها، الأصدقاء الذين صاحبتهم، النساء اللاتي عرفتهن، الصحة، كل هذا جاءني.. لا أعرف إن كنت نجحت أو فشلت، كل ما أستطيع قوله، إنني بذلت كل ما في وسعي. بالضبط: بذلت أفضل ما في وسعي".
يكتب الروائي الأميركي بول اوستر في وداع روث:"لقد كانت لديه مهنة طويلة، كل كتبه أثارت المناقشات وكانت نادرة في ثقافتنا"