مع قصيدته (رثاء ضرس)..الفكاهة والسخر   #1740 ّة في شعر الدكتور احمد الوائلي

مع قصيدته (رثاء ضرس)..الفكاهة والسخر #1740 ّة في شعر الدكتور احمد الوائلي

عبد الكريم البوغبيش
يتميّز شعرالشيخ احمد الوائلي بفخامة الألفاظ، فهو شاعر محترف مجرِّب، ومن الرعيل الأوّل أمثال شاعر العرب الجواهري والشبيبي والشرقي وجمال الدين والفرطوسي، فهو يمتاز بالحافظة القويّة، وسرد الأدلّة والحجج لما يطرح وبدون تلكّؤ أو تباطؤ، ويغلب على شعره الحماس وبثّ الشكوى والجرأة والصرخة في مواجهة الباطل والدعوة إلى يقظة المسلمين.لذلك نجد شاعرنا واحداً من الشعراء الذين وضعوا شعرهم لخدمة وطنهم واُمّتهم.

للدكتور الوائلی العدید من القصائد التي تتمیزبروح الفكاهة والضحك،ضحك یحاكي البكاء، ونستطیع القول أنّ العدید من قصائده لاتخلو من تهكّم وسخریّة وهزء من سیاسات الحكام المتجبرین الظالمین لشعوبهم، فشاعرنا یتخذ الكثیر من الرّموز الهادفة لإیصال فكرته إلی مخاطبه الواعي لیتصدّی للظلم والإضطهاد فبدایتنا بقصیدته المعنونة«رثاء ضرس».
هذه إحدی القصائد الفكاهیّة للدكتور الوائلي حیث یرثي بها ضرساً له إقتلعه،ویشیر في الأبیات المذكورة أدناه أهمیة هذا الضّرس الذي كان له جولات وصولات في القطع والتمزیق والصّلابة والشدة، ولكن لقد أزری به الدّهرومهّد له أسباب اقتلاعه،وبما أنّه واحد من مجموعة یعیشون في بیت واحد،فبفقده یحزن له الجمیع وتصبح اللّثة ثكلی بما حلّ بها من مصیبة. وعند ملاحظة الأبیات والتمعّن فيها نری بأنّها تحتوي علی شئ من الفكاهة وشئ من السخریة، وما أتی به الشّاعر فیه إشارات إلی المجتمع البشری المتمزّق المتشت سكانه بسبب السّیاسات الحاكمة علیه. یقول الشاعر:
لِرَحِيل ِبَعضِي دَمعَةٌ فِي مُوقـِــــي
وَلُهاثُ نَبض ٍ بِالفُؤادِ خَفُــوق ِ
وَرَحِيلُ بَعض ِ المَرءِ يُحزِنُ بَعضَهُ
البَاقِي وَيُؤذِنُهُ بِقُربِ لــُـــحُوق ِ
يَا لَثـَّتِــــي الثـَّكلَى خَلا بِكِ مَقعَدٌ
مِن أبيضٍ حُلو ِ السِّـمَاتِ رَشيق ِ
صُلبِ الشَّكِيمَةِ مِن رِمَاحِكَ طَاعِن
مُتـَــــــمَرِّسٌ بِالقَطع ِ وَالتَّمزِيق ِ
إنّ هذه الأبیات تدلّ علی مدی أهمیة هذا الضّرس المخلوع ولهذا یأتي الشاعر ویرثیه، ویذكر لنا بطولاته في التمزیق والقطع ثمّ نراه یخفف من حزن المفجوع به قائلاً:
قَد قلتُ لِلثّغرِ المُدَمَّى إذا خَلا
مِن فَارِع ٍ بِـِقوامِهِ المَمشُوق
مَهلاً فَأيُّ مَنازِل ٍ بَقيَت بـِـهَا
سُكَّانُها وَنَجَت مِن التَّـفـريق
ویقصد بالمنازل، المنازل البشریّة الّتي خلت من سكّانها علی إثر السیاسات الحاكمة وما تقوم به من تفریق وتهجیر، فكثیر من أبناء بلده تعرّض لمضایقات السیاسة الحاكمة، ما أّدّی بهم إلی ترك منازلهم وذویهم وبلادهم وكان شاعرنا الوائلي أیضاً من أولئك الذین تشرّدوا في البلدان المختلفة ولم یرجع الی بلده إلّا بعد الإحتلال الأمریكي للعراق،وقد تُوفي في مسقط رأسه النجف الأشرف.
وبعد ذلك یأتي الشاعر و یبرز حزنه علی اقتلاعه ویستذكرتلك الأیام التي كانا مع بعض ٍ وعاشا خمسین عاماً في هذه الدنیا رفیقینِ حمیمَین تقاسما بینهما مصاعب الحیاة وحلاوتها فیقول:
سِنِّي لَيُحزِنُنِي وَإن يَكُ مُؤلِمِي
أن تَغتَدِي عَنِّي وَأنتَ رَفيقِي
خَمسُــــون َعَامَـــاً وَنَــــحن ُ فِي
دَربِ الحَياةِ رِفـَـــــاقُ طَريقِ ِ
ذُقتَ الحَياة َ مَعي تَعبّ ُ بِحُلوَهَا
وَبِمُرِّهَا مِن نَاضِبٍ وَغَدُوق ِ
وَسَبرَتَ أصنَافَ الطّعام ِ بَغَـثـّهَا
وَسَمِينَهَا وَعَرَفتَ كُلّ َ فَريق ِ
فَــلَكَ الفِداءُ فَمٌ يَلُوكُ علَى العَمَى
لافَرقَ في مُتصَلـِّبٍ وَرَقيــق ِ
ألــتـيـنُ وَالخَرنُوبُ عِندَ لَهَاتِهِ
شَرَعٌ سَواءٌ دُونَ أيِّ فُرُوق ِ

وفی القصیدة یسخرالشاعر من الدنیا و سكانها ویستهزئ بهما قائلاً:
سِنّي وَیُؤذِي الذ ّوقَ في مِقیاسِهِ
نَسَقٌ یُعادِي سُنّةَ التَنسِیق ِ
وَمَسامـِــــعٌ فـــــیها سَواءٌ كُلـّـُـهُ
إیقَاعُ عُودٍ أوجَعـِــیرُ نَهِیق ِ
وَمداركٌ وَالبُلهُ شَرّ ُ بَلـِــــــیـّـَةٍ
مَا امتَازَ فیها زَائِفٌ وَحَقِیقِي
دَنیا العَمَی فَنَهارُها في لَیلِهَا
مُتدَاخلٌ وَغُروُبُها بِشُرُوق
أفَهَذِهِ دُنیاً یَعـــیِـِش النّاسُ في
أبعَــادِها أم مَـــــبرَكٌ للنوق ِ
وَأولاءِ نَاس ٌ أم هُم الأنعامُ في
ثـَوبٍ مِن التَجمِیل ِ وَالتَزوِیق ِ
والإستفهام الإنكاري في البيتین الأخیرینِ یدلّان علی سخریة الشاعرمن الدنیا ومن الناس، بحیث إنّه لایعرف أهذه الدنیا مكانٌ لیعیش فیه النّاس أم ساحة تبرك فیه إناث الجمال، ثمّ نراه یستنكر ما یشاهد من تجمهرللبشر ویستفهِم أهولاء الأشخاص بشرٌ أم هم من الأنعام یرتدون ملابس تظهرهم بهذا الشكل الجمیل.
و في المقطوعات التالیة نری الشاعر كیف یحاورذلك الضّرس المخلوع ویستذكر معه أیام الشباب:

سِنّي رَحلت َبِذكریاتٍ حـُـــــــــــلوةٍ
مِن عَهدِ ذَوق ٍ مُـــــــترفٍ وَمَذوق ِ
أیَّامٍ یُسكِرُنِي الشَّبَابُ فَأحتـَـــــسِي
في كُلِّ مَاء ٍ خَمرة ً بـِــــــــعُـــروقي
نَشوانٌ أ ُعطِي النّجمَ بَعضَ تَخایُلِي
وَأُعِیرُ شَمسَ الصُّبح بَعضَ شُرُوقِي
وَلقَد رَحَلتَ فَصَار سِــینِــي بَعدَ ذَا
شِـــیــنَـاً وَزیقِي بَعدَ فَقدِكِ ذیقِي
وَكَبَت بِي الكَلِمَات ُ حَتّــــــی أنَّنِي
مَا عُدتُ بِالــــــــــمُتـَفـوّهِ الـــمِنطِیق ِ
وَلَقَد أتَونِي بِالـــــــبَدیلِ فـَــمَا فَمِي
مِن حَجمِـــهِ أو ثــُــقـلِهِ بـِـمُــــــطِیق ِ
قَلِقٌ یُطَقطِقُ بِاللّــــهَاةِ فَـمَـنطِقِــي
مِن فِعلِهِ ضَربٌ مِن التَطقِــیـــــــق ِ
یبیّن لنا الشاعر فیما تقدّم من أبیات الحالة الّتي توصل إلیها بعد فَقْدِ ذلك الضّرس، حیث لا یستطیع تلفّظ بعض الأحرف ویقول أصبحت عنده السین شیناً، وصعب علیه الكلام بعدما كان متفوّهاً منطیقا. والبدیل الذي وضعه في فمه من ضرس إصطناعي لم یُجْدِ نفعاً بل عرقل الأمور كثیراً وجعل كلامه ضرباً من التطقیق.
وصورلنا حالة انتزاع ذلك الضّرس من فكّه بإنتزاع الجنین من أ ُمّه فیقول:
نَزعَ الجَنینِ مِن أمّهِ نَزَعُوكَ مِن
فَكِّي وَمِن جَزَعيِ جَرَضتُ بِرِیقِي
طَرَدَتكَ مِنهُ الكَلبَتَان وَأجلَـــسَت
بِمَكانِكَ الشَّرعِيِّ غَیرَ خَلـِـــیق ِ
فَتَرَكتَ عَرشَكَ للمُزیّفِ فاعــتـَـلَی
مِن دُونِ جَذر ٍ شَأنَ كُــلّ ِ لَصِیق ِ
سِنّي سَیَدفُنُكَ الــــتُّرابُ بـِعُـمـــقِــهِ
في أعظَم ِ مـَـــــــــــدفُونَةٍ بِعَمِیق ِ
وَلـَسَوفَ تُسحَقُ بَعدَ كَونـِـــكَ سَاحِقاً
فمصِیرُ سَاحِقَةٍ إلی مَســـــحُـوق ِ

نعم ؛إنّ هذه الدنیا لا دوامَ لها، الیوم لكَ وغداً علیك، الیوم تحكم وغداً محكوم علیه، ولربّما إتخذ الشاعر هذا الرمز لینذربه أؤلئك الّذین تشبّثوا بالكراسي، ویفعلون ما یفعلون للحفاظ علیها، ولكن لمن دامت حتّی تدوم لهم، والمثل یقول «لودامت لغیرك لما وصلت إلیك”فدوام الحال من المحال، وسیأتي یوم تنقلب فيه الموازین ویصبح ذلك الحاكم المضطهد لشعبه في قبضة العدالة إن صح القول وسیُجازی علی فِعلته الشنعاء تلك.
والشاعر یصور لنا الحالة الّتي نراها في كثیرٍمن البلاد العربیة وغیرالعربیة حیث الطبقات الإجتماعیة طبقة تشقی وتكدح وأُخری تستفید وتربح، حیث یقول:

سِنّي أتعلمُ أنَّ سَعیَك َخـَــــاسِــرٌ
تَشقـَــی وَغیرُكَ رَابحٌ بِالسُّوق
مَا أنتَ غـَــیر رَحَی تَدورُ لِغیرِهَا ِ
وَسِـــواكَ یَأكُـلُ صَفوَ كُلِّ دَقیق
وَجَمیعُ رِزقِكَ بِالطعام ِ بَقـِـــــیّة ٌ
مَحشُورة ٌ في حُفرَةٍ وَشـُــــــقُوق ِ
فَكَأنَّكَ المَثلُ الصَّریحُ لِمَـــــعشَر ٍ
یَسعونَ لَكِن سَعـــــــیُهُم لِخُفُوق ِ
أكتَافـُــــــهُم لِلرَّاكِــبینَ وَ كَـدحُـهُم
صَهبَاءٌ فــي فـَــم ِ مُترِفٍ وَأنیق ِ
حَیث ُالكُرُوشُ المُتخِمَاتُ تُعِبُّ مِن
عـَـــرق ٍ لـُـــــكُلِّ مُعَذّبٍ مَحرُوق ِ
ألعَــایش ُالأیـــامَ صـَــحرَاءً وَمِــــن
مِسحَاتِهِ یَهــــتزّ ُ كُــــلّ ُ وُریــــق
صَـنعَ الحَیاة َ مَعَاشِرٌ ضـَـــاعُوا بِهَا
وَابـــــتـَزَّهَا نـَـــفَـــرٌ بـِـغیرِ حُقوق ِ
هذه جوانب من أشعارالشاعر الساخرة والفكاهیّة، وهي تكشف عن الملكات الكبيرة التي يتمتع بها هذا الخطیب و الشاعرفي المجال الأدبي. إنّ هذا الشاعر الفذّ یحاول من خلال إدخال البسمة في قلوب الآخرین توعیة أفكارهم بالنسبةإلی ما یدور من حولهم،ویحثّهم علی مقابلة الظواهر الخادعة والكاذبةالّتي یأتي بها بعض السیاسیین وأرباب السلطة الحاكمة.هذا ما استطعت الإتیان به في هذه المقالةویوجد الكثیر من القصائد الساخرة للشاعر ومَن أراد الإطلاع علیها فلیراجع دیوان الشاعركما ذكرت سابقاً.