اذاعة بغداد والبرامج الثقافية في الاربعينيات..عندما قدم مصطفى جواد برنامجه (قل ولا تقل)

اذاعة بغداد والبرامج الثقافية في الاربعينيات..عندما قدم مصطفى جواد برنامجه (قل ولا تقل)

سندس حسين علي
حينما عين احمد زكي الخياط، مديرا عاما للدعاية عام 1943، ولم تكن في ذلك الوقت وزارة للأعلام ولا للثقافة، وإنما كانت (مديرية الدعاية العامة)، تقوم مقامها، وترتبط بوزارة الداخلية، فقد كان الخياط يحترم العلم والعلماء ويشجع الكفاءات ويقدرها، عمل في أطار الإمكانيات المتوافرة في ذلك الوقت على رفع مستوى الإذاعة وجعلها أداة تثقيفية وتوجيهية،

حاول رفع مستوى الأحاديث الثقافية فألف لجنة لفحص الأحاديث المقدمة وإبداء الرأي فيها، وكانت تلك اللجنة برئاسة مدير الدعاية نفسه وعضوية (الأستاذ في دار المعلمين العالية طه الراوي، والصحفي روفائيل بطي، والدكتور مصطفى جواد، ومدرس اللغة العربية في كلية بغداد فتحي صفوة سكرتيرا للجنة)، وقد وجدت اللجنة في اجتماعها الأول أن أعضاؤها جميعا من المتخصصين في الموضوعات الأدبية والتأريخية وليس بينهم من كان تخصصه في العلوم فأقترح أعضاؤها تعيين جعفر الخياط الذي كان يحمل شهادة عالية في العلوم الطبيعية من إحدى الجامعات الأمريكية.لم يوافق أحمد زكي الخياط على تعيين شقيقه جعفر الخياط في بادئ الأمر، دفعا للتقولات. كما صدرت أول مجلة إذاعية في العراق عام 1944،هي مجلة (منبر الأثير)،وكانت تنشر فيها برامج الإذاعة ومناهج الإذاعة الكردية, فضلا عن مختارات من الأحاديث التي تلقى فيها.
لما كان الاستماع إلى الكلمة المنطوقة من الراديو لا يحتاج إلى معرفة بأصول القراءة والكتابة مثلما هي للصحيفة أو المجلة أو الكتاب. فأن ارتفاع نسبة الأمية في المجتمع العراقي ضاعفت من أهمية الإذاعة كوسيلة تثقيفية وجعلها تتميز عن غيرها من أجهزة الثقافة الأخرى. فالإذاعة أقوى وسيلة بيد الإنسان لنشر الثقافة والتأثير في الجماهير نظرا لسعة انتشارها وسهولة تسلم الرسالة الإعلامية (الثقافية) من خلالها، فالراديو يقدم رسالته ضمن أطار مشوق في - الغالب - كذلك فأن تأثيره يستمر ليلا ونهارا ويصل إلى جميع الناس على اختلاف ثقافتهم ونزعاتهم وميولهم أينما كانوا.
كتبت مديرية الدعاية العامة إلى مديرية الدعاية والإرشاد الصحي تؤكد عليها حاجتها بوضع كتاب في تعليم الناس القراءة والكتابة عن طريق الاستعانة بالإذاعة وقد بينت أن تكليف شخصين أو جماعة بوضع كتاب خاص في ذلك الموضوع يتطلب خبرة خاصة وجهودا كبيرة ورجت الإسراع بإنجاز ذلك الكتاب.
وقع اختيار وزارة المعارف على الدكتور مصطفى جواد، والذي كان يبتغي نشر النطق باللغة الفصحى نطقا جيدا واضحا يظهر جمال اللغة وبلاغتها ونحوها وصرفها، وقد اشتهر له برنامجاً بأسم (قل ولا تقل). فكان لتقديمه لذلك البرنامج، لم يكن بواقع من محبته للفصحى وحدها، وإنما أيضا من، إيمانه برسالة قومية سامية هي تنبيه الأمة إلى لغتها المجيدة، لأنه كان يرى أن عز الأمم في لسانها وآدابها وثقافتها الأصلية، وإن الشعب الذي لا يملك لغة راقية تفي بحاجات التغيير في كل مجال من مجالات الحياة والعلم لا يمكن أن يستكمل أسباب النهضة والتقدم.
أعتمد الدكتور مصطفى جواد في تقديمه لبرنامجه بقوله : قل الصحيح (ثم يتلفظه) ولا تقل الخطأ (ومن ثم يتلفظه) وكانت تلك خير وسيلة لتقريب اللغة العربية الصحيحة إلى أذهان المواطنين، فكان لبرنامجه ذلك هوى في فؤاد المستمعين المهتمين باللغة العربية، فيقوم بعضهم بتسجيل كل ما يسمع فيه لتقويم اللسان والقلم، وبفضل تلك الجهود التي بذلتها الإذاعة في ذلك المضمار أضحى المستمع العراقي يتفهم بدقة وسهولة كل مادة تذاع باللغة العربية الفصحى لاسيما بعد أن منعت بث الأحاديث باللغة العامية.
كذلك استعانت مديرية الدعاية العامة بالكتاب العرب للتحدث عبر إذاعة بغداد ومنهم الكاتب المصري الكبير عبد القادر المازني لإلقاء أحاديث عدة من دار الإذاعة العراقية لتوجيه الشباب، مما كان لمحاضراته وخطبه تلك اثرا في أحداث حركة أدبية وانتعاشاً فكرياً، ولتنمية ملكة التفكير لدى المستمع والنهوض بمستواه واختبار معلوماته واثراها فقد أقدمت الإذاعة لأول مرة على إدخال المسابقة الثقافية من خلال طرح أسئلة على المستمعين وإرسال إجاباتهم إلى الإذاعة.
لم تكتف الإذاعة بالأحاديث لمتحدثين في ستوديوهاتها، وإنما كانت تقوم بنقل المحاضرات من أماكن إلقائها، لاسيما أذا كانت تلك الأحاديث لشخصيات سياسية أو دينية، وذات موضوعات مهمة، فقد نقلت الإذاعة يوم 23 اذار1940 المحاضرة التي ألقاها وزير المعارف سامي شوكت في قاعة كلية الحقوق عن الفتوة، وتذاع في الوقت نفسه بالإذاعة اللاسلكية العراقية وتلك المحاضرة كانت من ضمن سلسلة من المحاضرات التي نظمها نادي المثنى.
. لما كانت رسالة الإذاعة هي أن تكون مرآة للفكر والفن... تعكس روح الشعب وحياته فلم تكتف الإذاعة على الثقافة السياسية بل شملت الثقافة الأدبية، كان الحديث يسمى بـ(حديث أدبي) ويقدم أسبوعيا الساعة (9,35) من إحدى الشخصيات كسلمان ألصفواني، وقد حدث ذات يوم، أن الشاعر ملا عبود الكرخي، قدم قصيدة شعبية من النقد الهزلي عن حالة معينة وفحص المسؤولون في الإذاعة تلك القصيدة، وأجازوها له بالتوقيع على النص وحينما جلس الشاعر أمام الميكروفون قرأ الشاعر أبيات من القصيدة المجازة إلا انه دس يده في الوقت نفسه في صدره وأخرج من داخل الصاية، قصيدة شعبية أخرى مليئة بالهجاء والسخرية والنقد القاسي للحكومة، وبعد أن قرأ تلك الأبيات: دخل المأمور الفني وأمسك بكتفيه وأبعده عن الميكرفون والكرخي يصيح بصوت مرتفع مخاطبا المستمعين ((يا جماعة تره جروني بالقوة)).
عن رسالة (توجهات الاذاعة العراقية 1939 ــ 1958)