غالي شكري.. أسطورة الناقد المتمرد

غالي شكري.. أسطورة الناقد المتمرد

محمد نبيل
في بداية الستينات تحديدًا، عرف المشهد النقدي الأدبي العربي غالي شكري كناقد، من خلال ثلاثة كتب أولها"سلامة موسى وأزمة الضمير العربي"الذي صدر في القاهرة عام 1962، ويعد بمثابة دراسة وافية وشاملة عن مشروع"سلامة موسى"الفكري؛ وثانيها"أزمة الجنس في القصة العربية"الذي صدر في بيروت عام 1962،

وتميز بالجرأة والمقدرة على اقتحام آفاق جديدة وشائكة في النقد الأدبي العربي لا يقدر على اقتحامها في ذلك الوقت سوى ناقد قوي الحجة والمنطق والارادة والثقافة إذ أنه حصرٌ جاد وواعٍ لنتاجات كبار مبدعينا آنذاك"نجيب محفوظ، إحسان عبدالقدوس، محمود البدوي، وغيرهم"؛ وثالثها كان كتاب"المنتمي"ويعتبر أول دراسة جادة ومنهجية وكبيرة عن أدب"نجيب محفوظ".

وفي عام 1968 ظهر أول اسهاماته - وربما اهمها - في النقد الشعري"شعرنا الحديث.. إلى أين"الذي نشرت فصول منه في مجلة"حوار"اللبنانية، وتعرض فيه لتجارب اقطاب حركة الشعر الحر نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، أدونيس، صلاح عبد الصبور، أحمد عبدالمعطي حجازي، خليل حاوي، بلند الحيدري، أنسي الحاج.
لامس غالي شكري السياسة احيانًا، واكتوى بنارها احيانا اخرى، ورغم ذلك ظلت صفة الناقد الادبي - دائمًا - هي الغالبة عليه.
و"قدّم غالي أول دراسة من نوعها في تاريخ نقدنا العربي، تطرح بشكل منهجي كيفية معالجة احدي قضايا الحياة الهامة على الصعيد الفني، راصدة شتى طرق معالجة هذه القضية العلاقة الجنسية لدى كتَّابنا العرب، ومحاولة الخروج بنقدنا العربي الى آفاق الاستقلال بكيانه الفكري والفني.
ساهم غالي شكري بدراسة طويلة ومهمة في التنظير النقدي لأدب"المقاومة"، تناول فيها الكثير من الاعمال الابداعية الروائية التي تندرج تحت هذا المسمى. عن نظرته في هذا المجال النقدي يقول سامي خشبة:"ادب المقاومة عند غالي هو ذلك الأدب الذي يبرز علاقة الصراع بين الانسان والكون، باعتبار هذا الصراع جزءًا لا يتجزأ من العلاقة الدينامية بين الطرفين، وسواء تجسد الكون الضخم في صورة وحش بحري أو غاز أجنبي، او سلطة طاغية، او قهر اجتماعي عات. ثم أن هذا الادب قد يتسع لكي يعبر عن مضمون انساني عام حين يتجاوز سمات مشكلة قومية بعينها، ويضعنا امام مشكلة من مشاكل الضمير البشري. وأدب المقاومة قد يعبر عن بعد قومي حين تبرز سمات الروح الخاصة لشعب معين وتصبح هي الرمز الذي يحاول العمل الادبي أن يبرزه او القضية التي يدافع عنها. وقد يعبر ادب المقاومة عن بعد اجتماعي حين يدور العمل حول قضية من قضايا التطور الاجتماعي بعينه، هذه هي الحدود النظرية التي حدد بها غالي شكري رؤيته لأدب المقاومة.
ناقش بشكل تطبيقي الخصائص الجمالية للتجربة الشعرية في الستينات، حتى أنه يمكن تلمس الروح الرومانسية الحميمة في ابداع الستينات من خلال تعقيباته النقدية التطبيقية على بعض نصوص شعراء هذه المرحلة، كأن يقول:"على الحافة المقدسة بين القلب والعقل يفترش الشاعر ارض الله والناس، ويسقى شعره حلاوه الكشف والحدس والرؤيا.
وحتى عام 1956 لم يمارس غالي شكري النقد الادبي، كان معتكفًا على كتابة القصص والاشعار التي ظل بحتفظ بمخطوطاتها طول حياته. عن هذا الجانب المجهول منه يقول حسين حمودة عن روايته"مواويل الليلة الكبيرة"مخطوطة"تستنهض هذه الرواية تجارب وأصواتًا متنوعة، متناغمة ومتعارضة في آن، لعدد كبير من الساسة الأحياء وأيضًا - الاموات ممن صاغوا حركة التاريخ السياسي والثقافي المصري والعربي، أو كانوا ضحايا لهذا التاريخ. فمن شهدي عطية الى غسان كنفاني ومن جمال عبدالناصر الى راشد الخاطر ومن علي فودة الى اسماعيل المهدوي، ومن مصطفى خميس الى امل دنقل، تتحرك الروايات المتعددة داخل هذه الرواية، مستعيرة"خطابات"داخلية لهؤلاء جميعًا، مانحة اياهم مساحات متكافئة تقريبًا".
لم يقتصر دور غالي شكري في حياتنا الثقافية على اسهاماته النقدية والفكرية والابداعية - رغم اهميتها - فحسب، بل كان له دور ملحوظ في قيادة العمل الثقافي من خلال اشرافه على الكثير من المجلات العامة والمنابر الثقافية المضيئة مثل"الملحق الثقافي الادبي للطليعة"،"الشرارة"،"دراسات ادبية"و"الوطن العربي"، ودعمه المادي والفكري لمجلة"ادب ونقد"وجريدة"الاهالي"وتأييده لما سمّاه"ثورة الماستر"التي أخرجت الكثير من المجلات الثقافية والشعرية المستقلة في السبعينات، ثم مجلة"القاهرة"التي تحولت على يديه الى واحدة من اهم المجلات الثقافية العربية، وظل رئىسًا لتحريرها حتى وفاته بعد صراع مع المرض دام عامين.
وولد غالى شكري فى منوف عام 1935 ﻻسرة مسيحية فقيرة واستطاع والده إلحاقه بمدرسة إنجليزية تابعة إحدى الإرساليات، ﻻن والده كان حارسا للكنيسة، وفى شبين الكوم تعرف على شباب قارىء مثل مكرم محمد احمد وجورج بهجورى وجاء للقاهرة واختلط بمثقفيها وكتابها ومقاهييها وكتب فى عدة مجلات ادبية وتعرف على مؤلفات سلامة موسى وقرأ انتاجه وانخرط فى صفوف اليسار المصرى وقبض عليه عام 1960مع لويس عوض واحمد بهاء الدين ولكنه خرج سريعا وان ترك فيه سجن القناطر اثرا حزينا فى نفسه.
وخرج ليكتب كتابا عن سلامة موسى وفى السبعينات وبعد وفاة ناصر فصله السادات مع 120 كاتبا من وزارة الثقافة وسافر الى تونس وفرنسا فى نهاية عهد السادات واسس مجلة القاهرة الثقافية وكان احد من ينقبون فى ارشيف الثقافة المصرية ليكشف المخبوء والمهمل والمستبعد والمطرود؛ ورحل غالى شكري فى يوم 10 مايو عام 1998