مُجدّدون جُدد..غالى شكري

مُجدّدون جُدد..غالى شكري

د. رفعت السعيد
1
ونقلّب هذه المرة أوراقاً للمفكر د. غالي شكري وهو مسيحي ليبرالي الموقف، تقدمي الاتجاه، يساري الانتماء. سنقلّب معاً كتابه"الثورة المضادة في مصر"والحقيقة أن غالي شكري ينقلنا إلى فكرة جديدة وتستحق الدراسة إذ يقول"وتبدو مصر التي ناضلت دفاعا عن العلمانية والديمقراطية أكثر من قرن ونصف، وكأنها ترتد علي نفسها في أواخر القرن العشرين وكأن التاريخ يمضي إلى الوراء.

ولكن الحقيقة هي أن ثورة يوليو مسؤولة إلى حد كبير بعجزها الشديد عن حل مسألة الديمقراطية، وقد تسبب اتصال الغالبية العظمي من قادة الثورة حتى التقدميين منهم كخالد محيي الدين لفترة أو لأخرى، قصرت أو طالت، ولدرجة أو لأخرى قويت أو ضعفت بجماعة الإخوان أن ظلت المسألة الدينية من المحرمات التي لا يجوز الخوض فيها ولو لمصلحة الدين أو لمصلحة الشعب، وبالرغم من أن عبد الناصر لم يكن بالزعيم الذي تستهويه التجارة بورقة الدين فإنه صادر كتاب"الله والإنسان في عام 1957 وهو كتاب مادي تنويري مبسط ارتد صاحبه ليصبح إسلاميا فجا متطرفا"، ثم"أن ما يعده رجل السياسة تكتيكا مرحليا يتخذ منه الكثيرون ركائز ستراتيجية، فحين كانت تلجأ الأجهزة الناصرية إلى سلاح الدين لمهاجمة الشيوعيين لم تكن على الأرجح تأخذ في اعتبارها أن هذا الغطاء الديني المؤقت سوف يتحول عند قطاع كبير إلى ثوب دائم يرتد عليها من جديد حين يتحول أصحابه من الدين إلى السياسة، وهذا هو المأزق التقليدي عند الطبقة الوسطى المصرية منذ صاغت في فجر نهضتها، الثنائية التوفيقية بين الدين والعلم، أو بين التراث والحضارة الحديثة"(ص294).
ويمضي غالي شكري في محاولة قد تبدو مغرية لكنها خطره لتشريح النتيجة العملية لما أسماه"الثنائية التوفيقية بين الدين والعلم"فيقول"هذه الثنائية أدت عمليا إلي ازدواجية الفكر والسلوك الحضاري والانفصام الجماعي بين الاندفاع نحو"استخدام"منجزات التكنولوجيا الحديثة والتخاذل عن الحوار مع معطياتها الفكرية، وأيضا رفع اللافتات الليبرالية في الدستور مع العجز الفادح عن تطبيق موادها"(ص295) ويصمم غالي شكري علي استكمال فكرته قائلا: ومع ذلك فإن الغالبية الساحقة من الشعب لم تكن"إخوانا مسلمين"ولا أخوانا مسيحيين". ثم كان التزاوج مع هذه الشخصية المنقسمة في ما سمي"بالطريق الرأسمالي"الذي لم يكن طريقا اشتراكيا، الأمر الذي أثمر على الفور هوة واسعة بين التطور الاقتصادي والتخلف الاجتماعي. كما أن النهضة التي بلغت ذروتها في التقدم الثقافي للستينات سرعان ما آلت نحو السقوط بعد الهزيمة العسكرية عام 1967 وتكرس السقوط بعد انقلاب السادات في عام 1971. ومع فقر الموارد الطبيعية والانفجار السكاني وانعكاسات أزمة الديمقراطية على ما سمي خطأ بالتحول الاشتراكي، مع نمو طبقة جديدة تمسك بالأعمدة الرئيسية للبناء المجتمعي.. كل ذلك أدى إلى تهيئة مناخ فقدان الأمل وتجلى هذا"اليأس"في التدين المظهري المبالغ فيه.(ص295)، وهكذا سنواصل رحلتنا مع غالي شكري لبحث نتائج تجليات اليأس وزيادة مظاهر التدين الظاهري سواء لدى المسلمين أو المسيحيين. نواصل مع غالي شكري سيراً في طريق الشوك.

2
ونواصل مع غالي شكري في كتابه "الثورة المضادة في مصر" ونقرأ "لقد برهنت الاحداث على ضراوة النتائج المأساوية التي لحقت بالتجربة الناصرية كثمرة مريرة لانفصام العروة الوثقى بين الديمقراطية وكل من التغيير الاجتماعي والتحرير الوطني فقد أتت الهزيمة العسكرية (1967) والهزيمة السياسية في انقلاب 70-1971 دليلا حاسما على أن هذا الفصل بين الديمقراطية وغيرها من عناصر التغيير أدى إلى نتائج مريرة (ص297). ونبدأ مع واحدة من النتائج"المستشار جمال صادق المرصفاوي رئيس محكمة النقض في مصر خرج عن صمته منذ تولي منصبه في 1972 ليعلن في 1977 أن اللجنة العليا لتطوير القوانين قد انتهت من مشروعات القوانين وارسالها إلى وزارة العدل لتطبيقها على كل السكان من المصريين وغير المصريين والمسلمين وغير المسلمين عملا بإقليمية القوانين"ومن هذه القوانين قانون الردة"وهو تحديدا قانون الخروج عن الديانة الإسلامية واشترط مشروع القانون أن يطلب إلى المرتد التوبة فإذا انقضت مدة ثلاثين يوما دون العودة إلى الإسلام والاصرار على الردة عوقب المرتد بالإعدام شنقا"ونص المشروع على أنه يكفي أن يكون هناك شاهدان على الارتداد"وعقب مصطفى أمين في جريدة الاخبار (15-7-1977) قائلا"عمدت الله أن القانون الذي وافق عليه مجلس الدولة بإعدام المرتد عن الإسلام لم يصدر من سبعين عاما، فعندما أصدر قاسم أمين كتابه"تحرير المرأة"وعلي عبد الرازق كتابه"الإسلام وأصول الحكم"وطه حسين كتابه في الشعر الجاهلي"اتهم كل منهم بالارتداد عن الإسلام. وقد يجيء إلى مصر بعد عشر سنوات طاغية يعتبر من يعارضه في الرأي مرتدا أو من يطالب بالحرية كافرا، أو من ينقد تصرفاته زنديقا يستباح دمه ويجب رجمه". وقد استقبلت الكنيسة القبطية هذا القانون بالرفض معتبرة أنها المستهدفة به أولا وأخيرا"(ص313). وفي 17 يناير عقد أخطر مؤتمر ديني مسيحي. وكان الجو ملتهبا وصدر عن المؤتمر الذي أعلن أنه ضم ممثلي الشعب القبطي مع الآباء الكهنة والرعاة وأن جلسته الأولى عقدت في 17 ديسمبر 1976 بمقر الكاتدرائية المرقسية وحضرها قداسة البابا شنودة. وصدر عن المؤتمر بيان منعت السلطة نشره، وجاء في البيان"بحث المجتمعون الموضوعات المعروضة، كما استعرضوا ما سبق تقريره في اجتماع اللجنة التحضيرية لكهنة الكنائس القبطية في مصر الحاصل بتاريخ 5 -6 يوليو 1976 ووضع الجميع نصب أعينهم رعاة ورعية اعتبارين لا ينفصل احدهما عن الآخر أولهما الإيمان الراسخ بالكنيسة القبطية الخالدة في مصر والتي كرستها كرازة مرقس الرسول وتضحيات شهدائنا الابرار على مر الاجيال، والاعتبار الثاني الامانة للوطن المفدى الذي يمثل الاقباط أقدم وأعرق سلالاته حتى أنه قد لا يوجد شعب في العالم له ارتباط بتراب أرضه وقوميته مثل ارتباط القبط بمصر"ثم عرض البيان مسائل منها"حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وحماية الاسرة والزواج المسيحي والمساواة وتكافؤ الفرص والتمثيل في البرلمان ومخاطر التيارات المتطرفة وإلغاء قانون الردة، كما طالب باستبعاد التفكير في تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين وإلغاء قانون بناء الكنائس العثماني، والطائفية في تولي الوظائف العامة. وقرر المؤتمر صوم المسيحيين صوما انقطاعيا لثلاثة أيام"(ص314) وتلا ذلك عقد سلسلة من المؤتمرات المماثلة في أمريكا وكندا واستراليا. وهكذا تفجر ما أسمي"بالمسألة القبطية". وزاد الاحتقان الذي بدأته جماعة الأمة القبطية"التي يمكن مضاهاتها بجماعة الإخوان المسلمين. وكانت واقعة اختطاف البابا واحتجازه في الدير متهمين إياه بالضعف والخضوع للمحيطين به.

هذه المادة سبق ان نشرت في جريدة المدى ضمن سلسلة المقالات التي كان ينشرها المفكر المصري الراحل رفعت السعيد