رفعت السعيد وأزمة اليسار

رفعت السعيد وأزمة اليسار

د.جمال عبد الجواد
لم أفاجأ بردة فعل الإخوان ومن على شاكلتهم إزاء وفاة الدكتور رفعت السعيد، لكن ما فاجأنى فعلا هو مشاعر الشماتة التى عبر عنها شبان من النشطاء الثوريين المنتسبين لثورة الخامس والعشرين من يناير. فرفعت السعيد فى النهاية هو أحد أهم القادة المعاصرين لليسار المصرى الذى رفع راية الثورة والاشتراكية طوال عقود، وهو التيار الذى يمثل أحد الروافد التاريخية لحركة الشبان الثوريين، حتى وإن أنكر هؤلاء هذه الصلة.

لعب رفعت السعيد دورا قياديا بارزا فى حزب التجمع الوطني، أهم حزب لليسار المصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين. كانت أفكار ومواقف رفعت السعيد شديدة الأهمية فى صياغة الخط السياسى العام للحزب، وفى صناعة المواقف التى اتخذها الحزب فى منعطفات عديدة، ولهذا فإن الكثيرين من بين النشطاء الثوريين يحملون الرجل جزءا كبيرا من المسئولية عن التراجع الراهن لليسار المصري.
تبنى رفعت السعيد الماركسية اللينينية مذهبا سياسيا منذ أربعينيات القرن الماضي، لكن تطورات الأحداث بينت الصعوبات البالغة التى تمنع شجرة اليسار من طرح ثمارها فى بلاد الشرق. أدرك رفعت السعيد هذه الصعوبة مبكرا، ورسم لليسار دورا يتلاءم مع تعقيدات الواقع. اليسار كجماعة ضغط وليس كحزب سياسي، هذا هو التصور الذى طوره رفعت السعيد. ظل رفعت السعيد نشيطا ومخلصا لحزب التجمع الوطنى اليساري، إلا أنه أدرك مبكرا أن حزبه لم يعد هو حزب الطبقات الشعبية الجماهيرى الذى سعى لبنائه، ولكنه تحول إلى ناد للنخب المثقفة من اليساريين، فتصرف على هذا الأساس دون أوهام.
الحزب السياسى يسعى للوصول إلى السلطة، وهو ما لا تستطيعه جماعات الضغط ونوادى النخبة. أدرك رفعت السعيد هذه الحقيقة مبكرا، وكف عن مزاحمة أهل السلطة، لكنه واصل الضغط عليهم، فحول التجمع إلى أداة ضغط على النخبة الحاكمة من أجل تخفيف الضغوط الاقتصادية عن الطبقات الفقيرة، ومن أجل مقاومة التيارات الإسلامية المحافظة. أدرك السعيد أن الصراع على السلطة فى مصر هو حكر على من يملكون ما يحتاجه هذا الأمر الجلل، وأن على النخب اليسارية أن تنحاز فى هذا الصراع للجانب الأقرب لأفكار وقيم اليسار عن العلمانية والحرية، حتى وإن اختلفوا معه فى قضايا عديدة أخرى. اختار رفعت السعيد الانحياز للدولة الوطنية فى مواجهة خصومها الإسلاميين، الأمر الذى كان سببا فى إثارة انتقادات الشبان الثوريين.
الشبان الثوريون هم طيف واسع من النشطاء مختلفى المشارب. بعض هؤلاء الشبان يعتبر نفسه ليبراليا، فيما ينتمى القسم الأكبر منهم لتيارات يسارية متنوعة. الصراع الأيديولوجى التقليدى بين اليسار والليبراليين لا يشغل هؤلاء الشبان كثيرا، فمساحات الاتفاق بين الطبعات الحديثة من فرق اليسار والليبراليين أكبر كثيرا من مساحات الاختلاف. يستند هذا الهجين الليبرالي- اليساري، أو الليبريساري، إلى بنية فكرية تعطى أولوية مطلقة لقيمة الحرية، سواء كنا نتحدث عن الحريات الفردية أو الحريات العامة والسياسية، ويرتبط بهذا رفض عميق لكل أشكال السلطة، والتى يعتبرها الشبان الثوريون قيدا على الحرية. يبدأ هذا الرفض بالسلطة السياسية وأجهزتها الأمنية والمسلحة، ويمر بالسلطات الدينية بأشكالها المختلفة، وقد يصل إلى العائلة باعتبارها مسقط رأس والموطن الطبيعى للاستبداد الأبوي.
أن تكون يساريا أوليبراليا ليس بالأمر المهم فى عرف هؤلاء الشبان، ولكن المهم هو أن ترفض السلطة، وأن تكون ثوريا فى طريقة رفضك لها. مفهوم الثورة لدى الشبان الثوريين يختلف عنه لدى جيل رفعت السعيد، حين كانت الثورة طريقة أو أداة لتحقيق أهداف معينة. الثورة بالنسبة للشبان الثوريين هى الأداة وهى أيضا الهدف. فالثورة المستمرة هى الأداة الفعالة لتحرير الفرد من قيود الدولة والدين والمجتمع والثقافة والعائلة. ايديولوجية الشبان الثوريين فيها شبه بالأفكار التى طورها فرانز فانون أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار. ركز فانون على أهمية العنف، ليس فقط باعتباره أداة لإنهاء الاحتلال والسيطرة الاستعمارية ولكن الأهم من ذلك باعتباره اداة لتحرير شعوب المستعمرات من مشاعر الدونية ازاء ثقافة المستعمر، ومن الشعور بالانسحاق إزاء تفوقه. التحق فانون بصفوف الثوار الجزائريين، ومن العنف الذى ميز الثورة الجزائرية استلهم فانون فلسفته. بعد أكثر من خمسين عاما من انتصار الثورة الجزائرية يمكننا أن نحكم على مدى نجاعة أفكار فانون. لكن أيا كان رأينا فإن هذا لم يمنع ظهور أيديولوجيات مشابهة تركز على الأثر التحريرى للفعل الثوري.
بينما أنتج جيل رفعت السعيد من الثوريين المصريين مئات الكتب والوئائق التى تشرح أفكارهم، فإنه يصعب العثور على وثائق وكتابات تعبر بوضوح عن أفكار جيل الشبان الثوريين، الذى تجد أفكاره متناثرة بين عدد من الأعمال، يغلب على كثير منها الطابع الأدبي. المصدر الأهم للتعرف على توجهات وأفكار الشبان الثوريين تجده فى الممارسة السياسية التى خاضوا غمارها، خاصة أثناء ثورة يناير، وهى الأفكار التى تتلخص فى العمل المباشر، والتحريض والتعبئة، وسياسات الشارع، ورفض التنظيمات التراتبية، والمساواة الكاملة بديلا عن علاقات القائد والأتباع، وهى الأفكار التى يحملها كثيرون مسئولية إفشال ثورة يناير. المؤكد أن المواقع التى شغلها رفعت السعيد تجعله مسئولا عن قرارات كثيرة تم اتخاذها، لكن هل كان يمكن لأى قرارات اتخذها رفعت السعيد أن تجنب اليسار المصرى أزمته المزمنة، أم أن الأزمة الممتدة لليسار ناتجة عن ظروف موضوعية فى مصر والعالم. فرفعت السعيد لم يكن هو السبب فى هزيمة يونيو، أو فى انهيار الاشتراكية فى مسقط رأسها السوفيتي، ولم يكن هو المسئول عن انتصار الغرب الرأسمالى الليبرالى فى الحرب الباردة، أو عن انفجار وتشظى الاتحاد السوفيتي، كما أنه لم يكن لرفعت السعيد دور فى دخول المنطقة عصر الثروة النفطية، بكل ما جلبته هذه الثروة من تغير فى أوزان دول المنطقة، وثقافات شعوبها.
الشبان الثوريون الذين يحملون رفعت السعيد المسئولية عما جرى لليسار يبحثون عن كبش فداء يعفيهم من مشقة البحث عن الأسباب الحقيقية لأزمة اليسار، وعن تحمل نصيب من المسئولية عنها. فما أسهل الإشارة بإصبع الاتهام للآخرين، من فوق أريكة وثيرة، فوق هضبة الادعاء الأخلاقى العالية.
عن المصري اليوم