مع الملحن القدير  يحيى حمدي

مع الملحن القدير يحيى حمدي

اعداد : عراقيون
يحيى حمدي مطرب وملحن عراقي اسمه الحقيقي (يحيى عبد القادر حمدي) ترجع أصوله الى مدينة تكريت. ولد في محلة المربعة التي عام1925 توفي والده وهو صغير فعاش طفولته وصباه وحيدا مع والدته التي احبها حبا جما وظل بعدها يرعاها ويسعى لارضائها طيلة حياتها معه. بعد ان انهى المرحلة الابتدائية من دراسته تعين يحيى حمدي بوظيفة مراقب بلدية لدى امانة العاصمة ببغداد في منطقة (ابو سيفين) ومنطقة (ابو دودو). كانت مهنته هذه موضع احتقار من يعرفونه.

وفي اوقات فراغه كان يكثر من الذهاب الى المسارح والسينمات وفيها اكتشف بان لديه موهبة فنية مما دفعه الى الاهتمام بهذا الجانب.

اكتشف في نفسه حلاوة الصوت والقدرة على التلحين مما دفعه للتقدم الى دار الاذاعة والتلفزيون العراقية صالحية في عام 1946 كمغنٍ هاوٍ. أعجب المشرفون بدار الاذاعة بصوته وأدائه الغنائي فصار يغني الاناشيد الوطنية واغاني الطفولة في الاذاعة ضمن برنامج مخصص للصغار. كما صار يغني ايضا بعض الاغاني المستمدة من المقام العراقي الذي يشتمل على عدة فروع وانغام اصيلة

يقول الراحل خالص عزمي :
ما كادت فترة الزمن التي تهادت ما بين الأربعينيات ــ والخمسينات تطل بعدئذ ببشائرها المتألقة في شتى أنواع المعرفة؛ حتى كان للمطربين والملحنين والشعراء دورهم في شد الأواصر بصيغة برزت بشكل جلي في كثير من الأعمال التي قدمها شباب تلك الأيام؛ ;كيحيى حمدي وكان للشعراء والأدباء أثرهم في صقل ذائقة أولئك الفنانين والارتفاع بكفاءاتهم اللغوية والبلاغية إلى مستويات أهلتهم الى ولوج الوسط الثقافي و الى التقرب أكثر من عوالم المعرفة بشكل عام.
إن الذين عاشوا تلك الحقبة الزمنية يتذكرون جيدا مدى العلاقة الحميمة التي كانت تربط أولئك المطربين بعدد كبير من صفوة تلك النخبة الفذة ؛ من أمثال الشـــعراء عبد الكريم العلاف ؛و أنور شاؤل ؛ وعبد الستــار القره غولي ؛ و عبد القادر رشيد الناصري ؛ وعبد المجيد الملا ؛ وعلي الفراتي ؛ ومحمود المعروف ؛ ومكي عزيز ؛ وعبد الصاحب الملائكة ؛ وخالد الشواف ؛ وخاشع الراوي ؛ ومهدي مقلد؛ وصفاء الحيدري؛ وحسين مردان وكذلك مع شعراء الاغنية كجبوري النجار ؛ وسبتي طاهر ؛ وسيف الدين ولائي ؛ وجودت التميمي ؛ ثم مظفر النواب ؛ وزاهد محمد ؛ وزهير الدجيلي...

حمدي وصورة العلاقة بين الايقاع واللحن
يذكر الاستاذ عادل الهاشمي عند حديثه عن المسيرة اللحنية العراقية عن الفنان يحيى حمدي بقوله :
من الصعب ان يبقى الفنان معتمدا على موهبته لوحدها دون قرين ثقافي لتلك الموهبة! لهذا فان موهبة يحيى حمدي لم تستطع الصمود الى مدى زمني طويل، لانها تغذت من تجريبية مهنية محضة لا من ثراه مادة الفنان واحكامه في التنظيم لها عن طريق تطوره الثقافي في موسيقى، فهذا هو وحده الذي يهب عمله الفني قيمة متجددة.
لاننكر ان الحان يحيى حمدي احتلت حيزا زمنيا بارزا وعريضا، كانت الاسماع فيه لا ترى ملحنا اخر يضارعه وينافسه ويقف منه موقف المساواة فهو يلحن بروح معنوية عالية لا تضعف ويأتي على ضروب من التفنن المحكوم بموهبة اصيلة، غنت من الحافة اصوات متنوعة ونجحت وانتشرت في بقاع متعددة، في اسلوبه دخول متعمد للازمات موسيقية في هيكل الجمل اللحنية.
وهي القناطر النغمية التي يعبر عليها المفني من جملة غنائية الى اخرى، كما انه افتتن بالمقدمات الموسيقية.. غير انه لم يتمكن من السيطرة على قيادة هذا النمط الاسلوبي الى مناطق جديدة من التجربة الفنية المعاصرة لا لمحدودية في تمرسه، انما في ضعف بنيوي في ثقافته الموسيقية! لا تلمس في الحانه وثوبا مقاميا جديداً.. انما ننس فيها حسا موهوبا دقيقا مقتدرا يتطلع الى الجديد المبتكر وهو بهذا الحس الفياض يرسم خطا فاصلا بين بناء تقليدي تعود عليه الملحنون وبين محاولة التطلع الى ما وراء الهيكل الموروث وربطه بالحس العصري. شغلت اسلوبيته ايضا اهتماما استثنائيا للايقاعات المتنوعة الوحدة الكبيرة، الوحدة الصغيرة، الجورجيتا.. الى اخره، هذا الاهتمام تولد من خلال تدريب فني عميق جرى في ذاكرة الفنان!
غير ان الايقاع في اسلوب يحيى حمدي التلحيني ايقاع ظاهر وصريح، شانه شأن ايقاعات الالحان الخليجية التي لها كيان مستقل تسير مع اللحان ولا تندمج، فيه لهذا فاننا نحس ازاء الحان يحيى حمدي نحس ازاء الحان يحيى حمدي بسطوة الايقاع اكثر من سطوة اللحن، حتى تكاد تثبيت ان الملحن يسير بدلالة الايقاع في حين ان سلامة البناء الفني للالحان تقضي بان يكون سير الايقاع مرتهنا بدلالة اللحن.
من هنا نضع ايدينا على الخلل الذي يرين على الحاننا العراقية وطريقة اسلوبنا في التلحين، غير ان يحيى حمدي في تمكنه من الفن الايقاعي وحاول تعويض ما يفقده ويرغم كل شيء فقد نجح هذا التعويض واحتل مجالا حيويا من الاسماع.. وما زال اسلوبه في التحلين يحتفظ ببصماته الواضحة عند ملحني الجيل التالي لجيله.!
وبقى اسلوبه في تقطيع الجملة اللحنية يسير بدلالة الايقاع ايضا، والشيء المؤكد في حياة يحيى حمدي الفنية، انه كان فنانا، مطربا وملحنا، موصول النجاح مقتدرا متمكنا على نحو جلي، حيث بقي الاكثر تاثيرا في تيار الاغنية البغدادية.

يا جيرة البان
أن ابرز ما لحنه يحيى حمدي كان قصيدة [يا جيرة البان] شعر ابن معتوق وغناء نرجس شوقي، وللأغنية قصة لا تخلو من طرافة. إذ عشية المولد النبوي عام 1949 اتصل الباشا نوري سعيد بالإذاعة العراقية، وسألهم عما أعدوه لهذه المناسبة، فقالوا له لم نعد شيئا، فأجابهم بضرورة إعداد شيء عن الموضوع كيلا"تهيجون علينا خطباء الجوامع». فاتصل القائمون على الإذاعة العراقية آنذاك بالكثير من الملحنين وعرضوا عليهم تلحين قصيدة ابن معتوق، إلا أنهم اعتذروا جميعا باستثناء يحيى حمدي الذي أخذ القصيدة مساء وعاد بها ملحنة في الصباح، وتم تحفيظ نرجس شوقي الأغنية في الوقت نفسه، ومن ثم بثها، ولتكون، حسب رأي الناقد الهاشمي، أعظم قصيدة مغناة في الغناء العراقي على الإطلاق. كما كانت هناك الحان أخرى جميلة لقصائد مغناة لحنها هذا الملحن مثل [أسمعي لي] لمعروف الرصافي و[فتن الجمال] لبشارة الخوري وان القصائد التي لحنها تربو على الأربعين قصيدة. بالطبع كان هناك ملحنون آخرون للقصيدة وظلت قصائدهم الملحنة في ذاكرة الناس، نذكر منها [قيل لي قد تبدلا] لحنها رضا علي لعفيفة اسكندر، و[يا عاقد الحاجبين] لحنها علاء كامل لعفيفة اسكندر أيضا، وسواها كثير من القصائد التي أحبها الناس وتغنوا بها.
حبان كبيران...

يقول الاستاذ وسام الشالجي في مدونته التي كتب فيها ترجمة وافية ليحيى حمدي عن الحب في حياته :
عاش يحيى حمدي وفي قلبه حبان عظيمان ملئا كل حياته واستفردا بكل عاطفته. الحب الاول هو حبه الهائل لأمه التي تولت رعايته وحدها منذ ان كان طفلا صغيرا بسبب الوفاة المبكرة لوالده. وحتى بعد ان شب وكبر وصار رجلا ظلت والدته هي التي ترعاه وتسهر على شؤونه الى ان كبرت وتقدمت بالسن فدارت الدائرة فصار هو الذي يرعاها ويقدم لها كل ما في استطاعته من عناية لازمة. وفي اواسط الستينات رحلت والدته عن الدنيا فاصيب يحيى حمدي بصدمة شديدة زادت من أزماته النفسية التي كان يعاني منها أصلا فعاش وحيدا منعزلا عن الناس. أصاب رحيل والدته الفنان يحيى حمدي بأكتئاب شديد جعلت معظم أغانية بعد تلك الواقعة يغلب عليها طابع الحزن والنحيب بعكس اغانية قبلها. ولو قارنا الاغاني والالحان البهيجة والتفاؤلية التي كان يغنيها في بدايات عمره الفني مثل اغنية (زعلانه وانتي المنى) واغنية (لو كتلك حبيبي عيني فدوه) واغنية (يا زارعين الورد) التي عدت في حينها من اجمل الاغاني الصباحية , وكذلك اغنية (انت وبس غيرك لا) التي غناها في مرحلة شبابه مع الاغاني التي غناها بعد اواسط الستينات للاحظنا بوضوح مسحة الحزن في اغانيه اللاحقة والتي تعبر عن مدى حزنه الكبير على فقدان امه. وقد غنى لوالدته بعد رحيلها عدة أغاني تعبر عن افتقاده لها مثل اغنية (افتكرج دوم يا امي.. ردتج دوم يمي بافراحي وهمي.. يا عيني يا امي) , واغنية (جينه ومالكينه.. لو ندري مجينه) , وكذلك اغنية (اني من يسأل عليه) واغنية (التوبه التوبه يا ناس) والتي يغلب عليها جميعا مسحة الحزن الواضحة.