يفغيني يفتوشينكو: الشاعر يولد كبيراً

يفغيني يفتوشينكو: الشاعر يولد كبيراً

مروان علي
بعد وصولي إلى هافانا للمشاركة في مهرجان هافانا للشعر العالمي، عرفت بوجود الشاعر الروسي العظيم يفغيني يفتوشينكو في غرفة قريبة جداً من غرفتي، في الفندق الصغير في وسط هافانا، حيث استضافت إدارة المهرجان الشعراء المشاركين.

لا يعرف القراء العرب الكثير عن تجربة يفتوشينكو الشعرية، هناك قصائد متفرقة ترجمت له إلى العربية (ترجم معظمها الشاعر السوري المعروف إبراهيم الجرادي). بعد رحلته الشهيرة إلى مصر سنة 1967 أصدرت مجلة"الهلال"عدداً خاصاً عنه بإشراف وتحرير الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، لكن شهرته سبقته إلى البلاد العربية بسبب مواقفه السياسية التي طغت على نتاجه الشعري الفذ.

شاعر على الحافة
الشاعر الذي كان يقف على الحافة.. يعترض على ممارسات النظام السوفييتي وينتقده بقسوة دون أن يتحول إلى معارض واضح. كما أن هذا النظام سمح له بانتقاده بينما لم يسمح لغيره من الكتاب والشعراء الذين زجّهم في السجون والمعتقلات، حتى إن الشاعر المعروف جوزيف برودسكي قال عنه:"يفغيني يفتوشينكو يلقي الحجارة فقط في الجهة التي يحددها النظام السوفييتي له".
ربما كان في ذلك جزء من الحقيقة، رغم أن مواقفه من قضايا التضييق على الأدباء والمفكرين كانت صريحة وجريئة.. دافع عن فلاديمير دودينتسيف، ورفض الحملة على بوريس باسترناك وعلى ألكسندر سولجينيتسن صاحب (أرخبيل الغولاغ) ودان التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا، والغزو الروسي لأفغانستان، وكان من أشد المتحمسين لسياسات ميخائيل غورباتشوف الانفتاحية والبروسترويكا.
كان يتحرك بصعوبة تساعده زوجته السيدة القديرة ماريا نوفيكوفا في كل شيء تقريباً، وعرفت منها أن قدمه اليمنى بترت قبل سنوات بسبب داء السكري وارتفاع الضغط، لكنه كان نشيطا وحيويا.. ويمضي ساعات طويلة برفقة زوجته في صالة الفندق ويمشي في أطراف المسبح ويتحدث مع الزوار والشعراء المشاركين بالإنكليزية والإسبانية والروسية.
وكان واضحاً اهتمام السفارة الروسية بالشاعر الروسي الكبير.. إذ خصصت عدداً من الموظفين للسهر على راحة الشاعر الذي ترك إرثاً شعرياً كبيراً، يشكل جزءاً مهماً وأساسياً من الثقافة والأدب في روسيا، كما أن السفير الروسي حرص على حضور كل أمسياته واصطحابه بعدها إلى الفندق.
كان نجماً كبيراً في المهرجان الذي ضم شعراء من دول كثيرة.. كوبا، كولومبيا، الأرجنتين، فنزويلا، البرازيل، هولندا، بلجيكا، ألمانيا، فرنسا، تركيا، الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، المكسيك، كوستاريكا، سورية، المملكة العربية السعودية، لبنان، مصر، تشيلي، إيران، السويد، ودول أخرى.
جاء إلى الأمسية بلباس روسي تقليدي وتحدث مع الجمهور بالإسبانية التي كان يجيدها بطلاقة، وقرأ قصائد من قديمه وجديده وأهدى قصيدة حب إلى زوجته ورفيقته ماريا نوفيكوفا وخاطبها: تحبين هذه القصيدة وأنا أحبكِ كثيراً.
ساعة كاملة وهو ينشد ويغني ويقرأ دون تعب مع إلقاء في غاية الجمال والعذوبة والتفرد، ثم وقف تحية للجمهور الذي صفق له طويلا، وكانت إدارة المهرجان قد أعادت طباعة أكثر من مجموعة شعرية له بالإسبانية (Manzanas robadas)(El viento de la mañana) وزعتها على الجمهور مجاناً.
ألم تكن الأمسية طويلة ومتعبة بالنسبة لك وأنت في هذا العمر؟
ربما هذه أقصر أمسية لي خلال السنوات الأخيرة، أحب قراءة أشعاري أمام الناس، لأنني أكتب لهم، ذات مرة في موسكو قرأت لأكثر من ساعتين أمام عشرات الآلاف، وطلبوا مني المزيد وقرأت.. وقتها كنت شاباً ويلتفت إلى زوجته التي تردف"وما زلت شاباً، وهذه العكازة التي على الكرسي قربك.. لا بد أن أحداً تركها هنا".
كنت ألتقيه صباحاً حيث كان يفضل القهوة بالحليب قبل الفطور الصباحي، وكانت زوجته تختار له وجبته الأولى بعناية.. بيض مسلوق، قطعة جبن، سلطة الفواكه، وكأس من العصير الطازج.

ناظم حكمت غيرني
عن بداياته قال:
ولدت في سيبيريا وترعرعت في موسكو، كانت والدتي مهندسة ثم تركت الهندسة واحترفت الغناء.. البذور الأولى للتمرد أخذتها من أمي التي لم تكن تريدني أن أصبح شاعراً وحين نشرت قصيدتي الأولى، قالت:"مسكين أنت يا ولدي..لقد ضعت الآن تماماً"بينما كان والدي جيولوجياً هادئاً بطبعه، ولكنه لم يكن يجامل حتى في أبسط أمور الحياة، كان نزقاً ويحب الشعر، وأخذت منه هذه الخصلة، حتى صرت نزقاً أكثر منه، بل متهوراً، كما وصفني ذات يوم. بدأت بكتابة الشعر خلال المرحلة الإعدادية من دراستي، وحين التحقت بالجامعة كنت معروفاً في موسكو كشاعر، وكانت لطريقة إلقائي وطبيعة قصائدي الاحتجاجية دوراً كبيراً في لفت الانتباه إلى قصائدي التي كتبتها عن الذين عشت بينهم، لم أكتب شعراً سياسياً كما يقولون بل كان شعراً عن الإنسان ومن أجل حريته وكرامته. لقد قررت منذ البداية أن أكون شاعراً كبيراً، لأن الشاعر الحقيقي يولد كبيراً.
تغيرت حياتي كشاعر حين تعرفت إلى الشاعر الكبير ناظم حكمت، وهنا التفت إلى الشاعرة التركية هيلال كارهان وخاطبها: لماذا اعتقلتم وطردتم صديقي الشاعر العظيم ناظم حكمت؟ وابتسم لها.
تعلمت الكثير من ناظم حكمت الذي أحدث صخباً جميلا في المشهد الشعري والأدبي في الاتحاد السوفييتي، كان صديقاً كبيراً للشعر وللشعراء دافع عنهم، وكان يقدم المال الذي يحصل عليه (لأن القيادة السوفييتية خصصت له راتباً جيداً) بكرم وسخاء للشعراء المحتاجين، لقد تقاسم معنا كل شيء وبعد أن حصل على الجنسية السوفييتية رفع صوته أكثر، لأن القيادة السوفييتية كانت تحترمه جداً وتنصت له وتلبي كل طلباته، ووضع هو كل ذلك في خدمة الأدب. في الجامعة حيث أدرّس.. طلابي هم أصدقائي أعلمهم وتعلمت منهم، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول تظاهرت مع طلابي ضد الهجوم على الإسلام كدين سماوي، وقلت: علينا أن نميز بين الإسلام والمسلمين.. والإرهابيين، لأن الإرهاب لا دين له.

يريدون روسيا ضعيفة
طلابي في الجامعة حيث أدرّس الشعر (الروسي والإنكليزي) من فئات اجتماعية مختلفة: أولاد المزارعين، رعاة البقر، مهندسو نفط، فقراء وأغنياء.. يحبون الحياة وينحازون للإنسان وللطبيعة البكر الجميلة.
وعن بلاده روسيا قال:
هناك هجمة غربية فظيعة على روسيا، يريدون تصفية حساباتهم مع بوتين على حساب روسيا والشعب الروسي.. يريدون روسيا دولة تابعة وبائسة وفقيرة تترك لهم مهمة التفرد والتحكم بمصير الشعوب التي تريد التحرر من هيمنة الرأسمالية، أنا أعيش في الولايات المتحدة الأميركية ولمست ذلك عن قرب. لدي ملاحظات كثيرة على السياسة الداخلية والخارجية لروسيا وأنقل هذه الملاحظات بشكل دوري للقيادة الروسية التي تستمع وتنصت لمواقفي وآرائي.
وعن موقفه من ثورات الربيع العربي.. لم يجب بوضوح رغم تأكيده على حق الشعوب في الحرية والكرامة والمساواة (وهذا الأمر ينطبق طبعاً على الشعوب العربية وكل شعوب العالم)، إذا عدت إلى سورية والتقيت بمقاتلة كردية قل لها: يفتوشينكو ينحني أمامك.
لكنه لم يخفِ تخوفه من الثورات التي تلقى دعماً من دول لا تؤمن أساساً بالحرية.
وعن المشهد الشعري العربي، قال:قرأت ترجمات كثيرة لشعراء عرب ومن أجيال مختلفة، لا أتذكر من الأسماء غير محمود درويش.. وأعتز بصداقة الشاعر الكبير أدونيس، وهو واحد من أهم الشعراء في العالم، وإذا التقيته.. قل له: صديقك يفتوشينكو يسلم عليك.
في العالم العربي يعرفون يفتوشينكو شاعراً، ولكنني روائي وممثل ومخرج وكاتب سيناريو وفنان تشكيلي، وهناك في هافانا مركز يعرضون فيه بشكل دائم أعمالي التشكيلية، أحب الفن التشكيلي والسينما كثيراً.
عليك بزيارة المركز.. هي فرصة لتعرف يفتوشينكو الفنان يا صديقي.

الشاعر لا يخدع
كان التعب والإرهاق باديين عليه خلال الأيام الأخيرة للمهرجان الذي استمر لأكثر من أسبوع، وكان يحرص على البقاء دائماً قرب زوجته ولم تكن يده تفارق يدها. يرحل يفتوشينكو في منفاه الأميركي الذي اختاره بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث استقر في نيويورك ثم غادرها إلى مدينة تولسا في أوكلاهوما حيث عمل أستاذاً في جامعتها.
في سيرته الذاتية التي صدرت بالعربية سنة 2005"العمق الرمادي.. سيرة ذاتية مبكرة" يقول:"القصائد هي السيرة الذاتية لكل شاعر، على الشاعر أن يقدم لقرائه أفكاره على راحة يده. لا يحق للشاعر أن يخدع". وحين سمعت بخبر وفاته قالت أرملة الروائي ألكسندر سولجينيتسن"عاش إنساناً حراً قبل أن يكون شاعراً كبيراً".

عن الحوار المتمدن