الابعاد الفكرية والجمالية لرؤى يوسف عبد المسيح ثروت النقدية

الابعاد الفكرية والجمالية لرؤى يوسف عبد المسيح ثروت النقدية

د. سعد عزيز عبد الصاحب
في الفن والادب
ما حسب الوسط الثقافي والفني الستيني والسبعيني في بلاد الرافدين يوما ان يوسف عبد المسيح ثروت (1921 ـ 1994) المولود في ديار بكر والناشئ في قرية الهويدر في ديالى والدارس للثانوية في بعقوبة والمتخرج من دار المعلمين الابتدائية والمعين معلما فيها فترة من الزمن والمحترف للترجمة والكتابة الفكرية والمعرفية والمحرر الاطول باعا لمجلة الثقافة الاجنبية ـ سيموت مثل سائر الخلائق فجأة بلا ندابات او صوائح في مستهل الحصار الاقتصادي على البلاد،

لانهم بحق كانوا يرونه يتحرك في شارع المتنبي او جامعة بغداد او دار الشؤون الثقافية او اتحاد الادباء او خان مرجان، اثرا وايقونة شاخصة يتلقفون كتاباته المترجمة لكي تهديهم الى دروب المسرح والدراما، تلك الدروب التي دلفوا اليها بلا اطواق نجاة سوى القليل مما تعلموه من اساتذتهم في المعهد او الاكاديمية او ما جاءهم بالبريد السريع او الاجل من مجلة المسرح المصرية وبعض الاصدارات المترجمة الشحيحة الاخرى،كان (ثروت) بحق ثروة فكرية ومعرفية زاخرة.. رجل قصير ينغم الكلام في انفه قبل فمه وغير المعتني بهندامه كأنه (جان دمو) الشعري ولكنه يرتشف معتقه من مشارب النقد الحديث، مأخوذا بسليقة الترجمة او هو عبارة عن ناعور يملا جراره بالماء الثقافي الاجنبي ليحيي الاراضي البور ويجعلها سهوبا خضراء وافرة، كان مأخوذا بعراقيته وبتقدميته وحبه للمسرح العراقي بلا حدود في جميع ندواته ومقالاته التي سطرها، وغدت ماركسيته اللينينية مشوبة بأخلاط (ليبرالية) ولم تؤخذ من مرجعها السوفيتي، بل ترشحت من موشورات غربية، فتراه في احيان كثيرة منقسما وممزقا بين حبه للعبث واللامعقول والالتزام والوجودية بعنوانات ماركسية مكثفة مثل الحياة ذات ضبط جمالي عال : كالمجتمع، الطبقات، التأرخة... يسدلها كستارة تخفي شغفه بالطروحات المسرحية الحديثة التي يراها بعين راصدة قد دهمت العالم بأسره ونحن عنها غافلون، حتى وان كان مصدرها الغرب البرجوازي نفسه او امريكا البراغماتية، وربما تطرف في تراجمه بعيدا عن الترجمة الحرفية احيانا بمشرطه الخاص ومداخلاته الشخصية وخزينه المعرفي بأستنطاق النصوص على غير ما كانت عليه، ولا نظن ان هذا يدخل في باب (الخيانة) الادبية قدر تعبيره عن حرصه في تنوير قارئه، يشكل الراحل (ثروت) وحدة سردية في المشهد النقدي المسرحي العراقي بمكنونات وعيه المتناقضة اذا أُخذت من الخارج لكنها منسجمة داخليا بديناميكيتها وانفتاحها على الجديد والمتحرك وكان من ابرزها الخطاب الماركسي ومن ثم الوجودي والعبثي والنفسي حين تراه تحسبه مثل راهب هرطوقي ومن زاوية نظر اخرى يبدو وكأنه (تحريف) تبادلت فيه المرجعيات الثقافية الشمولية امكنتها فأختلط صخب النظريات وعنفها بهدوء العقل وصفاءه،لينتج ترجمة مبكرة لمسرحية الوجودي (جان بول سارتر) المعنونة (الحلقة المفرغة) عام 1963بصياغات ادبية تنم عن وعي وفهم عميق للمنطلقات الفلسفية الوجودية وما يعبر عنه (سارتر) نفسه، وترجمته الفذة لكتاب الناقد الامريكي (اريك بنتلي)(نظرية المسرح الحديث)(1975) تلك الخيانة المبدعة التي كان (ثروت) عارفا فيها بخبايا المصطلح المسرحي وتلاوينه لاسيما وان الكتاب اشتمل على فرشة عريضة لرواد التحديث في المسرح العالمي من منطلقات (الخشبة) وعناصرها مثل (اودولف ابيا)و(بريشت)و(كوردن كريك) و(ارتو)وغيرهم، الملتبسين والغير معرفين في الوسط المسرحي العربي، في الوقت الذي كان فيه المثقفون العراقيون من شعراء وسراد ومسرحيين من الجيل الستيني جيل الموجة الصاخبة واقعين تحت تاثيرات الادب والفن الوافدين من المشغل الغربي تحت تسمية مصطلحات مختلفة منها الطليعي او العبثي او تيار اللامعقول متمثلا بمسرحيات بيكيت ويونسكو واداموف وجينيه والوجودية بسرديات ومسرحيات (سارتر)و(سيمون ديبوفوار)و(كامو) واللامنتمي بروايات (كولن ولسن)وتيار الوعي بسرديات (جميس جويس)و(وليم فوكنر)و(فرجينيا وولف) كان الراحل (ثروت) يتناول اعمال هؤلاء في دراسات عميقة ومستفيضة سابقة لزمنها الثقافي، فهو اول باحث عراقي ابحر بعوالم (كولن ولسن) وافضيته المعقدة والغامضة وقد كرس لذلك دراسة طويلة هي ودراسات اخرى جمعها في كتاب سمين بعنوان(الطريق والحدود)ـ مقالات في الادب والمسرح والفن طبعته وزارة الاعلام العراقية عام 1977 بين فيه الراحل شواغله العميقة بالاتجاهات والتيارات الفكرية لحقبة الستينيات وخصوصا مع (كولن ولسن) وعوالمه الخفية حيث يفكك (ولسن) التفكير المنطقي للبشر بقوله :(ان فكرتا الخير والشر هما الفكرتان التي توصل اليهما العقل البشري بالجهد الشاق والصراع الدائب، فانهما سرعان ما يتبخران ليجد الانسان ذاته في غرفته محملقا في الجدران يدور حول نفسه بحثا عن نفسه فلا يجدها ويظل يدور ويدور دون ان يدري ماذا يفعل، في هذه الحلقة المفرغة العمياء يظل صاحبنا تائها حتى عن ادراك نفسه)(الطريق والحدود ص8ـ9) هنا في سؤال (الكينونة) هذا يجد (ثروت) ضالته في (الصوفية) ويقرنها بقصائد الشاعر الانجليزي (وليم بليك) وبطريقة تفكيره الشرقية حيث صباحه(طيف براق)وليله (قبو كبير لا يضم غير الموتى) وذهنه سجين (في دائرة ضيقة)وقلبه غارق (في الهوة في كرة حمراء مستديرة ساخنة وملتهبة) وحق لهذا السجين المعذب روحا وجسدا ان يقول بملء فمه (من الافضل ان لايولد الانسان وان الموت خير من الحياة) بنبرة تشاؤمية استزادها (ثروت) وتشربها من قراءاته للوجوديين (هايدجر)و(كيركيجارد)و(نيتشه) الذي يصفه برب ارباب الحركة الوجودية لانه ينطلق من فكرة (الانسان السوبرمان) الذي يحرق كل شئ امامه فهو عدمي بالنتيجة ولا سبيل للخلاص والتحرر الا بالحرب وابادة الاخر، اما في دراسته الموسومة (في المذاهب الادبية والفنية) والتي اشتمل عليها كتاب (الطريق والحدود) ينفتح فيها (ثروت) على اربع مدارس ادبية وهي الوجودية والسريالية والواقعية الاشتراكية والواقعية النقدية ويعتمد فيها على ستة واربعين مصدرا وكل هذه المصادر لكتاب اجانب وخاصة (جورج لوكاش)المعروف بتمثلاته للافكار الماركسية و(ارنست فيشر) بالاضافة الى مجموعة من النقاد السوفيت ويعرف (ثروت)(السوريالية)بالتعويل على المعجم الفلسفي السوفيتي اذ يقول (انها اتجاه في الفن نشأ في فرنسا منذ بواكير العشرينات وهي تعبير متميز عن ازمة المجتمع الرأسمالي وتكمن جذورها الفلسفية في نظريات (فرويد) الذاتية التي تعد الفن وظيفة ونتاجا للجنس، وتبعا للسوريالية فأن مضمون الفن ينحصر في النوازع الجنسية وغرائز الخوف من الموت والحياة ايضا)(الطريق والحدود ص63 ـ64) وينقد (ثروت) التيارات الوجودية والسوريالية والعبثية من منطلقات (ماركسية)بحتة ويدين تشاؤمية هذه التيارات وانطوائيتها على الذات وانقطاع علاقتها بالمجتمع : (تبعا لكل تلك الاسباب، يأخذ العصيان والتمرد والعزلة الذاتية بالتسرب الى دخيلة الفنان او الكاتب، وبذلك يصبح الفنان اداة طيعة لكل هذه الهواجس والكوابيس ظانا من نفسه القدرة على التفوق على مجتمعه بتجاوزه معطياته، وبالتالي يجد نفسه منعزلا عن كل تيارات عصره، مفرغا في ذاته كل همومه ومشكلاته فيتمزق وعيه تمزقا مأساويا سوداويا)(الطريق والحدود ص69) يرى(ثروت) ان هذه النزعات والتيارات ليس مهما فيها معاناة المرء الذاتية مهما كانت صادقة ولا يكفي ان يحسب المرء نفسه طليعيا وان يطمح للسير في مقدمة تطور الفن،وليس مهما الابتكار السباق لتجسيدات تقنية مذهلة، بل المهم هو المضمون الانساني، والمضمون الاجتماعي للنزعة الطليعية ورحابة وعمق قفزة المرء في المستقبل، والغريب ان (ثروت) في بحثه المستقصي في ثنايا الحركات والاتجاهات الطليعية نجده منكفئا على ذاته في اخريات ايامه منغلقا عليها مشتغلا مع نفسه بنفس المنطلقات الوجودية والعبثية التي نقدها وقوضها في مستهل حياته الادبية، فيتوقف عن الترجمة والنشر وهو في اوج عطاءه الادبي والفني، وقد يكون هذا الانكفاء والانعزال احتجاجا وتمردا على الاوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي بدات تسوء ابان منتصف الثمانينيات.. وعلى الرغم من كل ذلك وبمنظور شامل ومنذ البدايات يلتقط (ثروت) التقاطات وينتقي انتقاءات ابداعية متفردة من الادب والفن الاوربيين مسلطا عليها حزمة من الضوء الساطع فينفتح على (بريشت) بعنوان لافت (بريشت الكاتب الذي بدد الاوهام)ويستطرد في شرح تفصيلي ودقيق لمصطلحات (عامل التغريب)و(التأرخة) و(كسر الايهام) ويدخل في تناقض غريب اذ ان التيارات والمدارس المستحدثة (الذاتية)كالسوريالية والتعبيرية والتي نقدها (ثروت) من منطلقات ماركسية كانت ارضية خصبة ونواة خصبة في بعض سماتها لافكار (بريشت) التقدمية في بناء مسرحه الملحمي وخصوصا (التعبيرية) لدى (بوشنر)و(فيدكند) التي استقى منها خط (الرحلة) المأساوي لبطله الملحمي بتحولاته المستمرة، والعنونة والمشهدية القائمة بذاتها..وكانت لـ(ثروت) دراسة مفيدة عن المسرح السوفيتي والمسرحية ذات الفصل الواحد التي امتلكت قدرة فريدة بدقة تركيزها وحدة صراعها وصرامة موقفها ولغتها الشفافة وحدية مشكلاتها، فهي تواجه المتلقي بكل القيم الفنية دون مواربة او مداورة او التفاف بسبب حيزها المحدود الذي لا يسمح الا بأشمل الامور الجوهرية في الحياة واشدها لصوقا بالقضايا الاساسية التي تشد انتباه المتلقي وتعمق قدرته على الاستيعاب والفهم وتوسع امكاناته على المداخلة المباشرة في العمل المسرحي، وتقوي طاقاته المتيسرة للتوحد الشامل بذلك الفعل ليسلط الضوء على ثلة من الكتاب السوفيت المعتبرين منهم (الكسندر سيرافيموفيتش)(1863 ـ 1949) والكاتب (يوري.ن.يورين)(1889 ـ 1927) ويشير ايضا الى (ا.ف.لوناتشارسكي)(1875 ـ1933) الذي يعد من ابرز ممثلي الثقافة الاشتراكية ويطرح له محللا مسرحية (روح اليانورا) تلك المسرحية الناقدة لروح الخرافة والعقائد البالية في المجتمع الروسي،يفكك ويحفر (ثروت) في عوالم (بيكيت) المسرحية من منطلقات (ماركسية)(مادية ديالكتيكية) بمفهومي التاريخ والتحول فيرى :(ان انسان بيكيت لا يعترف بالتاريخ وجودا عيانيا ماضيا , ولذلك نجد (استراغون) في مسرحية(في انتظار غودو) يرفض مثل هذا التاريخ بقوله (لا احداث، ليس هناك من جاء، ولا من ذهب، انه شئ فضيع)(الطريق والحدود ص191) وفي الثبات والاستقرار وعدم التحول يشخص (ثروت) الاتي : (وجدنا تداخل الشخصيتين (فلادمير وستراغون)في كل حركة على نحو مرعب، الى حد يمكن ان نضع (استراغون) في جلد (فلادمير) وان نفعل الضد مع ذلك، من غير ان نشعر بالفرق بين الشخصيتين، ان بيكيت من خلال هذا التداخل يصور الشخصية الانسانية تصويرا دراميا مأساويا حادا بكل صرامة وفظاظة، انه يغلق عليها كل منافذ التغيير والانفتاح، فلا يعود اي كائن انساني الا نسخة طبق الاصل من اي كائن انساني اخر، ومن ثم يصبح الطابع السكوني المحدد تحديدا حديديا السمة البارزة للانسان في وضعه الوجودي بتجريده كليا من مواضعات الحركة والتبدل والتغير) (الطريق والحدود،ص192) ويعلي (ثروت) من شأن فكرة الانتظار التي صنعت نصا مسرحيا كاملا غير متنام لكنه مشدود ومتوتر بقلق الانتظار ضاربا بكل مساقات العرض التقليدي، ممثلا (بيكيت) لعالم البرجوازية المنهارة في اعنف لحظات انهيارها مأساوية ويستشهد بـ(ارنست فيشر) في موضع نقده للبيكتية بعناصر ماركسية : (ان تحويله (يعني الانسان) الى دلالة هيروغليفية في مسرحية الاسرار الكونية ومحو وجهه الشخصي والاجتماعي في ضباب سحري موغل في القدم ينتهيان به الى اللاشيئية، لان الانسان الذي لا ينتمي الى اي مجتمع يفقد هويته بأسرها، ويصبح حيوانا زاحفا بين لاشئ ولاشئ، وهكذا ينهدم صرح الواقع، ويسف الانسان الى درك الحيوانية)(الطريق والحدود ص202) ويستعير من (لوكاش) قراءته لمجمل تراث بيكيت الدرامي بقوله : (يقدم لنا بيكيت صورة الانخذال الانساني في اخزى مظاهره)(المصدر السابق ص203).
انشغل الراحل يوسف عبد المسيح ثروت بافاق واعماق تجربة المسرح العراقي وخصوصا تجربة فرقة المسرح الفني الحديث التي راقت له تجاربها لتساوقها مع منطلقاته الفكرية (اليسارية) ولتنوع ريبورتوارها المسرحي باستقطابها عديد المؤلفين العراقيين فكتب ثلاث دراسات مطولة وقيمة عن المسرح العراقي في ضوء ما شاهده من عروض هذه الفرقة على مسرحها ومسارح الفرق الاهلية الاخرى وهن :1 ـ بعض القيم الفكرية في المسرح العراقي الراهن، 2 ـ انموذج الشخصية المحورية في مسرحنا الراهن، 3 ـ صورة المسرح العراقي محاولة مسح عام، ينفتح (ثروت) في المحور الاول على العديد من القيم الفكرية والجمالية السائدة في المسرح العراقي فترتي الستينيات والسبعينيات ويعتبر مسرحيتي (المفتاح)و(الخرابة) لـ(يوسف العاني) اساسا للتغيير والتحول في سيرورة المسرح العراقي المعاصر :(بأعتبار هذا المسرح (مسرح العاني)منطلقا لحركة جديدة في اجواء المسرح العراقي، ومنطلقا لتبدلات تقنية ونوعية في هذا الفن الجديد) (الطريق والحدود ص207) ويسلط الضوء على مسرح (عادل كاظم)ليقرا مسرحية (الخيط) قراءة ماركسية ويردها لمسرح اللامعقول كنوع درامي يختلف عن مسرحيات (عادل كاظم) الاخرى كـ(تموز يقرع الناقوس)و(الطوفان)و(الكاع)و(الموت والقضية) محللا ذلك حيث يقول : (لماذا اختلف الخط البياني في (الخيط) عن نظيره في مسرحيات (كاظم) الاخرى، وبهذه الصورة غير المتوقعة واللامعقولة بالمعنى الفلسفي والدرامي من الكلمة؟ الذي نأمله ان يعود جرار الخيط الى خيطه الحقيقي لكي يستطيع ان يجيبنا عن هذه الانعطافة بما يطمئن به نفوسنا)(المصدر السابق ص217) وهنا يغفل (ثروت) ان الكاتب (عادل كاظم) كان في فترة تلمس الانواع الدرامية والادبية الوافدة وعهدها الجديد على ذائقته الفنية اضافة لدهشته بهذا النوع الجديد غير الارسطي، وان الكاتب الدرامي لا يكتب باسلوب يناغي قريحة ادبية ونقدية محددة انما هو يكتب للجمهور العام والشامل، ان المثير والمبتكر لدى (عادل كاظم)في مسرحية (الخيط)انه استطاع ان يقوم بأنتاج بنية تحويلية لنسق مسرح العبث واللامعقول باسلوب ولهجة ونهج عراقي خالص، ويتوافق (ثروت) مع مسرح (نور الدين فارس) لان منطلقات الاثنين الفكرية هي واحدة (منطلقات ماركسية) بامتياز، فيشترع انوجاد وكينونة (فارس) في تيار الواقعية النقدية المشرب بالروح والتقنية (البريشتية) وذلك في مسرحيات : (الغريب) و(البيت الجديد) و(العطش والقضية) وغيرها.
في المحور الثاني المعنون(الشخصية المحورية في المسرح العراقي) ينتقي من بين مجموعة من الشخصيات المسرحية العراقية، شخصية (دعبول البلام) في مسرحية (الشريعة)لـ(يوسف العاني) انموذجا لدراسته هذه، اذ ينعته (بالنمط العراقي المتميز وبالطيبة وسرعة الغضب وسرعة الرضا، ولطف المعشر، وبالاجتماعي والحامل لهمومه وهموم الاخرين، وصادق مع نفسه ومع غيره، بغدادي صميم من ابناء شعبه،ولكنه لا يعرف كيف يجعل تلك الارادة فعلا حيا ملموسا، الناس متحفزون، الاحزاب الوطنية تنشط الجو متكهرب، في هذا الوضع الدرامي تصطدم مصلحة (دعبول) بمصلحة التقدم الحضاري، البلام ازاء سيارة الباص، البلامة باجمعهم يواجهون مصلحة نقل الركاب هنا ينفجر الموقف ويتحول الصراع من نوع الصراع الفردي الى الصراع الجماعي الاجتماعي الكبير)(الطريق والحدود ص231) هنا يكتشف (ثروت) تحولات البطل الدرامي في المسرح العراقي ويدرسها على وفق التحولات في البنى الاجتماعية والاقتصادية للبلاد بانهيار البطل التراجيدي القديم وتشظيه ليتحول المجتمع بجميع تناقضاته هو البطل الجديد.
في المحور الثالث ودراسته للبنية الداخلية للمسرح العراقي يتطرق الى المسائل الاتية : 1ـ واقعه المشخص،2ـ كتابه ومشكلات النص، 3ـ عطاءاته المسرحية،4 ـ جمهوره المسرحي. اما اهم دراساته واكثرها تشويقا وحفرا وفائدة جاءت تحت عنوان ((الشعر والمسرح ـ محاولة تعريف وتجذير) ويعرج فيها الى الدراما والكوميديا ويقوم بأجراء وجه المقارنة بينهما ثم ينتقل الى المأساة والملهاة وينحو ذات المنحى، ثم ينتقل الى مسرحيات (لوركا) وعقد مقارنة بين مسرحياته الشعرية ومسرحياته النثرية والتأثير الرمزي الواضح في شعره، اي ان الشعر الدرامي لدى لوركا ـ كما يعبر ثروت ـ جزء لا يتجزأ من المسرح نفسه، فهو لم يكن طارئا عليه من الخارج او شيئا دخيلا، انما كان مسرحه نفسه شعرا، ولم يغفل الراحل الكبير دور (بريشت) في الاداة الشعرية الموظفة لفنه المسرحي اذ لم يستعرها للاهداف الجمالية فحسب، بل من اجل التعبير الدقيق والصائب والمكثف عن مشكلات وعلل القرن العشرين بنبرة طبقية ساخرة، وفي معرض حديثه عن توظيف الشعر في المسرح العربي يتخذ من (صلاح عبد الصبور) انموذجا لهذا التوجه، ويرى ان اسلوبه يتسم بالبساطة وكاشف للزيف والاقنعة التي تتستر بها الوجوه. ولم ينسى (ثروت) في سياحته البحثية الكثيفة والمضنية ان يزود المكتبة الاكاديمية والدرامية ولطلبة الدراسات الاولية والعليا بكتابين على درجة كبيرة من الاهمية قام بترجمتهما الاول بعنوان (تشريح الدراما) للناقد الانجليزي (مارتن اسلين) والثاني لنفس الكاتب بعنوان (اللامعقول وقضايا اخرى) وفي كلا الكتابين نقرا ونفحص براعته في الترجمة والتصرف الحاذق والواعي بالالفاظ وسيولة لغته العربية وشعريتها في العديد من المناطق التي تتطلب ذلك بما يتناسب مع هدف المؤلف الاصلي فالمترجم مؤلف اخر للنص يعكس خزينه المعرفي ومحيطه الثقافي ايضا ـ كما يعبر رولان بارت ـ اخيرا.. لقد خص الراحل (يوسف عبد المسيح ثروت) المكتبة الفنية والادبية العراقية والعربية بنفائس تراجمه وبحوثه ودراساته القيمة التي كانت محط اهتمام الباحثين والدارسين في حقل الدراما مدة الخمسين سنة المنصرمة، ودل الراحل على امهات الكتب والمصادر الاجنبية الاساسية التي من الممكن ان يفيد منها الدارس ويدعم مقولاته لاسيما فيما يخص المسرح المعاصر والحديث والتجريبي، حيث كان الراحل ملما بخواص وسمات وابعاد وتقنيات المسرح فلم تكن ترجمته جافة او ادبية محضة انما كأنها تخرج من رحم مسرحي اصيل مخصب بالابداع.

المصادر :
1 ـ يوسف عبد المسيح ثروت، الطريق والحدود، وزارة الاعلام،بغداد، دار الحرية للطباعة والنشر، 1977.
2 ـ جان بول سارتر، الحلقة المفرغة، ترجمة: يوسف عبد المسيح ثروت،بيروت، الشركة الحديثة للطباعة والنشر، 1963.
3 ـ اريك بنتلي، نظرية المسرح الحديث،ترجمة : يوسف عبد المسيح ثروت، بغداد، دارالحرية للطباعة، 1975.
4 ـ صباح هرمز الشاني، دور يوسف عبد المسيح ثروت في اثراء النقد المسرحي العراقي، موقع الحوار المتمدن تاريخ النشر 30 /1 /2010.
5 ـ مارتن اسلين، تشريح الدراما، ترجمة : يوسف عبد السيح ثروت، بغداد، دار الحرية للطباعة، 19976.