برناردو برتولوتشي.. العالم حين يدخل إلى الكواليس

برناردو برتولوتشي.. العالم حين يدخل إلى الكواليس

نديم جرجوره
يبقى رثاء "لوموند" في رحيله أهمّ تعبير عنه: "سينمائيّ الاختراق" (بتعبير آخر:"سينمائي الإثم"). بعد ساعات قليلة على رحيله، لم تعثر الصحيفة اليومية الفرنسية على وصف أدقّ من هذا، يختزل السينمائيّ الإيطالي برناردو برتولوتشي (1941 ـ 2018). والتعبير، إذْ يعكس جوهر اشتغاله السينمائي في أكثر من نصف قرن، يذهب إلى ما هو أبعد من تحطيم قيم، وإلى ما هو أجمل من توثيق بصري لمكامن العَطَب الفردي في عالم يتحوّل يوماً تلو آخر،

وإنْ في اتجاهات متناقضة غالباً.
أما جيل جاكوب، الرئيس السابق لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، الذي يُسلّمه"السعفة الذهبية الشرفية"تكريماً له ولأعماله عام 2011، فله تعبير آخر:"إنه آخر أباطرة السينما الإيطالية"، و"سيّد اللوحات الجدارية والمغامرات كلّها"، مُعلناً ـ في الوقت نفسه ـ"انتهاء الحفلة"، لأن"رقصة التانغو محتاجة إلى اثنين".
لكن رحيل مخرج"التانغو الأخير في باريس" (1972) و"الإمبراطور الأخير" (1987) و"الجمال المسروق"(1996) لن يستدعي تلك المفردة فقط، بل يدفع إلى استعادة نتاجٍ قليل العدد (بالنسبة إلى مخرجين آخرين ينتمون إلى جيله أو إلى زمنه أو إلى العالم المُقيم فيه وقتاً مديداً) يمتلك حساسية باهرة في مقاربة البواطن المخبّأة في الروح والنفس الفرديين. وهذا غير محصور في تمكّنه السينمائيّ من إثارة صدمات أخلاقية واجتماعية وإنسانية فقط، لأن بعضاً من نتاجه يتناول العاديّ في مسارات الناس وعلاقاتهم المعطّلة أو المتصادمة أو المتوافقة ورغبات لن تقف عند حدّ.
المأزق كامنٌ في أن غالبية الطامحين إلى رثائه يقفون عند رائعته"التانغو الأخير في باريس"، خصوصاً أن ماريا شنايدر (1952 ـ 2011) تُثير ضجة إعلامية بإعلانها، قبل رحيلها بأعوام قليلة، أنّ المشهد الأشهر في الفيلم أشبه باغتصاب تتعرّض له بتوافق ضمني بين مارلون براندو وبرتولوتشي. لكنّ للمخرج حضوراً يمتزج بهذا الفيلم، من دون أن يُختزل به. له روائع عديدة، منها"1900"، الفيلم المُنجز عام 1976، والمتوغّل في التفاصيل الدقيقة ليوميات صبيين اثنين مولودين في اليوم نفسه في مُلكية تابعة لمقاطعة إيطالية، مطلع القرن العشرين (يُحدِث هذا الفيلم إشكالية متعلّقة بترجمة العنوان. فالمفردة الإيطالية Novecento، المختارة للعنوان الأصلي، تعني"القرن العشرين، بينما الترجمة المعتمدة إلى الفرنسية هي 1900). فيلمه هذا يجول في قرن من الزمن يشهد صراعاً حادّاً بين طبقات اجتماعية متناقضة.
من تلك الروائع أيضًا:"استراتيجية العنكبوت"(1970)، الذي يعتبر فيلماً بوليسياً، بسبب تحقيقات آتوس مانياني (جوليو بْروجي) في مقتل أبيه قبل سنين كثر، مع أن سرديته مفتوحة على تفاصيل متعلّقة بتساؤلات عن الحياة والقتل والعنف والعلاقات، خصوصاً أن شهادات مقرّبين من القتيل، بالإضافة إلى عشيقته، متناقضة كلّياً، ما يؤدّي إلى مسارات حادة لكشف المخبّأ.
أوصافٌ نقدية مختلفة تُطلق على برناردو برتولوتشي بُعيد رحيله صباح أمس، 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، بعد معاناة المرض:"مؤلّف نصوص مسكونة بسيناريوهات فرويدية"، و"بحثٌ دؤوبٌ عن التحرّر المطلق من طغيان الأبوّة في حياته"، و"السينمائيّ العاشق السابق للسينما الهوليوودية، المنتقل من سطوة الأب البيولوجي إلى الأب الروحي، بيار باولو بازوليني"، الذي يُصبح مساعده في سنّ باكرة، وغيرها. لكنها أوصافٌ منبثقة من اشتغاله، ومتأتية من سيرته، ومنفلشة على الشاشة الكبيرة انطلاقاً من تأثيراتها وحراكها.
هذا الإيطالي غير محصورٍ ببيئة أو همّ أو مزاج واحد. يعود إلى"ثورة الطلاب"في باريس، في مايو/ أيار 1968، في"أبرياء: الحالمون"(2003)، كمن يسعى إلى استعادة حقبة ثريّة بالعناوين والتفاصيل، في السياسة والاجتماع والسينما والثقافة والتأمّل والتمرّد والعشق والصدامات. يختار شخصية الإمبراطور الصيني "تشي" (1906 ـ 1967)، لقراءة فصول من النزاعات الحاصلة في آسيا منتصف القرن الماضي ("الإمبراطور الأخير"، 1987، تسع جوائز "أوســكار"). عام 1990، يُحقِّق"شاي في الصحراء"، راوياً فيه حكاية ثلاثة فنانين أميركيين أثرياء يسافرون إلى أفريقيا لأسباب مختلفة، ويخوضون معاً تجارب في قلب الصحراء.
فيلمه الثاني،"قبل الثورة" (Prima Della Rivoluzione)، المُنجز عام 1968، مُقدَّر لدى النقّاد الذي يعتبرونه تجديداً أصيلاً في السينما الإيطالية في ستينيات القرن الماضي. فيه، يبرز غموض سياسي وجنسي يتوضّح بأناشيد تمتلك تعقيدات بصرية في رسمها ملامح حقبة مضطربة في إيطاليا مطلع الستينيات الفائتة، إذْ يتابع السينمائي الإيطالي مسار فابريزيو المضطرب بين حياته البرجوازية وتطلّعاته بالتزام عقائدي للأفكار الماركسية التي تسري حينها في العالم.
النماذج تلك مرايا تعكس شيئاً من هواجس الإيطالي. تجواله في الجغرافيا يُرافق تجواله في التاريخ بحثاً عن أسئلة الحياة والموت والعلاقات."عشقه"السينما متأتٍ من مشاهدته"لا دولتشي فيتا"(1960) لفيديركو فيلّيني. قبلها بأعوام، يحصل المراهق، ابن الـ 15 سنة، على كاميرا 16 ملم من والده، الشاعر وأستاذ التاريخ والناقد السينمائي، آتيلّو برتولوتشي. يعمل بإدارة سيرجيو ليوني وداريو آرجنتو. مع هذا، تذهب سينماه، لاحقاً، إلى قول سياسي، عاكساً رؤية ملحمية ورومانسية للتاريخ الإيطالي.
قدره أنه صانع حقبة، ومؤسّس تيار تجديدي في سينما بلده، قبل خروجه إلى العالم لاكتشاف الدنيا وأحوالها ومصاعبها، ولفهم غرائزها ومصائرها وهواجسها.
عن العربي الجديد