الهام المدفعي.. نموذجا

الهام المدفعي.. نموذجا

عدنان حسين
الهام المدفعي لا يعرفه معظم العرب، بل ليس كل العراقيين يعرفونه، لكنّ القلة التي تعرفه تقدّر له موهبته (عازفاً ومغنياً) وتقدّر مشروعه الفني الجريء الذي اطلقه منذ ثلاثين عاماً لمزيد من تحديث الموسيقى والغناء العراقيين، وهو مشروع لو كانت الدولة العراقية قد خصصت له واحدا بالمليون مما أنفقته على حروبها الخائبة المدمرة لكان العراق قد حقق غزواً خارجياً جميلاً، نافعاً للعراقيين ومفيداً لغيرهم من الجيران العرب والعجم على السواء.

ولا بد من الاشارة، مقدماً، الى ان الهام المدفعي لم يُعرف عنه اي تورط في السياسة، حكومية كانت ام معارضة (النشاط السياسي في العراق ورطة حقيقية كثيرا ما كلفت المنخرطين فيه، او حتى المشبوهين بالانخراط فيه، حياتهم) بيد ان الهام المدفعي كان ضحية للسياسة. بل انه نموذج لضحايا السياسة في العراق، وما اكثرهم فهم بالملايين..بعشرات الملايين حتى! في الماضي كانت الاغنية العراقية، في الغالب، مغرقة في الحزن.. مؤديها يئن ويتأوه، وسامعها ينتحب علناً او في سرّه. وكانت ايضا محلية للغاية، فهي إما «مصلاوية"في الموصل (شمال غرب)، او بغدادية (بستةً ومقاماً) في العاصمة، او «بصراوية"في البصرة (جنوب)، او «عمارتلية"في العمارة (جنوب شرق)، او «فراتية"في الحلة وكربلاء والديوانية، او «دليمية"او «غربية» في الدليم (غرب). المغني ناظم الغزالي بدأ في الخمسينات مبادرة تاريخية لانتشال الاغنية العراقية من محليتها ورتابتها وثقلها وبعض اكتئابها. ومبكراً مات الغزالي في مطلع الستينات، الا ان المشروع الذي اطلقه تولاه من بعده جيل الستينات/السبعينات المثقف من الملحنين والمغنين وكتاب الاغنية (بينهم على سبيل المثال وفي مقدمتهم الملحن كوكب حمزة والكاتب ابو سرحان والمغني سعدون جابر) الذين جعلوا الاغنية العراقية الجديدة تلغي الحدود المحلية وتجتاز الحدود الخارجية ايضا الى المحيط العربي. في ذلك الوقت يحدث ان يقطع الهام المدفعي دراسة الهندسة في بريطانيا مضطراً فيعطي في بغداد هوايته الرئيسية (العزف والغناء) اهتماما اكبر ليبزغ بعد وقت قصير نجمه في ليالي الوسط الثقافي والارستقراطي، نسبيا، في العاصمة العراقية.
لم يبتكر الهام المدفعي الحانا او ايقاعات جديدة، ولا حتى كلمات جديدة. فهو اشتغل على الاغاني والبستات القديمة المتوارثة نفسها، بموسيقاها ذاتها.. اعاد توزيع الموسيقى واكثر من استخدام الآلات الغربية في فرقته. واتاح ذلك ـ لاول مرة ـ لرواد نوادي الفنانين التشكيليين والاعلام والمهندسين ان يرقصوا، ازواجا او حتى مجموعات، على الايقاعات الجديدة السريعة للاغاني التقليدية التي اصبحت محببة اكثر، خصوصا بين اوساط الشباب.
الهام المدفعي جعل الاغاني العراقية القديمة تنافس الاغاني الغربية في نوادي بغداد لفترة قصيرة من الزمن. وكانت تلك، في الواقع مأثرة حقيقة.
نعم لفترة قصيرة من الزمن. فالحظ العاثر لالهام المدفعي،كما لعشرات من مثقفي جيل الستينات/السبعينات، هو الذي جعله يجيء في اغبر زمن عراقي. فمنذ العام 1968 (انقلاب البعث الثاني) فرضت الدولة العراقية سيطرتها الشاملة والمطلقة على المجتمع. وهي دولة كانت، ولم تزل، تخضع لهيمنة حزب واحد. وهذا بدوره كان، ولم يزل، تابعاً تبعية مطلقة لعدد ضئيل من الاشخاص (القيادة التاريخية). والانكى من كل هذا ان هؤلاء الاشخاص (القيادة) هم الاكثر جهلاً وتخلفاً بين اعضاء الحزب وموظفي الدولة وافراد المجتمع، وهم القادمون على ظهر الدبابة من قاع المجتمع، ومن اكثر اطرافه اهمالاً ونسياناً.. رئيسهم، الضابط السابق المعزول بتهم وشبهات مختلفة، لا تطربه الا اغاني «بنات الريف» الغجرية، ونائبه، الطالب الفاشل، ليست له أية ذائقة فنية بينما حسه الامني عال. اما محافظ العاصمة الذي اصبح قيّماً على الحياة الثقافية والفنية في بغداد ـ كما حفيده الآن ـ وعرف بلقب «خال الدولة"لقرابته القوية بالرئيس ونائبه ومساعديهما الرئيسيين، فلم يكن سوى ضابط صغير سابق مطرود ومعلم فاشل. وبدلا من الاهتمام باعادة بغداد الى سابق دورها الحضاري في العصر العباسي، كما كان هو يتبجح بالقيام به، راح يسيّر فرقا من الشرطة لصبغ سيقان طالبات الجامعة المرتديات تنورات لا تغطي الركبتين بالطلاء! الضابط الصغير السابق المطرود والمعلم الفاشل هذا (محافظ بغداد و«خال الدولة»)، كرس معظم وقته وجهده واجهزته لشن حملة ضد الهام المدفعي ومحمد سعيد الصكار (الخطاط البارع الذي ابتكر مبكراً اولى الخطوط العربية المستخدمة الان في الكومبيوتر) وغيرهما من فناني العراق ومثقفيه الذين انخرطوا في المشروع الثقافي الطليعي الجديد الذي انطلق في الستينات، بحجة أن ما يقومون به هو مشروع صهيوني ـ شعوبي للقضاء على الأمة العربية! كانت معركة غير متكافئة بالطبع: مثقفون مقابل حزب فوّض نفسه حقاً إلهياً في الامر بما يُعمل به، وما لا يُعمل به. ومقابل دولة مدججة بأعتى المؤسسات القمعية، ومقابل «قيادة تاريخية"من جهلة ومتخلفين تسلحوا ضد المثقفين والمجتمع بأسره بالحزب والدولة.
الموت او الانسحاب. كان على الهام المدفعي وامثاله ان يركنا الى واحد من هذين الخيارين. فكان الانسحاب (الى المنفى بالطبع) هو الخيار الاهون.
الهام المدفعي، الذي يبزغ لنا مجددا الآن في عمان ودمشق، مثال ونموذج لمئات، بل آلاف، بل عشرات الآلاف من مواهب العراق التي اريد لها إما ان تخنع لشلة الجهلة والمتخلفين او ان تموت، منسية في احسن الاحوال. فكان ان مات العراق برمته.
هذه المقالة سبق ان نشرت
في صحيفة الشرق الاوسط