درب بول ريكور  العابرة للاستعارات والمعاني ... من نقد البنيوية إلى التأويل

درب بول ريكور العابرة للاستعارات والمعاني ... من نقد البنيوية إلى التأويل

سعيد الغانمي
ازدهرت البنيوية كايديولوجيا في الستينات، كرد فعل على الانتفاخ الأيديولوجي لدى المعسكر الشرقي، ورد فعل على التضخم الذاتي في وجودية المعسكر الغربي. وقد احتاج اكتشاف أفكار دي سوسير إلى ما يقرب من نصف قرن من التيه قبل أن يصل إلى الآيديولوجيا الموعودة في كتابات بارت وفوكو ولاكان، وإلى حدّ ما شتراوس.

في هذه الفترة بالذات بدأ ريكور تساؤله الفلسفي في دائرة الاهتمام التأويلي، وربّما كانت كتاباته الأولى مستغرقة بنوع من التأمل الذاتي القائم على الأخلاق المسيحية. غير أنه سرعان ما وجد طريقه إلى الاهتمام بالبنيوية، وحينئذٍ بدأ ريكور يطوّر مشروعه التأويلي الخاص الذي يستثمر الاتجاهات الحديثة جميعاً: البنيوية والوجودية والتأويلية والماركسية ونظرية الثقافة والتفكيك والتحليل اللغوي ونظريات اللغة وانثروبولوجيا الدين... الخ. وتوصل من خلال ذلك كله إلى بناء نسق فلسفي فريد من نوعه يستفيد من جميع هذه الاتجاهات وينتقدها في آن واحد، ليطور مشروعاً فلسفياً اعتبره البعض أهمّ محاولة في القرن العشرين.

لقد بدأ السؤال الفلسفي بسؤال الوجود عند أرسطو، واكتسب بعداً آخر في سؤال المعرفة عند كانط وسؤال الزمان عند هايدغر، ليأتي بول ريكور بعد ذلك ليعطيه بعده الجديد في سؤال السرد.
وجد بول ريكور أن من الضروري، من أجل نقد الأسس المعرفية لعلم اللغة الحديث، أن يعيد النظر في المسلمات الأساسية التي يقوم عليها علم اللغة، ويعتبرها البنيويون الجوهر الضمني في تناولهم. فكيف تعامل ريكور مع أسئلة البنيوية الأولى؟
لم يعد ريكور للتطبيقات الفرعية للبنيوية في فروع الإنثروبولوجيا والأدب وعلم النفس، والثقافة، بل توجه إلى النموذج الذي يقيس عليه هؤلاء، توجه إلى النموذج اللغوي كما صاغه فردينان دي سوسير، ليضعه تحت طائلة النقد الفلسفي. وهناك مسلمات تعتمد عليهما البنيوية، في رأي ريكور: الأولى: أن التزامن يسبق التعاقب، لأن الأنظمة أكثر معقولية وقابلية للفهم من التغيرات التي تطرأ عليها. وفي أحسن الأحوال فإن التغير هي حال شاذة طارئة على نظام ثابت. وبالتالي فإن دراسة تاريخ التغيرات يجب أن يأتي بعد النظرية التي تتولى وصف الحالات التزامنية للنظام. وفي رأي ريكور فإنّ هذه المسلمة هي الأساس الذي استندت إليه النـزعة التاريخيةHistoricism في القرن التاسع عشر.
المسلمة الثانية هي أن الحالات التبادلية التبادل في مقابل التتابع في ثنـائية التتـابعي والتبادليsyntagmatic and paradigmatic لأي منهج بنيوي هي أن هناك شبكة محدودة ونهائية لوحدات منفصلة. وقد يبدو في الوهلة الأولى أنّ الأنظمة الصوتية توضح هذه المسلمة الثانية توضيحاً أكثر مباشرةً من الأنظمة المعجمية أو الدلالية، حيث يصعب إثبات عنصر النهائية والمحدودية إثباتاً ملموساً. لكنّ فكرة وجود معجم لانهائي تبقى أمراً غامضاً في الأساس والجوهر. فاعتماد علم الصوت على وحدات تمييزية صغرى هي ما يسميه علماء الصوت بالفونيمات، ووضع هذه الفونيمات في جداول اختبار تبادلي للتمييز بين الوحدات الصوتية، صوتياً ومعنوياً، هو الذي جعل علم الصوت يقفز إلى صدارة البحث اللغوي عند أتباع الدراسات البنيوية، وإن كان دي سوسير نفسه قد رأى في علم الصوت مجرّد علم مساعد لصلب الدراسة اللغوية، الذي يمثله علم الدلالة.
المسلمة الثالثة: ليس لأية وحدة منخرطة في نظام معين معنى مستقل بذاته، بل هي تستمد معناها من النظام ككل. الكلمة المفردة ليس لها معنى في ذاتها، بل تستمد معناها من الوحدات أو الكلمات الأخرى المجاورة لها في السياق الذي ترد فيه، وهذا هو المحور التتابعي Syntagmatic، أو الكلمات الغائبة ولكنها تستطيع أن تحلَّ محلها، وهذا هو المحور التبادلي Paradigmatic. وكما قال سوسير فليس للكلمات قيم إيجابية، بل هناك فروق فقط. وفي رأي ريكور، فإن هذه المسلمة تجعل من علم اللغة علماً يهتم بالخواص الشكلية للغة، في مقابل الخواص الجوهرية، أي الخواص التي تضفي وجود قيم إيجابية على المفردات اللغوية التي تراهن عليها اللغة، أو السيمياء في شكل عام.
المسلمة الرابعة أنّ اكتفاء علم اللغة بذاته، وافتراض سوسير انفصام العلاقة بين اللغة والواقع الخارجي، حيث يذكر أنه يعرّف العلامة اللغوية بأنها علاقة بين الدال والمدلول أو بين التصور والصورة السمعية فقط، دون إحالة إلى الخارج، هذا الانفصام يجعل الأنظمة اللغوية أنظمة مغلقة ومكتملة، تنطوي ضمناً على جميع العلاقات الممكنة في داخلها. وبالتالي فلا علاقة لها بالخارج اللغوي. العلاقة اللغوية هي تفاعل بين عنصرين هما الدال والمدلول، وهذان العنصران يمكن أم يخفضا لنوعين من التحليل فقط، هما التحليل الصوتي والدلالي، من دون أن يسمحا لنوع آخر من التحليل خارج مستويات البحث اللغوية. وفي رأي ريكور فإن هذه المسلمة الأخيرة تكفي لوسم البنيوية بأنها نمط كلي من التفكير، يتخطى جميع الاشتراطات المنهجية. إذ لم تعد اللغة تظهر بصفتها توسطاً أو وساطة بين العقول والأشياء. بل تشكل عالمها الخاص بها، الذي تشير فيها كلّ وحدة منه إلى وحدة أخرى من داخل هذا العالم نفسه بفضل تفاعل التناقضات والاختلافات والفروق القائمة في النظام اللغوي. وبعبارة وجيزة لم تعد اللغة - والكلام ما زال لريكور - تعامل بصفتها"صورة حياتية"- كما يعبر فتغشتاين - بل صارت نظاماً مكتفياً بذاته ذا علاقات داخلية فقط. لقد أصبحت اللغة في هذه البنيوية المغلقة وساطة بين علامات وعلامات، ولم تعد وساطة بين اللغة والعالم الخارجي. وعند هذه النقطة بالضبط تختفي وظيفة اللغة بصفتها خطاباً.
لكي يعيد ريكور الاعتبار للغة بصفتها وساطة بين الأفكار والأشياء، فإنه يميّز بين علم الدلالة Semantics والسيمياء Semiotics، ويعيد النظر في ثنائية سوسير عن اللسان Langue والكلام Parole. ويرى أنّ الأَولى وضع كلمة خطاب discourse بدلاً من كلام Parole. لأن الكلام عند دي سوسير يمتاز بالتنافر، وبعدم الانضباط، بينما يمتاز اللسان أو اللغة بالانسجام والتشاكل، مما يفضي إلى جعله موضوعاً بعلم خاص. الكلام عند دي سوسير فردي وتعاقبي وعارض، واللغة أو اللسان هو الاجتماعي والتزامني والنسقي. ريكور من ناحيته يضع الخطاب بدلاً من الكلام، ليس فقط ليؤكد على خصوصية الخطاب، بل ليفرّق بين علم الدلالة والسيمياء، لأن السيمياء في رأيه تدرس العلاقة، بينما علم الدلالة يدرس الخطاب أو الجملة.
والعلامة موضوع السيمياء شيء افتراضي. والشيء الفعلي الحقيقي الوحيد هو الجملة لأنها الحدث الفعلي في لحظة التكلم. وهذا هو السبب في أننا لا نستطيع أن نعبر من الكلمة بوصفها العلامة المعجمية إلى الجملة بتوسيع منهجية واحدة لتشمل وحدات أكثر تعقيداً. فالجملة، وهي وحدة الخطاب الأساسية في رأي ريكور، ليست مجرّد كلمة أوسع أو أعقد من الكلمة المفردة، بل هي وحدة من نوع آخر. الجملة كل لا يتجزأ إلى كلمات عدة، بل الكلمات شيء والجملة شيء آخر، الجملة كلٌّ غير قابل للتجزئة إلى مجموع أجزائه. صحيح أنها تتكون من كلمات، لكنها لا تؤدي الوظيفة الاشتقاقية لكلماتها المفردة. الجملة تتكوّن من علامات، ولكنها ليست علامة.
السيمياء العلم الذي يدرس العلامات، علم شكلي صوري حيث إنه يعتمد على تجزئة اللغة إلى أجزائها المكوّنة. أمّا علم الدلالة، علم الجملة فمعني مباشرة بمفهوم المعنى، أي بما هو مغزى sense، لأن علم الدلالة ينصرف انصرافاً كلياً إلى العمليات التكاملية للغة في تداخلها العضوي. يقول ريكور ما نصّه:"في تقديري أن التمييز بين علم الدلالة والسيمياء يشكل مفتاح مشكلة اللغة بأسرها".
الخطاب هو الواقعة اللغوية. ومن المعروف أنّ الخطاب أو الكلام هو نقطة الضعف المعرفية للغة في رأي اللغويين الذين يطبقون معايير البنى والأنظمة. لأنه ينطوي على البعد الزمني، وهو بعد متغيّر تريد الأنظمة أن تتخطاه. وبسبب هذا البعد الزمني، فالخطاب واقعة. وفي رأي اللغويين البنيويين أن الأحداث تختفي، بينما تبقى الأنظمة. لذلك فالخطوة الأولى في تصور ريكور لبناء علم دلالة الخطاب هي التخلص من الضعف المعرفي الذي يطغى على دراسة البعد الزمني في الخطاب. في البداية يشير ريكور أن لأية رسالة لغوية وجوداً زمنياً، في تسلسل خطي متتابع يستغرق زمناً. وهذا البعد الزمني للرسالة يضع الشفرة خارج إطار الزمن. لنلاحظ أن ريكور يستخدم هنا مصطلَحي الشفرة والرسالة بمعنى اللغة والكلام عند دي سوسير، وزمنية الرسالة هي التي تضفي عليها الفعلية. على العكس من ذلك لا يوجد النسق اللغوي أو النظام وجوداً فعلياً. بل إن وجوده هو وجود افتراضي. وبالتالي فالرسالة هي التي تضفي الوجود الفعلي على اللغة بكاملها. ولا يقتصر الأمر على ذلك بالطبع، فالرسالة أو الخطاب ليست مجرد لحظة وسيطة أو زائلة، بل إن في وسعنا إعادة صياغتها بكلمات أخرى في اللغة نفسها أو ترجمتها إلى لغة أخرى. والرسالة على رغم هذا التنقل بين العبارات واللغات قادرة على الاحتفاظ بهويتها الدلالية التي يمكن وصفها بأنها القضية الفلانية أو الإخبار عن كذا.
أهم صفة يتصف بها الخطاب عند ريكور هي الإسناد predication. وهو ينقل عن بنفنست أنّ اللغة قد تستغني عن الفاعل أو المبتدأ أو المفعول أو غير ذلك من المقولات اللغوية ولكنها لن تستغني أبداً عن المسند. فالمسند هو العامل الذي لا يستغنى عنه في الجملة. وأنواع المسند إليه جميعاً سواء أكان اسم علم أو ضميراً أو اسم إشارة أو ظرف زمان أو مكان... إلخ تشترك في حيازتها على هوية واحدة ووحيدة. بينما يشير المسند إليه إلى أنواع من الصفات أو فئات من الأشياء أو العلاقات أو الأفعال. المسند إليه واحد وثابت، والمسند غزير ومتعدد ومتغير. وهذا الاستقطاب بين تحديد الهوية الواحدة، والإسناد المتعدد هو الذي يعطي لفكرة القضية أو الخبر محتواها الخاص بوصفها حدثاً أو واقعة كلامية. فالخطاب ذو بنية خاصة به، ليست هي بنية التحليل البنيوي، أي ليس ببنية الوحدات المنفصلة المعزولة عن بعضها، بل بنية التحليل التأليفي، أي التواشج والتفاعل بين وظيفتي تحديد الهوية والإسناد في الجملة الواحدة.
الخطاب، إذاً، من حيث هو واقعة أو قضية، أي من حيث هو وظيفة إسناد متداخلة ومتفاعلة بوظيفة هوية، شيء مجرّد، يعتمد على كل عيني ملموس هو الوحدة الجدلية بين الواقعة والمعنى في الجملة. والواقعة الكلامية تذكرنا أن الخطاب يدرك زمنياً وفي لحظة آنية، في حين أن النظام أو النسق اللغوي افتراضي وخارج الزمن. لكن ذلك لا يحدث إلاّ في لحظة التحقق الفعلي والانتقال من اللغة إلى الخطاب. ولنسجل هنا، اعتراضاً، أنّ هذه الوظيفة هي ما ستسميها نظرية أفعال الكلام عند أوســتن بالأداء performance. وبفضل التحقق الفعلي للخطاب يتم الانتقال من كتابة لغوية معينة إلى أداء كلامي، غير أنّ هناك إشكالية أخرى هي إشكالية الفهم. هنا يصوغ ريكور ما يشبه القانون بقوله:"إذا تحقق الخطاب كله بوصفه واقعة، فهم الخطاب كله بوصفه معنى". وهو يعني بالمعنى أو المغزى محتوى القضية أو محتوى الخبر، حيث يتم تلاقي وظيفتي الخطاب المنقسمتين بين الحفاظ على الهوية وتنويع الإسناد.
للمعنى مظهران عند ريكور: المعنى الذي يريد نقله قائل الخطاب، والمعنى الذي ينقله الخطاب فعلاً. لكنّ هذين المظهرين ليسا سوى وظيفتي الهوية الإسناد. واستناداً إلى ذلك يسترد ريكور مصطلحات هوسرل في التمييز بين التعقّل الصوري للقصد noetic وتعقّل المضمون الخالص للقصد noematic، ويرى أن المعنى ينطوي معاً على ما هو تعقل صوري وعلى ما هو تعقل مضموني، أي جدل المعنى الذي يودعه الناطق في نطقه، والانسراب اللغوي الذي تمليه قوانين اللغة الداخلية. هكذا يجتمع شمل جزئي اللغة الافتراضي والفعلي معاً في الخطاب. الجانب المجرد والجانب الفعلي الملموس. فاللغات لا تتكلم، بل يتكلم الناس، ولكنّ الناس أيضاً لا تستطيع أن تتكلم من دون لغة وشفرة ونسق موجود قبلها وسيبقى بعدها. بعد ذلك يمضي ريكور إلى دراسة نظرية الأفعال الكلامية ويستثمرها لتعميق رأيه في الواقعة الكلامية، ولا سيّما ما يتعلق منها بتمييز أوستن بين الأقوال التعبيرية locutionry، والأقوال التمريرية illocutionary، وبقية أنواع الأقوال التي ترجمناها هنا بالتقريرية والتأثيرية والتحاورية. كما يستثمر تمييز المنطقي الألماني فريغه بين المغزى والإحالة reference and sense، حيث المغزى هو الدلالة المستحصلة من المضمون الفعلي الذي ينقله الخطاب، والإحالة هي المدلول الخارجي الذي يحيل عليه. وفي كلتا الحالين يظل تحليل ريكور للخطاب بوصفه بنية منقسمة ذات وظيفتين هما وظيفة الهوية ووظيفة الإسناد هو الأساس.
لقد حاولت النظريات الرومانسية في التأويل، ولا سيّما عند دلتاي وشليرماخر، إحداث مطابقة وتماه بين التأويل ومقولة الفهم، وتعريف الفهم بأنه التعرف على قصد الكاتب من وجهة نظر المستقبلين البدائيين في موقف الخطاب الأصيل. وقد فرضت الأولوية التي منحت لمقاصد المؤلف والمستقبلين على هذه التأويلية أن تظلَّ محصورة في إطار نزعة نفسانية، حتى وإن لبست لبوس حوار بين الذاتيات المتفاعلة. وليس التأويل سوى نقل لهذه الآلية الحوارية بين الذوات من ساحة المتكلم إلى الكاتب، في حالة النصوص المكتوبة.
مشروع ريكور يريد أن يحتفظ بالتأويلية ويحافظ على بعديها معاً، على البعد الذاتي من حيث الوظيفة الإسنادية، وعلى البعد الموضوعي في وظيفة الهوية. وفي رأيه أن ذلك لا يتحقق إلا من خلال فلسفة في الخطاب تحرّر التأويلية من أهوائها النفسانية والوجودية.
إذا كانت اللغة تنطوي ضمناً على قصد الإحالة إلى الخارج، والسيمياء هي العلم الذي يربط التكوين الداخلي للمغزى بالقصد المتعالي للإحالة، فإن وظيفة اللغة بكاملها ستكون مشروعاً فلسفياً للوجود في العالم. وقد يبدو الاتصال فعلاً خارجياً بسيطاً عند عالم اللغة، لكنه عند الفيلسوف لغز من الألغاز. الاتصال، سواء أكان بالكلام أم بالكتابة، مشروع لانفتاح الذات على العالم الخارجي. هكذا يتكوّن الفعل الاتصالي من عنصر معنوي يوجد في النص، وعنصر يحيل إلى الخارج من حيث هو تصور على مباشرة الوجود في العالم بطريقة ما. ولعلّ هذه الطريقة لا تتضح في شيء كما تتضح في التعبيرات الاستعارية والرمزية، التي يخصص لها بول ريكور الفصل الثالث من كتابه هذا.
وفي رأي ريكور أن الخطوة الأولى لفهم الاستعارة تكمن في التخلي عن نظرية المماثلة والاستبدال، التي ترى أن الاستعارة قائمة على استبدال كلمة بأخرى مماثلة لها. الاستعارة عند ريكور تمثل فائض معنى، وظيفته انفتاح النص على عوالم جديدة، وطرق جديدة للوجود في العالم. الاستعارة لغة تتجه إلى المستقبل، لتبشر بطريقة وجود في العالم لم يتحْ تجريبها بعد. وكذلك الحال مع الرموز، التي يجب تخليصها من أسر الفهم الحرفي، ومن ضيق النظرة الوضعية التي تحاصرها بتحويلها إلى مجرد استعارة قائمة على المماثلة. فالرمزية لا تعمل إلا حين يتمّ تأويل بنيتها، ولا بد في كل فعل لغوي من رمزية في حدها الأدنى. هكذا تمتاز الاستعارات والرموز معاً بتوتر دلالي، يجعلها في حال سباق مع ذاتها، بين ما تضمره وما تصرح به، بين ماضيها الحرفي ومستقبلها اليوتوبي، بين آيديولوجيتها وأحلامها التي تبشّر بها بما لم يوجد بعد.
يخطئ ليفي - شتراوس، إذاً، حين يتصور أن حزم العلاقات المكوّنة للأسطورة، التي يسميها الميثيمات، هي التأويل الأخير للأسطورة. في رأي ريكور لا تشتمل عملية تقسيم الأسطورة إلى الوحدات المكونة إلا على تفسير مرحلي، لا على تأويل لها. لأن للأساطير أيضاً، من حيث هي نصوص لغوية، مغزى وإحالة، أي أنها تتحدث عن طريقة بنائها الداخلي، الذي هو مدار التحليل البنيوي، وطريقة وجود كاتبيها أو مؤلفيها في العالم. وهذا الجانب الأخير هو ما يهمله التحليل البنيوي، ويحيطه ريكور بمزيد من التقدير والاهتمام. باشتراع النص، مهما يكن نوعه، وانفتاحه على العالم يتحول النص إلى حضور كلي للمعنى يستقبل قراء مجهولين ويتحاور معهم. وهذا الحضور الزمني الدائم للمعنى المسطور في ثنايا النص ينقل للقارئ تجربة وجود كاتبه وشكل تفاعله مع العالم. لكن القارئ لا يتلقى هذا المعنى خلواً من أية سابقة دلالية، بل يتلقاه مزوداً بالأعراف والتقاليد القرائية والثقافية التي يوفرها له مجتمعه. هكذا يتقابل أفقان لفهم النص: أفق النص، الذي أودع فيه ذاكرته الوجودية عن الماضي، وأفق القارئ الذي يريد فتحه على المستقبل. وينصهر هذان الأفقان ليولّدا عملية القراءة في تملك النص وفهمه.
هكذا عمل ريكور على تحرير البنيوية من بعدها الإطلاقي، الذي وصفها فيه بأنها"تعالٍ بلا ذات"، وعمل في الوقت نفسه على تحرير الظاهراتية من بعدها النفساني، حيث هي"ذاتية بلا تعالٍ"، إذا جاز لنا أن نقلب مقولته، وبالتالي فقد كان ريكور بنيوياً لنقد التأويلية، وتأويلياً لنقد البنيوية. أي أنه كان في ما يخص موقفه من البنيوية"متعالياً مع الاحتفاظ بالذات". فكان بالتالي بنيوياً لا-بنيوياً.