ذكريات مع عريان..

ذكريات مع عريان..

زهير الجزائري
لم تنغص الغيرة حياتي إلا مرة واحدة.. كنت أجلس إلى يمين عريان السيد خلف في مريد البصرة بعد ٢٠٠٣، بين لحظة وأخرى يأتي شاب،من اجيال تجهل وجودي، ويطلب مني أن أنزاح قليلا، ليجلس في مكاني وياخد صورة مع (أبو خلدون). حين اتباطأ ترفعني يدان قويتان وتعيداني الى مكاني. نمشي في الشارع فيوقفه واحد من المعجبين ليأخذ صورة العمر مع السيد.

بعد كل المحن والأيام المرة التي عاشها عريان في منفاه داخل الوطن بقي صبوراً، بطئ الإيقاع ولكن بأحكام مثل السيد في القبيلة الجنوبية يمد يده بهدوء وإحكام ليقبلها العابرون. يغادر عريان ذاك السيد ويتعامل مع معجبيه باعتبارهم رصيده في مواجهة سلطة قاسية. قبل أن آتي من منفاي إلى بلدي عشت مع عريان أياما في بيتي بلندن، أستمع لحكاياته وهو يمتص السيكارة مثل عاشق. استعدنا معاً مفارقات العمل في قسم (حياة الشعب) وجلسات الشرب في اتحاد الأدباء وسفزاتنا لجزيرة أم الخنازير. أعترف بأني كنت آنذاك، أرى الشعر الشعبي يسير ببطء وراء موجة الحداثة متمسكاً بالعاطفة والحنين. كنت أمازحه قائلا ما زلتم تكتبون بقلم الرصاص و لم تصلوا للمكير الذي وصله مظفر النواب قبل سنوات وقد غادركم ب (الريل). باستعلاء لا أدري مصدره كنت اتحدث مع عريان وهو يصغي الي وقد أغلق عينه اليمنى ليتحاشى غيمة الدخان بيننا. ليفندني قرأ أمام جمع من محبيه قصيدة (الرميثة). مع تدفق الصور يصعد صوته وينزل ويتموج وهو يرف على سلك صوته داخل قاعة حبست شهقاتها.بين بيتين يصمت تاركاً للمخيلة أن ترى انقلاب القبور على موتاها والصرخات على مطلقيها. بعد أن أنهى قصيدته سكت وما زال سيل الصور يترجع في مخيلتي. غَير عريان تصوري تماماً..اللغة الشعبية اغتنت بالممارسة وتجددت وهي تعكس سيل الفواجع.
حدثني عريان عن حياته أيام الحروب والحصار، و عن الحيل التي ناور بها السلطة. أصغيت له باهتمام لأجسر الفجوة بيني وبين الوطن. الأحاديث الحبيسة في بلد الحكايات المخنوقة كانت تتدفق، ولكن بهدوء النهر، وبين كل حكايتين قصيدة مخبأة.
حين عدت للوطن وجدت عريان ما زال في جلسته في مكانه الثابت، في مدخل مقر الحزب الشيوعي. يدخن وينهض بذاك الهدوء العجيب ليستقبل الداخلين كما في مضيف أجداده.. هذا هو مكانه، قلت لنفسي. كيف جمع بين الحزب وبين مضيف أجداده؟
ما أزال اتذكر وجه السائق الذي يدور بِنَا في أزقة البصرة وهو ينظر في مرآة السيارة حائراً متكتماً على فرحه، يريد أن يصدق إن هذا الراكب في المقعد الخلفي من سيارته، هو (ابو خلدون) الذي يحفظ قصائده عن ظهر قلب. أكاد ارى في نفس المرآة الدمع ينضح من عينيه وقد عرف تواً إن عريان غادر عالمنا إلى الأبد.