سمير امين.. العيش مع ماركس

سمير امين.. العيش مع ماركس

علي حسين
عندما فتح جيلنا عينيه على قراءة الفلسفة، ومن ثمة على الأقتصاد والسياسة والادب، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان كارل ماركس أشبه بملك متوج، لايمكن أن يُدانيه أحد، في تلك السنوات سأٌقف مثل كثير من الشباب عند الكتب التي كانت دور النشر اللبنانية تصدرها، والتي تخصصت في تقديم الفكر الماركسي والتجارب الاشتراكية، وسأتعرف على اسماء أسمع بها للمرة الاولى،

الياس مرقص، انطوان حمصي، الياس شاهين، فواز طرابلسي، محمد مستجير مصطفى، راشد البراوري، محمد عيتاني، واعلام كبيرة كانت تكتب في هذا المجال ابرزهم في مجال الادب والفلسفة محمود امين العالم وحسين مروة،

وفي الاقتصاد والفلسفة سيظل سمير امين يحتل المكانة الاولى منذ ان عثرت على كتابه الصادر عن دار الطليعة"التطور اللامتكافئ.. دراسة في أشكاليات الراسمالية"، هكذا تبدأ رحلتي معه الى ما قبل رحيله بأيام وكنت حصلت على كتابه الأخير"مائتا عام على ميلاد كارل ماركس"ورغم تقلبات الزمن وانهيار المعسكر الاشتراكي والتحول الذي حصل في الأحزاب الشيوعية، إلا ان سميرامين لم يغير بوصلته، فهو ماركسي من طراز نادر، يرفض أن تستبدل الشعوب أحلامها بالعدالة الاجتماعية بالحلم الأميركي، وسيكتب ساخراً من فرنسيس فوكوياما صاحب مقولة"نهاية التاريخ": البعض يتحدث بسذاجة تبعث على الدهشه عن نهاية التاريخ، كما في حالة فوكوياما الذي يرى ان الديمقراطية الغربية الليبرالية هي الشكل النهائي لنظام الحكم،اي كذب الإدعاء بأبدية الرأسمالية".استقرّ في باريس قبل اكثر من نصف قرن، لكنه بقي كاتباً مهموما بقضايا العرب والعالم الثالث وافريقيا. في آخر كتبه يقدم التحية لماركس الذي عاش معه كما يقول اربع حيوات متواصلة، في العشرين من عمره كانت المرة الاولى التي يقرأ بها كتاب راس المال بحذر ومعه البيان الشيوعي، وبعد عشرة اعوام سيعود لقراءة كتب ماركس ولكن هذه المرة وهو يؤمن بان الأشتراكية هي الحل الأفضل لمشاكل البلدان النامية، ثم يعود اليه بعد أنهيار الاتحاد السوفيتي ومطالبة البعض بان نتخلص من ارث ماركس رافعين شعار"اكرام الميت دفنه"، يكتب في"إمبراطورية الفوضى"الصادر عام 1991 عن حقبة جديدة تريد الرأسمالية تشكيلها، من شأنها أن تسفر عن عدم مساواة كبيرة، وتقليص العمالة، وتدمير الزراعة، ويحذر من مخاطر الدين السياسي الذي تريد امريكا فرضه كنظام يؤمن بالليبرالية، ويطالب بالعودة الى ماركس، ولكن ليس ماركس الذي شوهته الاحزاب الشيوعية، وانما ماركس الذي سيظل مفتاحا لفهم ما يجري في العالم :"ماركس ليس نبيا او عالما للغيب، ولا العبقري الذي كتب راس المال، ولكن ببساطة الرجل الوحيد الذي حلل بجدبة الراسمالية ومفاهيمها، لم يكن ماركس اقتصاديا فقط، ولا فيلسوفا او عالم اجتماع، ولكنه كان كل هذه الاشياء في نفس الوقت"، وسيعود إلى ماركس مرة رابعة، ليكتب عام 2013 كتابه"انحلال الرأسمالية المعاصرة"، حيث سيصبح واضحا لديه ان الراسمالية الجديدة اصبحت مثل مصاص الدماء.
الصبي المولود في الثالث من ايلول عام 1931، في مدينة بور سعيد المصرية، لأب مصري وأم فرنسية وكان كلاهما طبيبًا، قضى طفولته وسط جو عائلي يتحدث افراده بالعدالة الأجتماعية وحقوق البسطاء، ويروي سمير أمين في مذكراته انه وهو صبي كان يسير مع أمه في احد الأحياء الشعبية، فرأيا طفلا فقيراً يبحث في صندوق للقمامة عن شيء يأكله، فلما سأل سمير أمه لمذا يفعل الطفل ذلك؟، قالت له الأم : لأن المجتمع سيء ويفرض ذلك على الفقراء، فكانت أجابته : عندما أكبر سوف أغير هذا المجتمع.
ولعل نشاة سمير امين هذه يمكن لها ان تلقي الضوء على الإتجاه الذي ألتزم به فيما بعد واعني الماركسية، وميله الدائم الى النظرة الاشتراكية في تحليل الواقع. في المدرسة الثانوية كان زملائه يصغون اليه وهو يحدثهم عن لينين وماو والحركات الثورية.. لم يتعد التاسعة عشر من عمره حين قرر ان يصبح شيوعيا، :"لقد أعتبرت نفسي شيوعياً بالفعل في المدرسة الثانوية. ربما لم نكن نعرف بالضبط ما الذي تعنيه، لكننا كنا نعلم أنه يعني شيئا واحدا مهما : إنه يعني المساواة بين البشر وبين الأمم". في باريس التي وصل اليها لدراسة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي، ينتمي الى الحزب الشيوعي الفرنسي، عام 1957 يتخرج من السوربون ليعود الى القاهرة يعمل أستشاريا في مراكز التخطيط، لكنه يضطر من جديد الى الهجرة، ففي نهاية الخمسينيات بدأت السلطات المصرية حملة شرسة في تعقب الشيوعيين وإيداعهم السجون، ولم ينجُ سمير أمين من السجن إلا باعجوبة، اذ تصادف كما يروي في مذكراته أن ضابط الشرطة المكلف بالقاء القبض عليه واسمه طه ربيع :"كانت له ابنة أنقذتها امي من الموت، وكان يشعر بأن عليه رد الجميل، فوضع أمر الإعتقال في درج مكتبه وأغلقه بالمفتاح، وقال لي أن لديه عملا طويلاً، وانه سيعود لمكتبه في المساء لفحص البريد، وفهمت المقصود".
وبناءً على نصيحة الضابط، أتفق والد سميرمع قبطان احد سفن البضائع ليأخذ ابنه معه، وكانت النتيجة أن قضى سمير امين اكثر من عشرين عاما لايستطيع فيها ان يطأ بقدمه ارض مصر.
في تلك المرحلة أيضاً ستبدا حركات التحرر الأفريقي في الظهور، فيقرر سميرأمين ان يذهب الى مالي ومن بعدها الى السنغال وغينيا وغانا، من هناك سيكتب عن التجربة التي مر بها في محاولة وضع أجندة لتنمية بعض الدول الافريقية، وكان أول كتاب لسمير أمين والذي نشر في منتصف الستينات، يتعلق بتجربة التنمية التي قامت بها مالي وغينيا وغانا.
في كتابه الأكثر أهمية،"التراكم على الصعيد العالمي"صدرت ترجمته العربية عام 1973، والذي دفعه إلى الصفوف الأمامية بين علماء الاقتصاد في العصر الحديث يبين لنا أمين كيف تدفقت الموارد من بلدان المحيط – البلدان النامية - لإثراء بلدان النواة – اميركا والغرب - من خلال عملية أطلق عليها"الإيجار الإمبريالي".، لنجده يكتب بعد ذلك كتابا بعنوان"فك الارتباط: نحو عالم متعدد المراكز"يدعو فيه إلى فك ارتباط بلدان الأطراف من دول المركز.
يرى أمين العالم مقسما إلى"المركز أو النواة"و"الأطراف". وإن دور الأطراف، هو تزويد المراكز - تحديدًا ثالوث أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان - بوسائل التطوير دون القدرة على تطوير نفسها..ويرى أن الرأسمالية العالمية، تحافظ على حكمها من خلال خمسة احتكارات - السيطرة على التكنولوجيا، والوصول إلى الموارد الطبيعية، والتمويل، ووسائل الإعلام العالمية، واسلحة الدمار الشامل.
كان سمير امين يقف بالضد من المناهج الاقتصادية الليبرالية التي تطبق في الدول النامية والتي يرى انها دمرت هذه البلدان، وسلمتها فريسة ليد مؤسسات المال العالمية والبنوك الدولية، لتعيث فيها خراباً وتكرس تبعيتها وخضوعها لمنظومة الرأسمالية المتأخرة،، وقد اعتبر تخلّف البلدان النامية نتاج ارتباطها الشديد بتلك المنظومة الراسمالية وتحولها مجرّد جرم تابع. ولهذا كان في معظم كتاباته يطرح فكرة فك الارتباط مع المركز- الغرب - واقامة اقتصاديات مستقلة تقوم على مساعدة القطاع العام في بناء اقتصاد محلي منتج يكفل رفع مستوى المعيشة بين السواد الأغلب من المواطنيين، والتحكم بحركة رأس المال في مواجهة المؤسسات الماليّة العالميّة، وبناء أسواق ماليّة وتجاريّة مشتركة بين دول – الاطراف - دون الحاجة للمرور عبر الغرب.
ومن جانب آخر سخر سمير امين من التكلس الفكري كما كان يسميه والذي اصاب الماركسية الغربية، وقد وصف نفسه بانه ماركسي حيوي، يبدأ من ماركس لكنه لا ينتهي عنده أو عند لينين أو ماو تسي تونغ، بل هو يأخذ من أدواتهم النقديّة زاداً يبني منه تصوراً محدّثاً للعالم.
اصر سمير امين طول حياته ان يثير الجدل حوله، وفي كل كتاب من كتبه التي اقتربت من الخمسين كتابا، كان يحاول ان يستعيد ذلك الصبي الذي قال لأمه :"سوف اغير هذا العالم"، ولكن هل استطاع هذا المفكر الاقتصادي ان يذهب بنا نحن أبناء بلدان الشرق الاوسط إلى التغيير؟ ربما نجد نقاط مضيئة ونحن نسترجع حياة واعمال سمير امين الذي ظل حتى اللحظة الاخيرة من حياته ينبهنا الى ان بلداننا لا تزال تعيش التبعية للمركز – الغرب واميركا – وان انظمتها السياسية تعيش أزمة مستمرة بسبب تناقض قراراتها مع مصالح شعوبها، وان هذه الانظمة تحمي فئة اجتماعية مرتبطة بالرأسمالية العالمية، وبالتالي تعيد إنتاج التبعية بقوة أجهزة الدولة.
اثناء صعود الاسلام السياسي في عدد من البلدان العربية كتب سمير أمين محذراً:"يهدف الاسلام السياسي الى إقامة انظمة رجعية صريحة، مرتبطة بسلطات من طراز المماليك، اي سلطة تلك الطبقة العسكرية الحاكمة قبل قرنين من الزمان، ومن يراقب عن كثب الأنظمة المتدهورة التالية لمرحلة الفورة الوطنية، والتي تضع نفسها فوق اي قانون بادعاء انها لاتعترف الا بالشريعة، وتستولي على كل مكاسب الحياة الاقتصادية، وتقبل باسم الواقعية ان تندمج في وضع متدن، في العولمة الراسمالية لعالم اليوم، لايمكن الا ان يربط بينها وبين تلك الانظمة المملوكية، وينطبق نفس التقييم على نظيرتها من الأنظمة المدعى بإسلاميتها والتي ظهرت مؤخرا".