الان باديو  يعيد للفلسفة دورها في الكشف عن الحقائق

الان باديو يعيد للفلسفة دورها في الكشف عن الحقائق

نصير فليح
هذه الحقائق التي تضببت في الاتجاهات التأويلية والتفكيكية وما بعد الحداثية. ولكن يجب ان نستدرك ان دور الفلسفة هنا حسب باديو هو ليس"انتاج"او"توليد"الحقائق، بل انها تلعب دورها باعتبارها"راعية"للحقائق وحسب. اما المجالات التي يمكن ان تكون مولدة للحقائق، في فلسفة باديو، وهي مجالات الفن، العلم، الحب، والسياسة. فكل مجال من هذه المجالات الاربعة يمكنه ان يحتوي على ما يسميه"مجريات حقيقة"او"عمليات حقيقة"truth procedures،

عندها يأتي دور الفلسفة التي تكمن مهمتها في التعرف والتقاط هذه المجريات او العمليات، ووضعها بصيغ عامة يمكن ان يقال عنها انها حقائق كلية universal truths. وهذه المجالات الاربع هي المجالات الرئيسية في التاريخ البشري التي يمكن ان تكون مصادر لحقائق من طبيعة مختلفة. ذاك ان معنى الحقيقة في الفن مختلف عنها في العلم، والحقيقة العاطفية، اي حقيقة الحب او الغرام، هي حقيقة من نوع مختلف عن تلك التي في عالم السياسة. ولا يجب على الفلسفة مطلقا، كما يرى باديو، ان تخلط دورها بدور المجالات المنتجة للحقائق، فهذا ما يكون مصدر للتشوش والاختلاط والاخطاء التي لا نهاية لها.

انساق ميتافيزيقية
اذا ما تمعنا في"رد الاعتبار"لمشروط للفلسفة هذا ودورها في تحديد الحقائق، يمكننا ان نستذكر من تاريخ الفكر الفلسفي العلاقة بين فلسفة (كانت) وريبيّة (هيوم) Hume. فبعد الانساق الميتافيزيقية الكبرى التي نشأت وتنامت في القرن السابع عشر على يد ديكارت اولا، ثم سبينوزا ومالبرانش ولايبنز من بعده، وجه الفيسلوف الاسكتلندي هيوم ضربة موجعة للنوازع العقلية المسترسلة بعيدا عن اشتراطات التجربة. وهو اذ بين اهمية التجربة كمعيار لاثبات الحقائق، فانه وضع الفضاء الفلسفي برمته في ريبية او شكوكية (Skepticism) شاملة، وذلك باستهدافه الاساس الاهم لكل عملية استدلال او استنتاج عقلي، اي مبدأ السببية Causality نفسه. حيث رأى ان ما نعتقده سببا ونتيجة، هو ليس سوى تعاقبات حسية ترسخت بحكم الاقتران في وعينا (على سبيل المثال، اننا نرى الدخان يأتي بعد النار، فنذهب الى الاستنتاج بان النار سبب الدخان، بينما ليس ثمة ما"يثبت"هذه العلاقة السببية، سوى اننا تعودنا على رؤية الدخان يأتي زمنيا بعد النار). ولكن فلسفة (امانويل كانت) التي جاءت بعده اعادت الاعتبار للعقل مرة اخرى، ولكن على اسس جديدة، ليس على الاساس الميتافيزيقي القديم ببناء انساق تصورية شاملة عن الكون والعالم دون انحداد بالتجربة، بل على ارضية جديدة، اعترف فيها بمحدودية امكانيات العقل، ولكن بموثوقيته في مجالاته المحددة ايضا، وذلك عن طريق ما عرف بالمقولات categories والافكار القبلية التي هي مثل اطر فارغة يضع العقل فيها ما يتوفر عليه من مواد تجهزها لها معطيات الادراك الحسي perception القادمة عن طريق الحواس، حيث ميز ايضا بين انواع من النشاط العقلي يجب عدم دمجها ببعضها، مثل العقل المحض، او النطاق الاخلاقي لاحكام الاخلاق، او النطاق الجمالي لملكة الحكم الجمالي عند الانسان.
شبه كبير كما نرى بين ما فعله (كانت) في زمنه وما فعله ويفعله باديو في القرن الحادي والعشرين. فهو اذا يهاجم الاتجاهات التي اغرقت مفهوم الحقيقة في نسبية شاملة، وهمشت الفلسفة الى حد بعيد في ما يتعلق بدورها في الكشف عن الحقائق، فانه يعيد هذه المفاهيم مرة اخرى الى المشهد، ولكن على اسس جديدة، هذه المرة مرتبطة بتطورات الرياضيات، وتحديدا تطورات نظرية المجموعات Sets Theory في الرياضيات التي تمت في القرن العشرين، مثلما عبر (كانت) في فلسفته عن التطورات التي شهدها عصره في فلسفة نيوتن في زمنه.

بعيداً عن الافلاطونية
وكما يقول (بنيامين روبنسون) في الفصل المتعلق بالان باديو في كتاب From Agamben To Žižek: Contemporary Critical Theorists (وترجمة العنوان: من اغامبن الى ججك: منظرون نقديون معاصرون)، عن هذا التحول الجذري في تقدمه فلسفة الان باديو:
“منذ ان اعلن نيتشه عكسه لمسعى افلاطون لاستيعاب الكينونة في ما هو خالص pure، بالطريقة اللاعلائقية التي توجد بها الارقام، يبدو ان الفلسفة اندفعت بحماس على المسار الجديد.
وبعد الحروب الشاملة في القرن الاخير، والابادات الجماعية والمجاعات، بدا ان ليس الفلاسفة وحدهم من وجهونا بعيدا عن الافلاطونية، لكن الاحداث نفسها ايضا – النابعة من تدهور كلي للعقل صوب الجنون المسعور – قد تآمرت لتضعنا على مسار يتحرك باتجاه حساسية تأخذ بنظر الاعتبار صيغ مختلفة من الكينونـــــــة غير الصيغة الرياضية. انهيار السرديات الكبرى metanarratives، اندلاع جبهات الحرب الباردة، بروز ازمات البيئة العالمية، كلها باتت تبدو مؤكدة لنهاية النظام الافلاطوني للحقيقة المكتشفة رياضيا. وكما أن باديو قريب من العرف المندرج تحت مسمى عكس-افلاطون، لصالح ما هو عارض، مادي، جمالي وتاريخي، فانه تبنى افلاطون باعتباره، على وجه التحديد، الفيلسوف الذي وضع الحقيقة والكلانية universalityعلى اجندته. وبينما تتشارك فلسفة باديو في الغاية ما بعد التنويرية بوضع نفسها بين حقائق غير المتفلسفين non-philosophers، فانها تدافع، على خلاف طابع مرحلتها، عن ان هذه الحقائق ينبغي استيعابها كحقائق، في صيغها الكلية واللامحدودة، وان تكون متاحة لكل من يريد الزام نفسه بالحقيقة".
وهذا المقتطف الاخير يشير الى علاقة باديو بافلاطون، ومناهضته للنزوع العدمي الذي غطى مساحة واسعة من الفلسفة القاربة بعد نيتشه، وايضا الى دور"الذات"subject في تأسيس الحقيقة، وهو ما ستكون له وقفات اخرى في مقالات مقبلة.