المستبد في كتاب: زمن القسوة الذي لم نخرج منه سالمين

المستبد في كتاب: زمن القسوة الذي لم نخرج منه سالمين

شاكر الانباري
المستبد ليس ظاهرة جديدة في التاريخ المعاصر، عرفته البشرية منذ فجرها الأول، وهو في كل زمان ومكان يتبدى بحلة جديدة من التفكير والسلوك. وجد في الغرب كما في الشرق، ودونت سيرته في المنحوتات والكتب، وتناقلت قصصه الأخبار الشفاهية. وفي العصر الحديث كتبت عنه روايات كثيرة، وصوّرته أفلام جادة أو روائية، لكن كان هناك دائماً مشتركات ما بين المستبدين،

لذلك ما أن يقرأ المرء سيرة مستبد واحد حتى يرى فيها سيرة أشباهه من المستبدين وإن بعدت المسافات واختلفت اللغات وتباينت الحضارات. قرأت ذات مرة رواية حفلة التيس لبارغاس يوسا، فقلت لمترجمها صالح علماني لقد أحسست أثناء القراءة وكأنني اقرأ عن صدام حسين، رغم أن الرئيس هناك من دولة أميركية لاتينية، تفصلنا عنها آلاف الأميال. فما أن تتشابه ظروف ولادة المستبد حتى يتشابه المستبدون، وهذا ما يؤكد أن هناك ثقافة خاصة ومعينة هي التي تقود الى إبداع هذا الصوت الناشز عن الحياة. فالاستبداد ثقافة، وهو نتاج مجتمع له تقاليده وطبائعه وجغرافيته، وله لحظته التاريخية المعينة، التي لا يمكن له أن يولد قبلها ولا بعدها. وصار من البديهي أن زمان المستبدين قد ولى، إذ أن المستبد في كل الأحوال يسوّر نفسه وشعبه بسور حديدي من الممنوعات والرقابات والعسكر والجواسيس وأجهزة المخابرات. لا يمكن له أن يعيش ويواصل استبداده إلا في بلد يعيش حالة طوارئ دائمة، يتنفس لوناً واحداً من الثقافة، ويفكر بنمط واحد من التفكير. لا يمكن لمستبد أن يولد في بلد منفتح على الثقافات الأخرى، وعلى البلدان الأخرى وله علاقات تجارية وسياسية وعسكرية مع جيرانه والأباعد. في ظل العولمة الحالية، وشيوع ثقافة المواطنة العالمية، وانهدام السدود بين القارات والبلدان وتبلور الصراع ليصبح بين التخلف والتقدم، العقل والخرافة، أصبحت شروط ولادة مستبد أمراً في غاية الصعوبة. وبانقراض المستبدين الحاليين يصبح من شبه المستحيل ولادة مستبدين جدد. والتراجيديا التي نشهدها في بعض البلدان سببها استماتة بعض القادة لكي يتحولوا الى مستبدين، بينما الوضع العالمي بثقافته وعلاقاته السياسية وثورته العلمية ما عادت تسمح بهكذا ولادات.
تكرار تجربة فاشلة يحول مجمل الحدث الى مسخرة، وهذا ما يشاهد اليوم على الشاشات، إذ يتحول المستبدون الى مسخرة. لكنها مسخرة من نوع خاص، مسخرة مكلفة، ثمنها ملايين الضحايا والمشردين، وخراب وطن ورجوعه الى عهود الظلام، كي يتحول بالتالي الى مشروع وصاية من قبل الأمم الكبرى. ومثالنا هنا مستبد معاصر، لم تعد توفر له الظروف الدولية قشة نجاة، فسقط في منتصف الشوط بين قضبان المحكمة. إنه صدام حسين، أشهر من نار على علم في عالم الاستبداد. ومأساة صدام حسين لا تنفصل عن مأساة حزب البعث في العراق، فهو اليوم حزب محظور، والشعارات القومية التي ربى عليها الناس أصبحت مقيتة، كونها استهلكت على مدار أكثر من خمس وثلاثين سنة، وكانت تطبيقاتها العملية كارثية على الشعب العراقي.
منذ مجيء حزب البعث الى السلطة في عام ألف وتسعمئة وثمانية وستين، استطاع صدام حسين بتحالفه مع البكر أن يزيح القيادات العسكرية التي ساهمت في الانقلاب مثل صالح مهدي عماش وحردان عبد الغفار التكريتي وعبد الرزاق النايف وغيرهم، وذلك باستخدام المكتب العسكري المنبثق عن حزب البعث كأداة إزاحة غامضة وسرية. ولأن صدام حسين لم يكن عسكرياً، ظل هاجس نفوذ العسكر كابوساً أمام بصره. ورغم التوسع الهائل في شبكة الأجهزة الأمنية، وشمولها مختلف جوانب الحياة، إلا أنها بقيت تحتفظ بطابع ما قبل السلطة، أي طابع المنظمة السرية. ففيما عدا مقر مركزي للعمل الإداري داخل حدود منطقة مغلقة، كانت المقرات الفعالة سرية وأشبه بالأوكار الحزبية، وتحمل لافتات وهمية: معهد ابن الهيثم، مكتب التخطيط الهندسي، وهو المركز الأساسي للتعذيب، ومكتب الإنشاءات والمقاولات، ومزرعة الدولة النموذجية. ويحمل العاملون، حتى أعلى المستويات، أسماء حركية تشبه أسماء كوادر المنظمات والأحزاب السرية، وتتبع في عملها أسلوب المنظمات الإرهابية المعارضة.
من سمات صعود المستبد اعتماده الكلي على السرية والوشاية والدسائس، ثم تصفية الخصوم غير الملائمين لطريقة إدارته للحزب أو المنظمة أو حتى السلطة. وقد أدرك صدام حسين أن سيطرته على تلك الأجهزة السرية هي المفتاح لسيطرته على جهاز الحزب كله، ومن ثم مغاليق السلطة الحاكمة ذاتها. ولكن عدا السيطرة على الحزب والسلطة، كان ينبغي التعامل مع قوى سياسية من خارج سلطة البعث، وكان على رأس تلك القوى الحزب الشيوعي العراقي الذي يعتبر سيد الساحة في السبعينات في العمل السياسي والتنظيم والجذور الضاربة في تربة الشعب.
الحزب الشيوعي كان تزكية لحزب البعث بين الجماهير، وهذا ما دفعه للتفاوض مع قيادته وبموافقة الرجل الظل صدام حسين. كانت المفاوضات تجري فوق، بينما تتصرف أجهزة الإرهاب السرية تحت، بمعزل لكن بتنسيق خفي، في محاولة لترويض الشيوعيين باختطاف واغتيال عدد من الكوادر والقيادات الشيوعية. وكانت جثث المقتولين تُكتشف فيما بعد ممزقة ومرمية في أماكن نائية. وكان البعث ينكر معرفته أو علاقته بهذه الحوادث. كان لا بد لحزب البعث أن يقدم نفسه بثوب جديد، بعد التجربة المرة التي عاشها العراق معه في انقلاب 8 شباط عام ثلاثة وستين، فكان ان بدأ يطرح شعار بناء الاشتراكية، والتقارب مع الاتحاد السوفياتي، ودعم حركات التحرر في العالم، كل ذلك كي يرسم وجها جديداً مقبولاً لدى القوى السياسية الأخرى ولدى الجماهير. بدأ الجهاز الحزبي يروج لصدام حسين، وقد أصبح النائب الأول لأحمد حسن البكر بأنه كاسترو العراق، وازدادت كاسترويته انتشاراً حين قامت الجبهة الوطنية بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي. لكن وفي ظل هذه الألعاب السياسية بدأ حزب البعث يطرح نفسه على أنه الحزب القائد لمسيرة البناء، وحرم على أعضاء الأحزاب الأخرى العمل داخل الجيش والقوات المسلحة، كما منع كافة المنظمات النقابية من العمل في المجتمع، عدا النقابات التابعة للحزب. وفي المجال الإعلامي تم طرد كل الصحافيين والكتاب والمحررين الذين لا ينتمون الى الحزب. تم طردهم أو نقلهم من الاذاعة والتلفزيون والجرائد اليومية وكل المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة والإعلام. الهيمنة على الإعلام معناه الهيمنة على عقول الشعب، وصياغة تلك العقول حسب توجهات الحزب وسياسته الداخلية والخارجية، بمعنى آخر تقييم كل حدث سواء كان داخلياً أو خارجياً من وجهة نظر واحدة فقط. رافق كل ذلك تجييش غير مسبوق للمجتمع فأنشئت منظمات فتوة وطلائع وشباب ثم جيش شعبي ومنظمات حزبية راحت تنتشر في كل زقاق وشارع، وفي كل ناحية وقرية، مهمتها الترويج لحزب واحد هو البعث، ولرجل واحد هو السيد النائب.
وبسبب تأميم النفط توفرت لدى القيادة الجديدة مردودات مالية ضخمة راحت تنصبّ بين أيدي الساسة الكبار، ورجالات الأمن والمقاولين الجدد الذين جاءوا مع السلطة الجديدة. ارتبط أكبر المقاولين بعلاقات قرابة مع قيادة الدولة، وعادة كان هؤلاء يأتون من الريف، ليصبحوا برمشة عين غزاة المدينة وقططها السمان. أي حد أكبر ترييف للعاصمة العراقية بغداد وبقية المدن الكبرى. تعاملت هذه الطبقة الجديدة مع المدينة كعدو مسبق. وبصعود هذه الطبقة السريع الى مواقع مؤثرة حدثت تغيرات سريعة، انعكست بشكل اضطراب مستمر على قيادة السلطة: اختفى تقريباً القادة الذين قاموا بالثورة، ولم يبقَ من أعضاء مجلس قيادة الثورة الأول غير البكر وحده. وقد ازداد الدمج بين الحزب والدولة بتوزير معظم أعضاء القيادة القطرية وتحول معظمهم الى أعضاء في مجلس قيادة الثورة الجديد، وتم توظيف الكوادر البعثية في الجيش والجهاز الإداري والمنظمات الشعبية. بدأ الحزب يبتلع الدولة، وتحولت الدولة قليلاً قليلاً الى دولة بعثية، إذ من الصعب الصعود الى مفاصل مهمة إن لم يكن الشخص بعثياً. في البدء تبعيث الإعلام ثم الجيش ثم الجيل الجديد المولود بعد السابع عشر من تموز عام ثمانية وستين، ثم تبعيث الدولة. والتفت الحزب وموجهه الأوحد صدام حسين الى الدائرة الأوسع، إلا وهي المجتمع. تبعيث المجتمع لم يتم إلا بضرب القوى السياسية المتوازية معه، الداخلة في الجبهة الوطنية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي ثم القوى المناوئة مثل حزب الدعوة الإسلامية الذي أسسه وقاده محمد باقر الصدر. انجز ذلك في نهاية السبعينات.
الأبناء كانوا الموضوع الذي اتجهت نحوه الإرادوية البعثية باتجاه خلق إنسان الثورة كما سموه. من هذا الجيل يجري اختيار المؤيدين الذي يشكلون الحلقة الأوسع في التدرج الحزبي.
في عام ستة وسبعين أصبح عدد الحزبيين عشرة آلاف يشرفون على نصف مليون مؤيد. وفي نهاية الواحد والثمانين تضاعف العدد حتى بلغ خمسة وعشرين ألف عضو يشرفون على مليون مؤيد. وقبل اعتزال البكر كان صدام حسين قد أمسك كل مفاتيح الحزب والدولة: الإشراف على أجهزة الدولة والمخابرات، حيث تولى شقيقاه برزان وسبعاوي المسؤولية المباشرة عنهما. ترؤس لجنة متابعة شؤون النفط. رئيس هيئة الطاقة النووية. رئيس مكتب الثقافة والإعلام. لكن قبل أن يتسلق صدام حسين كرسي الرئاسة كان عليه أن يطيح برؤوس معظم رفاقه القدامى الذين شاركوه السلطة خلال أكثر من سبع سنوات. فكانت مذبحة السابع عشر من تموز عام 1979 حين اعدم ربع أعضاء مجلس قيادة الثورة وثلث القيادة القطرية. وهكذا صعد الى كرسي الرئاسة على جثث عشرات من رفاقه البعثيين. اعدموا بشكل جماعي، وفرض على كل أعضاء الفروع والشُعَب إطلاق طلقة على المعدومين لكي يحس الجميع أنهم شاركوا في التصفية.
بعد صعود صدام أعادت القيادة القومية ترتيب هيكليتها القيادية بإخضاع القيادة الجماعية العربية لإبراز الفرد التاريخي. والفرد التاريخي هنا هو صدام حسين. وقد تزامن صعود صدام مع زيارة السادات للقدس واتفاقية كمب ديفيد. وكانت بغداد هي المكان العباسي الباذخ الذي شهد القمة العربية التي قررت إخراج مصر من الجامعة العربية.
كانت حاجة البعث الى دور بغداد القيادي ملحة، وازدادت تلك الحاجة مع صعود إيران الى الواجهة. فالعراق يملك أطول حدود مع إيران. وجاءت الثورة الإيرانية لتخلط الأوراق في المنطقة. القومية العربية أمام الفكرة الإسلامية. الوحدة العربية أمام الوحدة الإسلامية. صدام حسين مقابل الخميني. وبوجود نصف شعب ينتمي الى ذات المذهب الذي يحمله الخميني، وكان محركاً قوياً للإطاحة بالشاه، شعر صدام حسين أن الشعب العراقي بحاجة الى رمز يقفز على الطائفة والقومية والعشيرة، فسعى جاهداً لكي يصنع من نفسه رمزاً أوحد للحمة العراق، ومرجعاً أعلى لكل ما يستجد من نتائج الوضع الجديد. في هذه الفترة بالذات تنامى الهوس في إبراز صدام حسين كقائد فذ وملهم ساقط من السماء. عشرات الأغاني تتغنى بجبروته وحكمته وسطوته. خطابات ملتهبة وموسوعية في كل شيء: في الزراعة والصناعة والثقافة والإعلام والدين والتاريخ. سرية اسطورية على تحركاته وزياراته وعلاقاته مع القادة وشيوخ العشائر ووجهاء المدن. وقومياً أرادت القيادة القومية إبراز الرمز كحاجة قومية عربية أكثر منها قطرية عراقية. ولكي تحقق إرادة القائد نفسها في الواقع والناس ينبغي أن تنزل وفق هرمية تقوم على تناوب الخوف والطاعة، بتقبل الخوف من فوق وتحويله لمن تحت. الآلية كانت تجري هكذا: يأتي صدام الى الاجتماع والقرار جاهز في ذهنه. ويفتح النقاش على أسئلة يبدأ بطرحها على الآخرين. وبعد أن يستمع للنقاش الذي يدور غالباً حول التفاصيل، يطرح رأيه هو... وآنذاك سيتضايق جداً إذا تدخل معترض حتى ولو بصيغة الاستفسار. الصورة واضحة اذن، فإذا كان القائد الرمز لا يسمح حتى لرفاقه الحزبيين ومسؤولي الدولة بطرح الأسئلة أو الاعتراض على فكرة ما، فكيف يتفهم وجود مجتمع ذي قناعات متباينة وفيه تيارات وأحزاب ترى الأمور من زاوية أخرى؟ لذلك أراد صدام حسين خلق مجتمع موحد، بطوائفه وقومياته وآرائه السياسية وحتى في سلوكياته. هذا ما كرس له كل ما يملك من مال وقوة وبطش وإعلام. أي خلق ثقافة واحدة لقطيع من البشر ينظر الى القائد مثل إله أو مخلص.
هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، الملح، والمقلق، فإن إيران بدت لصدام حسين في لحظة الضعف النموذجية، فالجيش النظامي مفكك تماماً بعدما غادر جنوده الثكنات، وصفي جنرالاته المحترفون في سلسلة اعدامات على يد صادق خلخالي، وتنام طائراته معطلة في مطاراتها بسبب نقص العتاد والأدوات الاحتياطية.
قبل أن يشن النظام العراقي حربه على إيران في الرابع والعشرين من أيلول عام ثمانين، أخرج آلاف الشيعة الفيلية بحجة تبعيتهم الى إيران، وصادر أموال مئات التجار الكبار في بغداد وأعدم وطارد أعضاء ومناصري حزب الدعوة الإسلامي، مع تصفيات هائلة لليسار العراقي برمته. وسيبرر منذ هذه اللحظة، أي لحظة شن الحرب، كل القمع الداخلي بالحرب ضد عدو خارجي. وتصبح هذه القاعدة ثابتة، يتبعها النظام في متتالية حرب تلد أخرى.
اعتمدت كل تقديرات قيادة العراق على التفوق العسكري الآني والحرب الخاطفة. ولذلك فاتتها المخاطر الناجمة عن تحويلها الى حرب طويلة. الحرب على إيران كرست أشياء كثيرة، منها العرقية إذ ضخت إعلامياً وبشكل يومي حقيقة أن الإيرانيين هم فرس، وأنهم مجوس، في محاولة لترسيخ معتقد العداء الدائم بين العرب والفرس، وبين الإسلام والمجوسية. ورسخت أيضاً فكرة الولاء قبل الأداء، أي الاعتماد على ضباط ووزراء ومسؤولين من الموالين لصدام حسين ولا يهم أن يكونوا غير أكفاء، بحجة الحفاظ على تلاحم القيادة حسب مبدأ نفذ ثم ناقش، وهذا ما كانت تتطلبه الحرب الضروس الدائرة على جبهة طولها أكثر من ألف كيلومتر. وخلال سنوات الحرب تم توسيع الحرس الجمهوري والحرس الخاص لكي يصبح هو القوة الضاربة لا للجيش العراقي فقط بل لصدام حسين ذاته كقائد للمعركة وكرمز للعراق.
لكن تلك الحرب لم تنل رضا غالبية العرب، خصوصاً أنها بدأت تطول أكثر من اللازم، وترهق كاهل الدول الداعمة لها اقتصادياً، مما أدخل العراق قليلاً قليلاً في عزلة، بعد أن استثني من مجلس التعاون الخليجي، وكان خارج جبهة الصمود والتصدي. عزلة العراق تلك اقترنت بتضخيم نموذجي للذات العراقية والخصوصية العراقية على حساب الكل القومي. ورغم الضخ الإعلامي لعدالة الحرب وجدارة القيادة التاريخية لصدام حسين إلا أن المواطن ظل يعيش مشاعر متناقضة: رغبة عارمة بتوقف الحرب، واحساس مستتر أن صدام حسين هو الذي أشعل الحرب ولا بد من الخلاص منه. لكن النظام الإيراني ليس البديل الصحيح، واستطاع النظام أن يحقق توازناً نموذجياً بين الحرب وتوفير مستلزمات الحياة داخلياً، اعتماداً على المساعدات الخليجية والدولية. ووجدت الطبقات القريبة من النظام مجالات للاستثمار من خلال التأسيسات والتحصينات العسكرية والطرق والمنشآت التي تخدم المعركة. وانتشر ولع إعلامي غير طبيعي بوصف جثث الإيرانيين وعرضهم على الشاشات، وتجلى هذا الولع الإعلامي في حرص صدام حسين على إطلاق صاروخ أرض أرض بنفسه كلما زار جبهة الحرب. اعتبر العقل السادي القسوة واحدة من المظاهر الأصيلة، واشتد البحث في التاريخ لايجاد سنودات ووقائع، لها صلة بالروح المحلية. وكان اللباس العسكري موضع اعتزاز، وانتشرت اللعب العسكرية بين الأطفال على نطاق واسع. ومع ازدياد ضراوة الحرب ارتفع التوتر النفسي والاجتماعي داخل المدن. والجنود الذين عاشوا الموت في الجبهات راحوا ينفّسون توترهم خلال إجازاتهم بأعمال عدوانية على الشارع المدني مثل السياقة الصاخبة والشجارات في البارات والاعتداء على النساء، وكانت هناك توجيهات رسمية بالتساهل ازاء عمليات اولئك العسكريين. كما ازدادت في السنتين الأخيرتين من الحرب تفكك المؤسسة العسكرية للجيش نتيجة التدريب السريع وازدياد حجم القوات المسلحة والاحساس بعقم الحرب، والتسلط الجاهل لصدام وأقاربه على المؤسسات العسكرية والمدنية، لذلك قامت محاولات كثيرة لاغتيال صدام في تلك الفترة أغلبها جرى في جبهة الحرب. وهذا ما فاقم من خشية صدام من الجيش. بدأ يتجه أكثر فأكثر الى حرسه الخاص كي يكون حصناً منيعاً لأي اختراق، وكانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تنقية الحرس الخاص من أي عنصر لا ينتمي الى الطائفة أولاً ثم عشيرة الرئيس أو العشائر الموالية كلياً له.
ورغم صدور قانون بإعدام كل هارب من الجيش، إلا أن ظاهرة هروب الأفراد أخذت تتفاقم، وكانت مؤشراً على الرفض الشعبي لتوجهات النظام. والإعدام باعتباره عملية إفناء جسدي للضحية لم يعد يشكل عامل خوف كثير لدى الفارين، كون الموت موجود في كل لحظة سواء في الجبهات أو داخل المدن على يد مفارز الإعدام والمنظمات الحزبية، وهذا ما دعا النظام الى ابتكار وسيلة هي الأغرب في التاريخ، لكن ذلك حصل لاحقاً، ألا وهي قصّ الآذان. أما من يتطاول على الرئيس فيقص لسانه علناً، وفي الساحات العامة. وتلك ابتكارات لا بد منها للوصول الى سدة المستبد الحديث الذي حكم على ذرّيته بالفناء. لقد تعامل البعث وصدام حسين مع المجتمع العراقي بقسوة لا مثيل لها في التاريخ، توجها باستخدام الغازات السامة ضد المواطنين الأكراد في حلبجة، وإبادة الجنس البشري في عمليات ما يسمى بالأنفال التي قتل فيها نحو مئة وثمانين الف كردي خلال أيام معدودات. ورغم أن كل ما حصل قبل غزو الكويت كان نتاجاً لحرب مدمرة مع إيران ولسياسة القسوة والرأي الواحد والاستبداد السياسي والقومي والطائفي، إلا أن النظام لم يستفد بعد وقف الحرب من أي من العذابات الهائلة التي سببها للشعب، وظلت القوة والبلطجة والعسكرتاريا هي عناوين يرفعها أمام كل أزمة تمر به.
توقفت الحرب ووقف صدام حسين أمام حقائق مرعبة: جيش هائل مسلح بأسلحة حديثة، ديون خارجية بمئات المليارات، عزلة عربية ودولية، ملايين القتلى والمشردين والمعوقين والمهاجرين، ملايين النساء المترملات، انفلاش كامل للجهاز الحزبي، وأجهزة أمنية بالعشرات تشتغل دون رقابة من أحد. كل هذه المعضلات الجدية وضعها النظام خلف ظهره ما أن برزت الى الوجود مشكلة اسمها الكويت. وكان الحل الأمثل لدى صدام حسين هو قضمها بالقوة، دون النظر الى عواقب ما يتمخض عنه احتلال دولة عربية عضو في الجامعة العربية، وعضو في منظمة الأمم المتحدة، ولها تحالفات دولية واسعة، وتمتلك خزيناً نفطياً هائلاً. حتى الآن لا يزال غموض شديد يخيم على العدد الحقيقي لضحايا الحرب الثانية، حرب الكويت. اخفى النظام العدد الحقيقي خوفاً من انعكاساته على الوضع الداخلي. لكن بعض المصادر الأميركية تقول بالعدد مئة ألف عسكري. إلا أن أهم ناتج لتلك الحرب المهينة استسلام النظام لكل الشروط التي وضعتها الولايات المتحدة، ومنها فتح الباب أمام المفتشين الدوليين لمعرفة ما يدور في العراق من نظم تسليحية سواء كيمياوية أو نووية. والنتيجة الأخرى الهائلة هي حدوث الانتفاضة الشعبية التي هزت أركان النظام وكادت تذهب به مثل الهشيم. البارز في تلك الانتفاضة مدن الجنوب كلها، المدن الموصوفة بالشيعية، التي هبت في وجه النظام وهاجمت صور الرئيس ومقرات الحزب وأبنية الاستخبارات والأمن، وقامت بتصفيات واسعة لرجالات الحزب. وهذا ما أرعب النظام وصدام حسين بالذات، بشكل عميق.
على المستوى الحزبي تجلى الإخفاق في حقيقة أن جيل الانتفاضة هو الجيل نفسه الذي اعتبره صدام حسين محجوزاً للبعث وحده، والذي قضى كل حياته، وارتبطت كل معارفه، بالحقيقة الكلية للحزب الواحد والفرد الواحد. أي أن الانتفاضة جسدت إخفاق عشرين عاماً من التعبئة العقائدية على نبرات ثابتة. ومع احتماء النظام بالمتراس الأمني الأخير المتجسد في القبيلة، بدأ النظام يتخلى عملياً وإعلامياً عن ادعاء تمثيل كل العراقيين بقومياتهم وأديانهم وطوائفهم المختلفة، وتبعاً لذلك سيعامل المجتمع الآخر ككتلة أخرى معادية، ينبغي تفكيكها بعد أن تعذر ضمان إذعانها بالكامل. ولذلك ستتصاعد وتيرة تفكيك المجتمع الى عناصره الأولية، الطائفية والقبلية والقومية. ويبدأ التفكيك على أساس طائفي وقومي. عوملت المدن الثائرة في الجنوب بمنتهى القسوة، وراح النظام يروج لعمالة الشيعة الى إيران، وقد كتبت مقالات كثيرة في الصحف الرسمية تهاجم الجنوبيين في انتمائهم القومي والديني، وتسفه معتقداتهم وعاداتهم. فكانت المقابر الجماعية المرعبة التي لم تميز بين موالٍ للنظام أو معاد. وهذا ما مورس أيضاً ضد الأكراد، الذين لم ينقذهم من جبروت الانتقام المنفلت سوى خط الحماية الذي فرضته قوات التحالف.
وبدلاً من أن يقوم صدام حسين بمراجعة شاملة وعميقة للدروس الجديدة، راح يركز السلطة هذه المرة ليس في يد البعثيين أو الطائفة السنية إنما في يد أسرته فقط. لم يعد يثق حتى بملابسه على حد تعبيره الذي أطلقه بعد انهياره الكبير في التاسع من نيسان عام الفين وثلاثة. قُصّي لشؤون الأمن الخاص، عدي للإعلام والرياضة وفدائيي صدام، وحسين كامل للتصنيع العسكري والبرنامج النووي، وبرزان للشؤون الدولية، وعلي حسن المجيد للجيش وهكذا. السلطة نفسها وقد فقدت ثقتها بولاء أجهزتها المدينية بدأت تبحث عن سندها في الريف وقبائله. فمع تسلط العشيرة الكلي على الحكم بدأ صدام بتقوية مواقعه من خلال تجاوز الأطر المدينية والعودة الى علاقة الدولة بالعشائر. ثم جرى التحول الكبير في ايديولوجيا النظام من القومية الى الإسلام في ما عرف بالحملة الايمانية، وأطلق صدام حسين على نفسه لقب عبدالله المؤمن، وراح يشجع الأفكار الأصولية المشبعة بالعداء للغرب، واستنهض الدراويش وشيوخ الجوامع والمراجع الدينية، وألغى كل الحانات في العراق وحارب الدعارة بقطع رؤوس النساء وتعليقها على سياجات البيوت، مع أن حياة العائلة المغلقة لم تتقيد بأي مظهر إسلامي أو تصوفي. بعد دخول الكويت واتخاذ الحرب طابع المواجهة الإسلامية مع الولايات المتحدة والغرب المسيحي استبدل لقب القائد الرمز بلقب الرئيس المؤمن، وأضيفت كلمة الله اكبر على العلم العراقي. تلك الإضافة التي ستسبب أزمة هائلة لاحقاً بين مكونات الشعب العراقي. ذلك كله ساهم في رفع صدام حسين من صيغة الإنسان الى صيغة الإله، أي المستبد، القادر على أخذ الحياة وإعطائها، الكلي القدرة والحكمة والجبروت. لذلك لم يصدق معظم العراقيين هزيمة هذا المستبد حتى أشهر طويلة من سقوطه. بل إن الشكوك كثيراً ما دارت في ضمير المواطن البسيط وهو يرى الطاغية وراء القضبان، فيتساءل مع نفسه: هل إن ما يراه هو صدام حسين حقاً أم أنه شبيهه؟