كافكا عاشقا

كافكا عاشقا

خيري منصور
في الثمانينيات من القرن الماضي أصدرت الكاتبة العراقية بديعة أمين كتابا بعنوان «هل ينبغي إحراق كافكا» وسرعان ما اختفت نسخ الكتاب من المكتبات، ما طرح سؤالا لم يعثر له على إجابة حتى الآن.

وفرانز كافكا رغم شهرته وترجمة أعماله إلى عدة لغات، اقترن اسمه بمقولات نقدية اختزلته إلى مجرد كاتب سوداوي، أعماله كابوسية، رغم أن هناك من النقاد من حاول تقصي واقعية كافكا مثل، غارودي وميلان كونديرا، وقد حاول كونديرا أن يعثر على الجذور الواقعية لأعمال كافكا، ويعيد إليه الاعتبار، كروائي أتاح لقرائه على المستوى الرمزي أن يقرأوه بتأويلات لا آخر لها.
ورسائله إلى ميلينا التي صدرت بالعربية عن دار الحياة في القاهرة، وترجمتها فداء محمود، تضيء جانبا آخر من المشهد الذي لم يكن كله أسود من حياة كافكا. وتستحق هذه الرسائل أن تكون لها مكانتها في تراث أدب الرسائل، الذي أصبح نادرا في عصرنا، رغم أن هذا النوع من الأدب لا يقل إبداعا عن الأنواع الأدبية الأخرى، إذا توفر له كتّاب وشعراء وفنانون من طراز فان غوخ في رسائله إلى ثيو، وجبران في رسائله إلى ماري هسكيل، ولورنس دارييل إلى هنري ميلر، فالرسائل رغم توجهها إلى مرسل إليه بعينه تحمل في سطورها وما بين سطورها رؤى المرسل وتصطبغ بأسلوبه وإيقاعه الروحي، وهذا ما وجدناه أيضا في نماذج من أدبنا الحديث كرسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، والرسائل المتبادلة بين فدوى طوقان والناقد أنور المعداوي، التي كشف عنها لأول مرة الناقد الراحل رجاء النقاش، إضافة إلى الرسائل المتبادلة بين محمود دروش وسميح القاسم، رغم أن هذه الرسائل اتسّمت بالقصدية لأنها كُتبت بهدف النشر في مجلة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس.
وحين يتوفر للرسائل المتبادلة بين مبدعين من يقرأها بحصافة نقدية وعين مدربة على إضاءة الظلال وما بين السطور، كما فعل الشاعر توفيق صائغ في قراءته لرسائل جبران وماري هسكيل فإن ما هو شخصي أو يبدو كذلك، يصبح قابلا لمستوى من التعميم، أو التصعيد الذي يرصد ما هو معرفي وجمالي من خلال الرسائل. والسؤال هنا قدر تعلقه بكافكا: هل كان مؤلف «القلعة"و«الإنسان الخنفساء"و«المحاكمة"عاشقا؟ الإجابة لا يقترحها ناقد أو راصد لنصوص كافكا، بل الرسائل هي التي تكشف عنها، وهو في معظم رسائله إلى ميلينا وهي كاتبة ومترجمة لأعماله، يرشح الحنين من كلماته، وله لحظات فرح تضيء ظلام زنزانته، أو ما تخيله النقاد كذلك، فهو يقول في إحدى رسائله المؤرخة في العشرين من شهر يوليو/تموز عام 1920 الرسالة التي تسلمها من ميلينا اتسمت بالقِصر والسعادة ويضيف هل هناك أفضل من أن أكون معك. وفي رسالة أخرى مؤرخة بالسادس من يوليو/تموز من العام نفسه يقول: أشعر بأنني لا أستطيع أن أكتب عن اي شيء، إلا عما يخصنا نحن فقط في هذا العالم المضطرب، يبدو كل شيء غريبا، ها هما شفتاي متوهجتان ورأسي مستلق في أحضانك.
وفي رسالة اخرى يعترف بأن حياته متوترة ويبحث عن أي سبب يؤجل الانتحار، ولا أدري لماذا ذكّرتني إحدى هذه الرسائل بالشاعر بدر شاكر السياب، فهو يقول لميلينا اعترف بأنني حسدت شخصا ما ذات يوم حسدا بالغا لأنه كان محبوبا، ولأن أحدا ما اهتم به، والسياب الذي عاش حياة موحشة ولم يشعر ذات يوم بأنه معشوق لذاته، حسد ديوانه لأنه يتنقل بين صدور الصبايا، وكأن السياب الإنسان والرجل حسد السياب الفنان والشاعر.
إن الالتباسات التي أحاطت بحياة فرانز كافكا كثيرة، وتعددت قراءاته تبعا لتعدد المناهج وأحيانا لاختلاف النوايا في التأويل، وهناك من ربطوا بين كونه يهوديا عاش في براغ والحركة الصهيونية، وهذا ما حاولت بديعة أمين إيضاحه في كتابها ذي المصير الغامض. وقد تكون قراءات ميلان كونديرا لكافكا من أهم ما كتب عنه، لأنه عاش أيضا في براغ، وولد من معطف كافكا وتبنى بعض مواقفه ومقولاته، وكتب في إحدى مقالاته عن العقاب الجاهز الذي يبحث عن متهم، وكأنه يحيل القارئ إلى شخوص كافكا الذين لحق بهم عقاب غير مبرر، لكنه وسّع آفاق قراءاته لروايات كافكا ودافع عن كونه واقعيا وأن هناك أحداثا كابوسية ظنها الناس من اختراع خيال وحشي قد وقعت بالفعل في براغ.
إن ما عاناه كافكا في حياته من وحشـــــة واغتراب وعدم اعتراف كان أسبابا كافية لأن يبحث عن الحبّ لكن هاجســـــــه ليس أن يكون عاشقا من طرف واحد، بل أن يكون معشوقا أيضا، وهذا ما عبر عنه في تلك الرسالة التي اعترف بها أنه حســــــد شخصا ما ذات يوم لمجرد أنه كان معشوقا وليس عاشقا فقط. فهل كان على كافكا بكل ما تعــــــــــج به ذاكرته من أشباح وما يشغله من هواجس تدمــــــــير الذات أن يفعل ما فعله الفيلسوف سيرين كيركيغارد الذي احب فتاة اسمها روجينا وقرر أن يهجرها رحمة بها من نفسه، ولكي لا ينقل إليها فيروس القلق الوجودي الذي عاناه؟
عن القدس العربي