رجال وتاريخ.. كمال السامرائي.. طبيب الجميع

رجال وتاريخ.. كمال السامرائي.. طبيب الجميع

د. حميد حمد السعدون
رائعٌ ان يكون الانسان طبيباً، والاروع حين يكون"الحكيم"مثلما تشير متداولاتنا الشعبية، مشهوراً ومبدعاً وانسانياً. حينها يكون صاحب هذا الشأن، تحت العدسة المكبرة، لزملاء المهنة ولمرضاه ولعموم الناس. والدكتور-كمال عبد الله السامرائي- احد ابرز اطباء العراق، خاصةً في مجال تخصصه"الامراض النسائية»، فضلاً عن ذلك، فانه استطاع بجهده الشخصي،

من تأسيس مستشفى حمل اسمه، قرب ساحة الاندلس، تنوعت فيه اغلب الاختصاصات الطبية، قبل ان يأتيه قانون التأمين الصحي في سبعينيات القرن الماضي، ليصادره بحجة الحد من النشاط الخاص في هذا المجال، دون ان يتم طرح البديل الافضل، والارتقاء بما هو موجود نحو الاحسن. بل ان هذا المستشفى، الذي كان من افضل مستشفيات بغداد، آلت حاله بعد ذلك القانون، الى التردي والتراجع عما كان يحصل قبله، ثم لاحقاً، تم غلقه، بعد ان هجره اهله واطباؤه ومرضاه، جراء هذا التدخل الفج واللانساني.

وحينما سألت الدكتور –كمال- وانا بصدد اعداد حلقة خاصة عنه في البرنامج التلفزيوني المكلف باعداده"تحت خيمة الابداع"عام 1988، عن هذه الحالة، شعرت وكأنني وخزت الماً، ربما نجح الدكتور –كمال- في تطويقه، وسهى بنظراته بعيداً، ليقول لي"لا ادري لماذا يوظف البعض قلة فهمه وعلمه، لتطويق نجاحات الاخرين...ما حصل احسه بألمه لحد الان، وكنت اتمنى ان ينقلوا المستشفى لحالة افضل، لكنهم فعلوا العكس...». ورغم ان الحكومة، قد اعادت بناء المستشفى في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، لكن رائده وبانيه، كان يعيش الايام الاخيرة من حياته، واقدر، ان الرجل لم يحس بفرح طاغ لاسباب عديدة، لعل اهمها، فراق دام اكثر من عشرين عاماً بين المصادرة واعادة الامر الى نصابه الصحيح. وقطعاً ان تلك المدة، راكمت كثيراً من الالام التي تمكنت من مصادرة الكثير من الطاقة والابداع والتطوير، فضلاً عن ذلك ان زملاء المهنة، الذين رافقوا الدكتور كمال في هذا الجهد، والذين عدوا هذه المؤسسة، قطعةً من روحهم، قد باعدتهم الايام بين الموت او المنافي او التقاعد الاجباري. والدكتور-كمال- من اشهر اطباء العراق في الامراض النسائية، وكان يعطي هذا الامر اهتماماً خاصاً، سواءً في بحوثه او مشاركاته في العديد من المؤتمرات التي تتخصص في متابعة وتطوير اللقاحات الخاصة بالامراض النسائية، ادراكاً منه، ان الظلم الواقع على المرأة العراقية، كان كبيراً، بما في ذلك رعايتها الصحية غير الحسنة. وقد عالج الدكتور الكثير من النساء الفاضلات، كما انه اشرف وتابع كثيرا من الاطباء الناشئين في تطوير علومهم في هذا المجال، بما يخدم الواقع الصحي للمرأة العراقية. وهناك الكثير من مواليد الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ممن ضمهم مستشفى الدكتور كمال السامرائي، وهم يواجهون اللحظات الاولى لحياتهم. فضلاً عن ذلك، ان المستشفى، استقطب خيرة اطباء العراق، للعمل فيه، بعد ان جرى تنويع اختصاصاته مما مكنه ان يحصل على شهرة واسعة، ما زالت قائمة وان كان بشكل اقل عما سبقها، بسبب الارباك الذي تعرض له هذا الصرح الطبي وبطريقة اقرب للعدوانية. حينما تحاور الدكتور –كمال- تحس بتنوع اهتماماته، فغير الطب، هناك ولعه بالتاريخ والادب، بكل فروعه، مع متابعته الجديد في العلم، خاصةً في المجال الطبي، هذا غير هواياته التي اعطاها بعد تقاعده، كل وقته، والمتمثلة بالمطالعة والرسم الزيتي. وحينما سألته، عن سبب اهتمامه بالرسم في هذا العمر، رد علي ((لا اريد ان يمر وقتي فارغاً بلا معنى...)) واستفسرت منه عن شكل ولعه في قراءة التاريخ، فاجابني ((اقرأ كثيراً في هذا الجانب، رغم المشاكل الصحية لعيني، واركز تحديداً على التكوين الحضاري وتسلسل وجود الحضارات المتعددة على ارض الرافدين، مما منحني الاطلالة لاكتشاف الكثير من المعاني العلمية والانسانية في هذه الحضارات. واحس بفضل –المأمون- حين حفظ لنا الكثير من مدونات الحضارة الاغريقية يوم ترجمها في بيت الحكمة في بغداد...واقرأ باهتمام التاريخ الاسلامي، خاصةً في عز توهجه يوم حمل رجاله رسالة الايمان لعموم الجنس البشري، واحس بفخر لكوني من هذه الامة الكبيرة...)). اما الادب، فان اهتماماته موزعة بين الشعر والرواية، وحينما طلبت منه ان يحدد لي من هو شاعره المفضل، رد علي ((المبدعين من شعراء العربية كثيرون...فمن العصر القديم، استمتع بقراءة شعر امرء القيس والمتنبي وابي تمام...)) وحينما اردت ان يدلني على شاعره في العصر الحديث، اجابني ((ليس هناك احد يزاحم الجواهري في هذا المشوار...) وهل تحب يا دكتور الشعر الحديث؟ صمت قليلاً، قبل ان يجيبني ((الشعر الجيد يأخذ مكانته باي شكل، ورغم اني لا اقرأ الشعر الحديث، لكن له جمهور واسع، واكيد انهم وجدوا فيه ما يستهويهم...)) وحينما مررت على رفوف مكتبته المنضودة عليها الاف الكتب، وجدت الكثير من دواوين الشعراء، قد اخذت مكانتها فيها. واين انت من الرواية يا دكتور؟ يرد علي؟ ((قرأت اغلب روايات نجيب محفوظ الذي استطاع ان يصور الحياة في القاهرة في مدة زمنية معينة، وكان ناجحاً فيما ذهب اليه،.. واتمنى ان نجد روائياً عراقياً يفعل فعله،...كان باستطاعة غائب طعمة فرمان ان يفعل ذلك، لكنه توقف،...واقرأ من الادب العالمي لارنست همنجواي وتولستوي...)). وفي اثناء الحوار الذي جرى في مكتبته، بث التلفزيون، اغنية للمطربة"عفيفة اسكندر"فتوقف عن الكلام ليستمع لها، وبعد انتهائها، سألته: هل تحب الغناء والموسيقى ومن تفضله من بينهم؟ اجابني ((احب الغناء البغدادي الذي برع فيه القبانجي وناظم الغزالي وعفيفة اسكندر. لكنه الان توارى للخلف، واظن ان ذلك ضرر على الموسيقى العراقية.. ومن الموسيقى العربية، فاستمتع كثيراً بصوت محمد عبد الوهاب، ولديّ الكثير من التسجيلات لاغانيه)). وقد فاجأني الدكتور –كمال- حينما اشار، بانه يملك بعض التسجيلات النادرة لبعض الاحداث، منها تسجيل حفلة خاصة للفنانة"منيرة الهوزوز"عام 1929، تبكي فيها على انتحار رئيس الوزراء"عبد المحسن السعدون"في ذلك العام. وكذلك تسجيل لتلاوة القران الكريم، التي جرت بين القارئ "عبد الباسط عبد الصمد" والقارئ"مصطفى اسماعيل"في الصحن الكاظمي، في اثناء سرادق العزاء المقام على وفاة الملكة"عالية"عام 1950، وكانت تلك التلاوة من التلاوات النادرة، التي كانت فيها المنافسة شديدة بين القارئين، وقد استمتعت بسماع جزء منها في حضور الدكتور –كمال-. وقد انتهزت ذكره لوفاة الملكة"عالية»، لاسأله، عن ما نشره في مجلة"افاق عربية"عن اللحظات الاخيرة لها، والتي كان فيها الشاهد العراقي الوحيد، لمحاوره مهمة جرت بينها وبين اخيها الامير"عبد الاله"ورجوته ان يعيد لي تسلسل تلك الواقعة. تراجع قليلاً مع كرسيه، وكأنه يريد استدعاء تلك اللحظات وقال ((طلبني القصر الملكي لمعاينة الملكة عالية، وكنت اعرف حراجة وضعها الصحي...بعد وصولي، ادخلت عليها، فأجملت الترحيب بي، واخبرتني، انها تتحرج ان يعاينها طبيب غير مسلم، لذلك جرى استدعائي...بعد الكشف عليها، اوصيت بجلب بعض الادوية المهدئة لها...في تلك الاثناء، أخبرت الملكة، بوجود الامير –عبد الاله- في الباب يرغب برؤيتها، فأذنت له،... وجلس قربها على السرير، واخذ يقبل اياديها ويبكي،.. وحانت منه التفاته نحوي، يطلب مني الخروج، وبدأت اجمع اغراضي لكي اخرج، فانتبهت الملكة لذلك، وطلبت مني البقاء، وخروج كل من كان يحيط بسريرها باستثاء الامير –عبد الاله- والتفت نحوه، تخاطبه ((اني في اللحظات الاخيرة من حياتي، وسيظل فيصل وديعة عندك بدون اب وام، فهل ترعاه وتحفظه وتكفل حسن مسيرته، لكي اغفر لك ما حصل سابقاً، وشاهدي امام الله عليك دكتور كمال...)) ظل الامير منخرطاً بالبكاء لكن الملكة، كانت تستجمع كل ما تبقى لها من قوة، لتعيد عليه الكلام نفسه، فوعدها الامير، انه سيفعل ما اوصته به، حينها اذنت له بالخروج، بعد ان قبل يديها وقدميها، وخرج وهو ينشج بالبكاء...بعد خروجه، خاطبتني الملكة: ((يا دكتور انك شاهدي الوحيد امام الله على ما اوصيت به –عبد الاله- واريدك ان تكون واعياً لهذه الوصية بما يفعله مع فيصل الذي سيبقى يتيماً...)). وبعد ان اذنت لي بالخروج، شكرتني ودعت لي بالتوفيق. وجدت الامير –عبد الاله- ينتظرني، وسرنا في ممرات القصر الملكي، وسألني: هل تعتقد انها تشفى ام انها النهاية؟ قلت له"»العلم عند الله، وان كنت اشك بشفائها لان العلم لم يجد للان علاجاً لمرضها...)) ثم طلب مني وبلغة الرجاء ((ان الكلام الذي جرى بحضورك امام الملكة سيبقى سرا بيننا حفاظاً على الملك والدولة)) ووعدته بذلك.. ولم انشر هذا الكلام الا بعد اكثر من ربع قرن على وفاة الامير –عبد الاله- ثم سألته، وهل وفى الامير بما وعد الملكة به؟ لم يجبني، وعمل حركة بيديه، بما معناه"العلم عند الله"ولم اشأ ان الح.