تراث الديمقراطية.. اعتراضات على التدخل الحكومي

تراث الديمقراطية.. اعتراضات على التدخل الحكومي

كان جون ستيوارت ميل (1806-1873) وهو فيلسوف واقتصادي بريطاني، ذو منطق استقرائي وفلسفة تجريبية، وهو من أبرز دعاة مذهب المنفعة. وهو من رواد الفلسفة الليبرالية، وترى الفلسفة الليبرالية في الإعلام أنها تقوم بتزويد الجماهير بالحقائق المجردة، بهدف بناء عقولهم بناء سليماً بصورة طبيعية، وأن المعلومات التي يجب أن تتناولها أجهزة الإعلام يجب أن تتسم بالموضوعية، كما أن الفرد في ظل هذه الفلسفة يتمتع بحرية مطلقة، ويستطيع أن يفعل ما يحلو له، وليس لأحد التدخل في شؤونه وحياته.

وفي هذا يقول جون ستوارت ميل: (إن البشر جميعًا لو اجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهــم حتى لـو كانت لــه القـــوة والسلطة).

ويبرر جون ستوارت ميل ذلك بقوله: (إننا إذا أسكتنا صوتاً فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة، وإن الرأي الخاطئ ربما يحمل في جوانحهِ بذور الحقيقة الكامنة، وإن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إلا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص، وإن هذا الرأي ما لم يواجه تحديًا من وقت لآخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره
تهدف هذه المقالة"اعتراضات على التدخل الحكومي"الى التأكيد على مبدأ بسيط يحدد تماما تعامل المجتمع مع الفرد من حيث الإكراه والحكم، سواء كانت الوسائل المستخدمة في ذلك قوة مادية على شكل عقوبات جزائية أو إكراها معنويا من جانب الرأي العام. هذا المبدأ هو ان الهدف الوحيد الذي يمكن من أجله تسويغ تدخل الجنس البشري، فرديا او جماعيا، في حرية تصرف أي فرد من جنسهم، هو حماية النفس. وأن الغرض الوحيد الذي يحق في سبيله ممارسة السلطة على أي فرد في جماعة مدنية، ضد إرادته، هو منعه من إيذاء الآخرين. أما صالحه الخاص، سواء كان ماديا أم معنويا، فليس سببا كافيا.
الاعتراض على تدخل الحكومة، عندما لا يكون هذا التدخل يشكل انتهاكا للحرية، قد يكون على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: هو عندما يكون من المرجح أن يتم إنجاز عمل ما بصورة أفضل من جانب الأفراد بدلا من الحكومة. عموما ليس هناك من هو أكثر ملاءمة للقيام بأي عمل أو تحديد كيف ومن قبل من ينبغي ان يتم العمل مثل أولئك الذين لهم مصلحة شخصية في هذا العمل. هذا المبدأ يشجب التدخلات، التي كانت شائعة في الزمن الماضي من جانب المجالس التشريعية أو السلطات الحكومية، في العمليات الصناعية العادية.
النوع الثاني من الاعتراضات: هو أكثر ارتباطا بموضوعنا. ففي التشكيك في السلطة حالات عديدة، رغم أن الأفراد قد لا يحسنون عمل شيء معين، عموما، بالجودة نفسها التي يؤديها موظفو الحكومة، فمن المرغوب فيه، مع ذلك، أن يتم تكليف الأفراد بها بدلا من الحكومة، وذلك كوسيلة لتربيتهم الذهنية ـ كطريقة لتعزيز قدراتهم الحيوية وممارستهم للحكم على الأمور وتمكينهم من اكتساب معرفة مألوفة بالمواضيع التي تركت لهم للقيام بها. هذه هي التوصية الرئيسية، مع أنها ليست الوحيدة، لإجراء المحاكمات (في القضايا غير السياسية) بنظام هيئة من المحلفين؛ وفي المؤسسات الحرة والشعبية المحلية منها والبلدية، وفي تنفيذ المشاريع الصناعية والخيرية بالمشاركة الطوعية.
هذه ليست مسائل متعلقة بالحرية وهي مرتبطة بهذا الموضوع فقط بأهداف بعيدة، لكنها مسائل تتعلق بالتطور. ثمة سياقات أخرى للبحث في هذا المسائل باعتبارها جزء من التعليم القومي، باعتبارها، في الواقع، تدريبا فريدا للمواطن، الجزء العملي من التعليم السياسي لشعب حر، لأخذهم خارج الدائرة الضيقة للأنانية الشخصية والعائلية، وتعويدهم على استيعاب المصالح المشتركة، ومعالجة دواعي الاهتمام المشتركة ـ تعويدهم على التصرف بدوافع عامة أو شبه عامة وتوجيه أفعالهم نحو أهداف توحدهم بدلا من بعضهم عن بعض. بدون هذه العائدات والقدرات، لا يمكن النجاح في العمل بدستور حر ولا المحافظة عليه؛ كما يبدو في البلدان التي لا تستند فيها إلى قاعدة قوية بما فيه الكفاية من الحريات المحلية. إدارة الأعمال المحلية البحتة من جانب المناطق المحلية، والمشاريع الصناعية الكبيرة من جانب تحالف أولئك الذين يوفرون طوعيا الإمكانات المالية، تؤكد على التوصية بهما الميزات التي تم إيضاحها في هذا المقال باعتبارها تنتمي لفردية التطوير وتنوع أشكال العمل. العمليات الحكومية تميل للتشابه في كل مكان، أما عمليات الأفراد والمؤسسات الحرة فهي على العكس من ذلك تؤلف اختبارات متنوعة لا نهاية لها. الشيء المفيد الذي تستطيع الدولة القيام به هو ان تجعل من نفسها مستودعا مركزيا وموزعا وناشرا نشطا للنتائج الناجمة عن تجارب عديدة. مهمتها هي تمكين الذين يجرون اختبارات من الاستفادة من تجارب الآخرين؛ بدلا من عدم تقبل أي اختبارات ما عدا اختباراتها.
الاعتراض الثالث: والذي يتضمن أكثر الأسباب إقناعا لمنع دخل الحكومة، هو الأذى الشديد الناجم عن إضافة صلاحيات إضافية الى سلطاتها. كل عمل يضاف إلى الأعمال الأخرى التي تمارسها الحكومة أصلا يؤدي الى توسيع انتشار تأثيرها على الآمال والمخاوف، ويحول باطراد عددا أكبر وأكبر من الجزء النشط والطموح من الجمهور الى متطفلين على الحكومة أو على حزب ما يهدف إلى تولي الحكم. وفي حالة كهذه، فلو كانت الطرق، والسكك الحديدية، والمصارف، وشركات التأمين، والشركات المساهمة الكبرى، والجامعات، والجمعيات الخيرية العامة كلها فروعا للحكومة، وإضافة لذلك، لو كانت الشركات التابعة للبلدية والمجالس المحلية، وكل ما يتحول اليها الآن دوائر تابعة للإدارة المركزية؛ ولو كان موظفو كل هذه المؤسسات المختلفة يتلقون رواتبهم من الحكومة ويتطلعون الى الحكومة في أي تطوير لمستوى معيشتهم؛ فلا حرية الصحافة، ولا ا لدساتير الشعبية الصادرة عن مجالس تشريعية، تستطيع أن تجعل من هذا البلد أو أي بلد آخر حرا إلا بالاسم.

عن كتاب مفاهيم الليبرتارية وروادها
ترجمة صلاح عبد الحق