علي الشوك، الضَّعفُ حين يتحوّل إلى قوّةِ خلقٍ وإعادة وعي..

علي الشوك، الضَّعفُ حين يتحوّل إلى قوّةِ خلقٍ وإعادة وعي..

فخري كريم
حين كنتُ أكتبُ عن الزمن الجميل الموءود، الذي توسَّدَتْ أحلامُنا ثناياه، كانت تراودني في كلّ مرّة رغبةُ استرجاع بعضٍ من بقايا ضفافهِ، لعلّي أعثرُ على حطامٍ من موروثه، فأتشبّثُ به وأضمُّه إلى ما تبقّى من حطام دنيانا، لعلّه يتحوّل إلى أيقونةٍ تُجنّبُني الإحساسَ بالندم واللّاجدوى، فيجرفني تيارُ اليأس والحسرة إلى نسيانِ ذلك الزمنِ نفسه.

في كلِّ مرّةٍ أمسك خيطاً ينسلتُ منه، أُمنّي النفس بأنه قد يؤشِّر لعودةِ ماضٍ يكاد يُبشِّرُ بالرجوع مغسولاً بكفّاراتِنا التي لم تكن مجرّد أدعيةٍ أو نذور، بل أرواحَ آلافٍ، لا بل ملايين نحرتُهم الحروب، وألوانُ العسف والكراهيةِ المُنفلتةِ والإقصاءِ على اللون والفكرِ والنوع، ولربّما لمجرّد العبثِ واللّهو فوق كرسيِّ السلطة، والمكابرة بوهمِ سحرهِ ودوامِ سطوتِه..
لا مبالغةَ في التغنّي بزهوِ ذاكَ الزمنِ، ولا تعسُّفَ في تعفير جبينِ زمنِ القحطِ الذي نعيشُ، والعثُّ يتسلّلُ منه إلى كلِّ مسامةٍ من مساماتِ حياتنا، وهواؤهُ يتضمّخُ برائحةِ الموتِ وطعمهِ.. زمنٌ تغيَّرَ فيه حتّى عزرائيلُ مَلَكُ الموت، إذ لم يعُد يتأنَّى كما كان عليه في الزمنِ الجميل، فلا يُخطئ قِراءةَ سِجِلٍّ ولا يتعجّلُ، ولا يُقدِّمُ أجَلاً أو يندفعُ بلا تَرَوٍّ كما يفعلُ الآن،إذ يحصِدُ أرواحاً لم تينَعْ بعدُ ولم يَحِنْ قِطافُها..!
لِمَ كانت لكلِّ شيءٍ في الزمنِ الجميل نكهةُ الحياة.. حياة إنسانٍ سَوِيٍّ، وما تُعبّر عنها من سلوكٍ، يتمثّلُ فيه أو توصيفٍ لمعانيه ومآثرهِ وتجلّياتِها.. بل والجرأة في الإفصاحِ عن مكنوناته العميقةِ العصيّةِ على البوح، حينما تُجسِّدُ جُرحاً أو ما يُشبِه العيب.
البطولةُ نفسُها بطابعها التراجيدي ودلالاتِها، أمستْ إحدى ظواهرِ ذاك الزمن، حفرتْ معانيها عميقاً في وجدان المجتمع العراقيِّ وأضفتْ على سويّة أجيالٍ تعاقبت فيه أحزاناً وقهراً وشجناً مكبوتاً. وكأنَّ القدرَ أراد للعراقي أن يظلَّ مُنتَهَكاً، ترهّلتْ وسائلُ فرحهِ وأشواقه وتجذّرتْ في روحه مكامنُ اللوعةِ والأسى والفجيعة. فالمفهومُ البطوليُّ، تجاوزَ رمزيَّتَه الفرديّة، بعد أنْ صار المجتمعُ موضوعاً له. ولم تَعُدِ المآثرُ البطوليّةُ لزمنِ علي الشوك تتجسّدُ في قوّةٍ تحملُ التعذيبَ والاستعدادَ للموتِ والتضحية بمباهجِ الحياة ووهادِ الاستقرار، وإنما الجُرأةُ أيضاً على الاعترافِ بالضعفِ في مواجهة عذاباتِ الجسد، وتعريةِ الذات والقصور، في تجنُّبِ الانكسارِ وما يُفضي إليه من تداعياتٍ وتساؤلاتٍ بين الأهلِ وفي المجتمع.
إنَّ البطولةَ كقوّةِ إرادةٍ واستعدادٍ على المواجهة والموت، تجدُ تعبيرَها النقيضَ في الضعف، ليُشكِّلا معاً نسيجاً مترابطاً للكينونةِ الإنسانية، ولن تتكاملَ وتتوازنَ من دونِ تداخلِ وتشابكِ مظهريهِما
“القوّةُ والضعفُ الإنسانيُّ"وهما يُشكِّلان معاً كيانَ الإنسانِ الطبيعيِّ المتوازن...!
في رمزيّةِ البطولةِ، تلتقي المتناقضاتُ كلُّها من دون أنْ تتشوّهُ المعاني. فالبطلُ إذ يواجهُ العذابَ دفاعاً عن حقٍّ أو صيانةِ سرٍّ قد يتسبّبُ الكشفُ عنه إلحاقَ الأذى بقضيّتهِ أو تعريضِ مصائرِ آخرين إلى الخطر، يتشبّثُ بكلّ ما يستمدُّ منه طاقةَ الصمودِ وهو يواجهُ نقاطَ ضعفهِ الإنسانيِّ ويتعالى على عذاباتِه : الإيمانُ العميقُ بالمبادئ، وقوّةُ المُثُلِ والعقيدة، والقيمِ الاجتماعية، وأعرافُ العشيرة، ونظرةُ الحبيبة وهيَ ترى فيه عائداً، سحرَ حُلمها المرتجى..
تفتَّحَ وَعيِي على مشارف ذاك الزمنِ الجميل. إذ كنتُ مسكوناً بقيم مدينةٍ صغيرةٍ نائيةٍ تجتمعُ فيها تناقضاتُ القريةِ وتجلّيات مظاهرِ الحضارةِ الآتية من وراء البحار. وحين أخذتني بغدادُ لتُعيدَ تكويني، ولتغمرَني في ضجيج تجاذباتِها الاجتماعية والسياسية والثقافية وصخبِ فوضاها، وفيوضِ جمالياتِها الآسرة، عمّدتْني كرحّالةٍ يبحثُ عن ذاته، ويُريدُ لها أن تتكوّنَ على وقعٍ ينفضُ عنه ما عَلِقَ بها من غبار طفولةٍ ظلّتْ تبحثُ عن حدود اللهِ وراء أسوارِ المدينة الصغيرة النائية التي يبدو كلُّ شيء فيها موضوعاً للتساؤل..!
يومَها لم أسمعْ أو أقرأ لعلي الشوك وعشرات الأصواتِ المُبهرةِ من زمن التوهُّج والتكوين، بل شاءت الصدفةُ أن أكون على مسافةٍ منهم، يفصلني عنهم فارقُ العمرِ وخزينُ الثقافةِ والمعرفة، وهَمُّ القلقِ والتردُّدِ في البحث عن سبلٍ للنفاذ إلى عوالمهم لعلَّ بالإمكانِ اختزالَها وتحويلَ كوامِنها إلى زوّادة عمرٍ آتٍ، بعضُه مضمرٌ وأكثرهُ سِرٌّ يحتويه الغيبُ، ولا سبيلَ للتعرِّفِ على متاهاتها..
كانَ على الشوك علماً، يتوهّجُ بثقافة، تتميّزُ بالتنوّعِ والغنى المعرفيِّ والثقافيِّ، والتعدُّدِ في الاهتمام باتجاهاتها الفكريّةِ ومدارسها الفنيّة، غيرَ هيّابٍ في تطويعها والتفاعلِ معها وهو يكتب ويؤلّفُ ليبتكرَ لنفسه أُسلوباً يُميّزه، وينحتُ مسلَّةً جماليّةً قوامُها السردُ والموسيقى ونقدُ النقد، متّكئاً على معرفةٍ بالعلوم والرياضياتِ ملتقطاً شذراتٍ من كلّ ميدانٍ من ميادينها متماهياً في بحورها وتجلّياتِها.
توهّجتْ ثقافةُ الشوكِ في زمن الصعودِ والانتصارات التي شهِدتَها البشريّةُ بعدَ الحرب العالميّة الثانيةِ والانتصارِ على الفاشيّة والنازية، وتركت بصماتها في كلّ ميدانٍ من ميادين العلوم والثقافة والمعرفة بتنوِّعها وتعدُّدِ حقولها وتطبيقاتها ومنجزاتها في المجتمع والطبيعةِ وسبرِ أغوار الأكوانِ البعيدة. حيث غزا الإنسانُ الفضاءَ الخارجيَّ، ودار كاكارين لأوّل مرّة حولَ الكرة الأرضيّة. وشَهِدَ الناسُ كلّ يومٍ على الأرضِ ما يجعلهم أقربَ إلى أن يكونوا أسيادَ مصائرِهم، وما يُوحي لهم بقرب انعتاقِ العالم من أسرِ عبوديّةِ التخلّفِ والجهل والاستغلالِ وصروفِها وأرزائها وتداعياتِها على الحياة وتحدّياتِ المستقبل.
احتوى ذاك الزمنُ الواعدُ تناقضاتِ عصر التحوّلِ الذي قيل إنه يشارفُ على كسر سياق نظامِ الاستغلال، مع ما يُثيرُه من تساؤلاتٍ محيِّرة عن سيرورته، وتجاذباتٍ لم يكنْ من السهل تمثّلُ أبعادِها، ولا تَجنُّبُ التورّطِ في استقطاباتها، من دون إحكام الفكرِ وما تبلورُه من اندفاعاتٍ أو انحيازاتٍ ليست محكومةً في كلّ حالٍ بما تعكسه من مصالحَ طبقيّةٍ أو اجتماعية أو تكرّسه من يقين، فالعصرُ بسماتهِ المُهيمنة كان شديدَ الالتباس، تعصفُ به قيمُ التحرّرِ والعدالة الاجتماعية والتشوّفِ الإنسانيِّ لعالمٍ يندفعُ ليتجاوزَ كلَّ قديمٍ بالٍ، وتفكّك آلياتِ إعادة إنتاجِ منظومته، بفعل تناقضاتِ النظامِ التناحريّة..
كان علي الشوك نموذجَ المثقّفِ المهمومِ بقضايا عصره المتحوّل، وهو الآتي من مجتمعٍ تظهرُ فيهِ كلُّ تلكَ التناقضاتِ بوضوحٍ كافٍ ليتمكّنَ مثلُه من التقاطِ الأبعادِ التناحريّةِ المستحكمة في النظام الرأسماليِّ المتطوّر، حتى يبدو"نظريّاً"كأنّه على"عتبةِ الانتقالِ إلى النظام الجديد الواعد"! وقد وجدَ في مجتمعه العراقيِّ، وهو يعودُ ليتفاعلَ فيه مع الجديد، صراعاً مكشوفٍاً بين القديمِ المترهِّل المثقلِ بارتكاباته، وقوى التحوّل والتقدُّمِ وما تُبشِّرُ به من تحرُّرٍ ومساواةٍ وعدالة اجتماعيّة وانعتاقٍ من أسْرِ التحريم والموروثِ المُخاتل. لم تكن قد اتّضحت في تلك المرحلة المبكّرةِ بعد، مظاهرُ الصراعِ المستور والمواجهةِ المُضمَرة بين القوى السياسيّة المتحالفة المضادّةِ للنظام القديمِ، والمصالحِ التي تربطُ بعضَها مع قوى وامتداداتِ ذاك النظام، ممّا قد يجعلُ منها أدواتِ ارتدادٍ، و"حصانَ طِروادة"تُجهضُ عمليّة التغيير والتحوّل الثوري. وكان صعباً على المثقّف في ظروف الصراع الوطني التحرّري المحتدم، أن يُميطَ اللِّثام عن الأبعاد الاجتماعيّةِ والطبقيّةِ التي تتحكّمُ في الاصطفافاتِ السياسية في وضعٍ"محكومٍ بتناقضات مرحلةِ تداخلِ المصالح"التي تلتقي حول أهداف التحرِّر واستعادةِ السيادة والاستقلالِ الوطني. وفِي مجتمعٍ تتحكّمُ فيه قيمُ وأعرافُ وتقاليدُ ما قبل الدولة، و لم تبرزْ فيه المعالمُ الطبقيّة المعبِّرةُ عن نزعاتٍ ومصالحَ طبقاتها وحواملها السياسيّةِ التي تميّز بعضَها عن البعض الآخر. وما كان سائداً في المجتمع العراقيِّ في مشارف خمسينيّات القرن العشرين، عشيّةَ ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ نهوضٌ جماهيريٌّ معبِّرٌ عن القوى المعنيّةِ بالثورة والتغيير، يتداخلُ في إطاره تجمّعٌ غيرُ متجانسٍ من حيث التركيبُ الطبقيّ والسياسيُّ كان من شأنه إضفاءُ مزيدٍ من التعقيد على المشهد ولوحة الصراعِ السياسيّ.
ولَعِبَ النظامُ السياسيّ الملكيّ شِبهُ الإقطاعيّ شبه الاستعماريِّ، دوراً في التمويه والاستقطابِ والتمايز، فغيابُ الحريّاتِ السياسيّة - الحزبيةِ وتفاقمُ مظاهرِ الاستغلال وانعدامِ العدالة الاجتماعية، وتمركزُ الهدف الوطنيِّ العام حول إنهاء نظامِ التبعيّة والانصياع للأجنبيِّ، لم يتركْ خياراً حُرّاً مفتوحاً في الانتماء والانحيازِ للشرائح والأوساط الاجتماعية الأكثرِ وعياً واستعداداً للانخراطِ في الفعل الوطنيّ العام، غيرِ الانضمام إلى الحزب الشيوعيّ العراقيّ أو حملِ مشروعهِ وشعاراته. فالاستقطابُ تمحورَ في الخيار بين الحركة القوميّةِ العربيّة التي لم تنطوِ على برنامجٍ اجتماعيٍّ جذريٍّ يُلامسُ نبضَ أغلبية المجتمعِ المتّسم بطابعهِ الفلّاحي السائد، والفئاتِ الطبقية من شغيلة اليدِ والفكر. وانعكسَ هذا الواقعُ بكلِّ ملابساته وتداخلاتهِ على المثقّفين بشكل خاصٍّ لكونهم الأكثرَ وعياً وحساسيّة إزاءَ مظاهر الظلم الاجتماعي والقمع السياسي وانعدام الحريّات. وجعل الغالبيةِ منهم تنحازُ إلى المشروع التغييريّ الذي كان الأكثر وضوحاً ببرنامجه الاجتماعيِّ الاقتصاديّ وأهدافهِ وشعاراته السياسيّةِ في التعبير عمّا يتطلّعون إليه من إصلاحٍ وتقدّمٍ وتحوّلاتٍ اجتماعيّة وتطلّعاتٍ شعبية، جسّدتْ مبادئ وقيمَ الحريّةِ والمساواة والعدالة الاجتماعيّةِ والنزوع الإنسانيّ. وزادتْ في قوّة المشهد وتعبيراتِه، الموجةُ العالميّة المُنبّئة بانبثاق عصرٍ جديد وانعطافٍ حادٍّ دشّنته ثورةُ أُكتوبر الإشتراكيّةُ في روسيا، وكرّسته منجزاتُ دولتِها في سائر ميادين التطوُّرِ والتقدُّم.
عادَ علي الشوك من الولايات الأميركيّةِ إلى العراق، وهو مُشبَّعٌ بالمعادلات والمنحنيات والأرقامِ التي أتت بها آخرُ علومِ الفيزياء والرياضيات، وتكاملت مع انشغاله بمصادر الإلهام الإبداعيّ الثقافيّ كرافدٍ آخر يُعمِّقُ إحساسَه بالواقع الاجتماعي وما يسود فيه من أسباب التمايزِ والظلم ومُصادرة الإرادة.
انضمَّ علي الشوك، وهو مهمومُ بكلّ هذه الهواجس، إلى الحزب الشيوعيّ، وصار من أبرز مثقّفيه، وتحوّل إلى كادرٍ قياديٍّ منظِّم للمثقّفين، وهو لم يكنْ بانتمائه هذا شذوذاً عن القاعدة السائدة، وإنما تعبيراً عن ظاهرةٍ سادتِ الوسطَ الثقافيّ، بمفهومه العام والإبداعيِّ، حيث بدا كما لو أنّ كلّ مثقّفٍ ومبدعٍ، كاتباً كانَ أو روائيّاً، فنّاناً تشكيليّاً أو مسرحيٍّاً ومُمثّلاً، طبيباً ومهندساً وأُستاذاً جامعيّاً أو مُعلِّماً، عضواً في الحزب الشيوعيّ أو على مقربةٍ منه. وصار المشهدُ يتّسمُ بطابعه الغرائبيِّ، وهو يؤشِّر إلى احتواءِ الحزبِ في تلك المرحلة لأبناءِ الإقطاعيّين والملّاكينَ الكبارِ وأبناء العوائل من الطبقةِ الوسطى والبرجوازيّة النافذةِ من دون استثناء أبناءِ النُّخبة الحاكمة وأصفياء طبقتها.
ابتدأتْ تلك المرحلةُ في وقت مبكّرٍ مع الإرهاصات الأُولى لانبثاقِ بواكيرِ الحركة الفكريّةِ الماركسيّة منتصفَ العشرينيّاتِ من القرن العشرين وظلّت تنمو وتتوسّعُ لتُصبحَ ظاهرةً طاغيةً في الخمسينيّات منه، لتبدأ مسيرةُ الانكفاءِ والضمور بعد الانتكاسة المُروّعةِ في انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ الدمويّ، حيث بدأتْ عمليّاتُ الانتقام الارتداديِّ من الشعب العراقيّ على ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ من قِبَلِ حزب البعث العربي الاشتراكي بالنيابة عن حاضنته، المخابراتِ الأميركيّة، وكانت تلك لحظةُ الانهيارِ الذي لم يتوقّفْ حتى يومِنا هذا، أدّتْ إلى تدمير كلِّ بُنى التطوّرِ والتحديث، وتفتيت نواتاتِ التحوّل والتقدّم الاجتماعيّ - الاقتصاديّ السياسيّ للعراق، وإجهاضِ حركتها وإفراغِها من نزوعِها التقدميّ.
كانَ علي الشوك ومجايلوه من الكتّاب والمثقّفين والفنّانين يُغْنُونَ الحركةَ الثقافيّة ويمدّونها بكلّ ما يثريها بالجديد، مما يُعمِّقُ من وعي المجتمع ويستنهضُ فيه عواملَ التمرِّد على واقعه المشوَّهِ المتخلِّف. وليس بمعزلٍ عن نهوض الحركة الثقافيّة السياسيّة، شهدتْ تلك السنوات منذ أوائل الأربعينيّاتِ من القرن العشرين، ازدهاراً غيرَ مسبوقٍ في كلّ ميادين الثقافة والمعرفة والتعليم، حيث انبعثت من العراق الحداثةُ الشعريّة مُمَثَّلةً بريادة نازكِ الملائكة وبدر شاكر السياب، وريادةِ المدارس الفنيّةِ في الحركة التشكيليّةِ ممثّلةً بجواد سليم وفائق حسن ومحمود صبري، ونهوض المسرحِ بريادة حقي الشبلي ويوسف العاني وزينب وخليل شوقي وناهدة الرمّاح وسامي عبد الحميد. وقد كان بين أبرز مظاهر التقدّمِ في تلك المرحلة التطوّرُ في التعليم الجامعي، حيث برزت قاماتُ تركت بصماتِها في جيلٍ ظلّ مثلاً يُقتدى حتى يومنا هذا، إذ لن تنسى الذاكرةُ العراقيّة أسماء عبد الجبار عبد الله وعلي الوردي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وصفاء الحافظ، ونُخبٍ علميّةٍ في ميادين الطبّ والعمارة والهندسةِ والقانون والصحافة والأدب وهي تحتلُّ مواقعَ الصدارةِ في تاريخ العراقِ الحديث.
لم يستطع علي الشوك تحمُّلَ التعذيب المروّع الذي تعرّض له في قصر النهاية على أيدي زبانيةِ الحرس القومي الفاشي البعثي، كما تعرّض له الآلافُ من العراقيين، استُشهِدَ منهم مَن استشهد وتحوّل البعضُ الآخرُ إلى حوامل لجراحات جيلٍ لم تكن جذوةُ الإيمان قد انطفأتْ في أعماقهم، بل ظلّتْ مصدرَ عذابٍ قد يفوق في لحظات استذكارٍ ويقظة، معاناةُ التعذيب والقسر، ومحاولات كسر إرادة الإنسان وهو يُحاولُ جاهداً الاحتفاظ بنقاوة ضميرهِ ووجدانه.
لم تكن جريمةُ البعث تتمثّلُ في التعذيب والموت الذي غيّبَ الآلاف في قصر النهاية وأقبية أجهزةِ الأمن والمخابراتِ طوالَ عهدَي حكمه فحسب، بل تجسّدها أيضأً كسر إرادة الآلاف من أفضل العقول والكفاءات من المثقّفين والناس الأخيار، وجعلهم أسرى الإحساسِ بالذنب والانقطاعِ قسراً عن عوالم الحلم الذي راودهم، بسبب ضعف إنسانيّ أمام قطعانٍ من وحوش ضارية في هيئة بشر. وقد دفع المجتمعُ العراقيُّ ثمناً باهظاً لتلك الجريمة، سواءً بشكل مباشر عبر حرمانهِ من طاقاتهم الخلّاقة، أو ما انعكس في أوساطه من الآثار الجانبيّة التي أصبحت في حالاتٍ غيرِ قليلة مظاهرَ مرَضيّة خلفتّها حالات الانكسار الداخلي لمن حوّلتهم الوحشيّةُ البعثيّةُ إلى أفرادٍ يتوارونَ في حواشي المجتمع، وينكفئون على جراحاتِهم الداخلية.
واصل علي الشوك، بعد خروجه الدامي من مجزرة قصر النهاية حياةَ أراد لها أن تكون تجاوزاً وليس انقطاعاً عن ماضيه المضيء، محاولاً بكلّ ما فيه من طاقة الإبداع والتوق الإنسانيِّ أن يُرمِّمَ انكساراتهِ، خيباته، شكوكَهُ وهواجسَه وتساؤلاتِهِ التي صارت كلُّها عبئاً مضنياً في محيطٍ يبعث على مزيدٍ من الشكوك. وكما كان عليه دائماً صار أكثرَ انكباباً على القراءة، لكنَّ الموسيقى ظلّتِ المحرّكَ الذي يتسلّلُ إلى أعماقه المُحبَطة، فيعيدُ إليها السكينةَ والأحساسَ بمعنى الوجود، وسحرِ الحياة وعنفوانها، وبقي الشوك رغم انشغالاتِه بترميم ما انكسرَ في روحه مشدوداً إلى عمليّة إبداعٍ خلّاقٍ تشكّلُ قوّةَ تجديدٍ واستعادة عافية، فبدأ في كتابة الرواية، محاولةً منه بتجريب بناء حيواتٍ رأى في بعض أبطالها انكساراً قابلاً للمعافاة، وفي البعض الآخر كائناتٍ متمرّدةً على التقاليد، مرفوضةً بحكم العادة والمألوف.
قد ينسى علي الشوك في لحظات استذكاراتهِ، وهو يَرسُمُ أبطالَه أحياناً محكوماً بدواعي التمرّد على كلّ مألوفٍ، كما لو أنه يعيد صياغة بيئةٍ مضادةٍ لقوىً كانت سبباً في أنكسارِ جيله، ولكنه إذ يفعلُ ذلك يُضفي ظلالَ شكوكٍ حول مدى براءة دوافعه الإبداعيةِ، ويُعمِّقُ عزلةَ أبطالهِ عن محيطهم التاريخيِّ وقد يُشوِّهُ دوافعَ سلوكه كروائيٍّ بإسقاط رغبته الشخصيّة على بعضهم وتلبيسِهم طابعاً متخيّلاً غرائبياً يضيق بهم زمن الرواية وأمكنتِها..
انتقلَ علي الشوك إلى الرواية أملاً في بناء مختبرٍ لتشريح أبطالِ رواياتِه وإعادةِ تخليقهم مُضفياً على نماذج منهم، مجازاتٍ مقتطعةٍ من لوحة حياته وإسقاطاتها، فاته أن يعيش تجاربَها، متحرِّراً من قيودٍ فرضها انحيازُه الآيديولوجيُّ والتزامه الحزبيّ.. وكان التشدّدُ والتزمّتُ والازدواجيّة السلوكيّةُ معيارَهما ومحدّداتِهما المفهوميّة..
في أواخرِ السبعينيّات، حين توضّحت معالمُ سياسةِ نظام البعث الكارثيّة، خرج علي الشوك من العراق إلى حيثُ يجدُ الحمايةَ الذاتيّة من احتمال انكسارٍ جديد. وكأنّه بموقفه هذا يُعيدُ إلى ذاكرته مشهدَ مواجهة جلّادهِ في قصر النهاية، فيتحدّاه ويُظهره مجرّدَ شِبه إنسانٍ، مسخٍ، يتضاءلُ أمامَ ناظريِهِ فيسقطُ تحتَ ثقل جرائمه، مكسورَ الإرادةِ، فيتعرّى وينهار...
كان خروجُه من العراق تعافياً وإعادةَ تكوينٍ مُبرّءاً من عوالق زمنٍ التعثّرِ والانكفاء وتجاوزاً للقطيعة مع قامتهِ كإنسانٍ يستردُّ ما اغتُصِب منه، والعودة إلى زمنِ التوهُّج..
يقول علي الشوك، كلّما أرادّ أن يتوقّفَ عند محطّات إبداعهِ الفكريِّ والأدبيّ، ان كتابه"الأُطروحة الفنطازية"يظلُّ يحتلّ موقعاً أثيراً في مسيرة عطائه، فريداً من نوعه في العالم العربيِّ، ويجدُ في اعترافِ كلٍّ من أدونيس ومحمود درويش بقيمة الأُطروحةِ دالّةً تُكرّسُ قيمتَها وسعةَ تأثيرِها. ويرى الشوك أنَّ"الأُطروحةَ الفنطازية"كرّستهُ كاتباً ذاع صيتُه بين أبرزِ مجايليهِ من الكتّاب والمبدعين وجوازَ مرورٍإلى عالم الكتابة والأدب. والأطروحةُ قد تصلُح مفتاحاً لفهم شخصيّتهِ التي تجمع بين الانفتاح على العلم المجرّدِ الملغوم بالمعادلات الرياضيّةِ ومتاهاتِ نظريّاتِ الفيزياء والإبحارِ في عوالم الأدبِ والفنون، ومِنهما تمكّنَ من تطويع علمِ الرياضيّات لصياغةِ عملٍ أدبيٍّ رفيعِ المستوى.
علي الشوك، إذ يكتبُ في مذكّراتهِ أنّه صار نزيلَ"قاعةِ المُعترفين"تحت التعذيبِ، ويُقرُّ بأنّه لم يستطعِ الصمودَ أمام التعذيب، يُظهرُ زاويةً أُخرى من سمات ناسِ الزمن الجميل وفضائِله... إنّه لم يُكابر ولم يدَّعِ أو يُبرِّرْ ويسوِّقْ أكاذيبَ ليُزيِّنَ صورتَهُ كضحيّةِ نهجٍ أو سياسةٍ خاطئة أو ممارساتٍ فظّة، بل اكتفى بأنه"اعترف"..!
لكنَّ هذا الاعترافَ لا يكفي، فها هو يصفُ مشهدَ قائدٍ شيوعيٍّ جيء به من قاعةِ الصامدين بشموخٍ أمام الجلاّد، محاولةً في كسر إرادتِه ليتفرّجَ عبر شاشةِ التلفزيون على اعترافاتِ قياديٍّ انهار ؛ يقول علي الشوك:"لم يبقَ سوى دقائق ثم طلبَ بتعالٍ إعادتَهُ إلى محبسه»، مشمئزّاً من دون أن يتشفّى..!
علي الشوك، وقد اختارَ المنفى، حاولَ أنْ يسترجعَ كلَّ ما هو مُمكنٌ من ماضيهِ قبلَ الانكسار، وإذا لم تكنْ رواياتُه تعكسُ عودةَ الوعي هذه أو أنَّ بعضَها خدشَ سريرةَ أصدقاءٍ له ومُحبِّينَ وأثارتْ في ما بينهم تساؤلاتٍ خارجَ سياقاتِ العمليّة الإبداعيّة، فإنّ مذكّراتهِ تردُّ على هواجِسهم إذ تعكسُ كينونةً عصيّةً على الانكسار.
بغداد/ ١٤ كانون الأول ٢٠١٦

مقدمة كتاب علي الشوك"الكتابة والحياة"