ذكريات آثارية.. رحيل عالمة الآثار لمياء الكيلاني

ذكريات آثارية.. رحيل عالمة الآثار لمياء الكيلاني

نعت الانباء العالمة الاثارية العراقية الدكتورة لمياء احمد جمال الدين الكيلاني يوم الجمعة الثامن عشر من كانون الثاني 2019 لتلتحق بسلسلة علماء وعالمات الاثار العراقيين الذين رحلوا بعد ان قدموا خدمات فائقة لتاريخنا وحضارتنا، وقد اخترنا هذه الذكريات من لقاء اجراه الدكتور رشيد الخيون معها قبل سنوات..

بدأ الاهتمام بالأثر العراقي اهتماماً فرنسياً وألمانياً، في غضون القرن التاسع عشر وأقدم من ذلك، وحينها حدثت تنقيبات كبرى في آثار نينوى، ومن اكتشافاتها زودت المتاحف الأوروبية بالآثار العراقية. ولا أعد تلك الآثار سرقات، مثلما يُشاع، بل نُقبت ورُحلت بدراية وأوامر (فرمانات) من الدولة العثمانية. ومع ذلك هناك سرقات، وهناك تجارة آثار خارج عين الدولة. وهذا ما حصل في مدينة سبار، شمال مدينة بابل الأثرية، فقد حفرت بشراهة، وبيعت آثارها خارج النطاق الرسمي، بل هناك الآلاف من الرُقم الطينية، التي بيعت من قبل الناس على المهتمين بالآثار.
أما في القرن العشرين، فقد نقب الألمان في خرائب بابل، وفي مدينة الوركاء، جنوب العراق، وأخذوا الآثار، التي يحتفظون بها في متحف برلين بموافقة الدولة العثمانية أيضاً. وقد وصلت تلك الآثار قبل الحرب العالمية الأولى بسنوات. وبعد تلك الحرب وصلت البعثات التنقيبية البريطانية، ونقلت ما نقلته إلى المتحف البريطاني. وكانت غرترود بيل، السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني، ذات اهتمام ودراسة آثارية. لذا أقدمت منذ البداية على تأسيس دائرة الآثار، وكانت تُعرف بالدائرة الأركيولوجية، وأقدمت على تأسيس متحف صغير، شغل غرفة من بناية القشلة العثمانية وسط بغداد، حيث دار الوالي سابقاً. وبدأت تعترض على ترحيل الآثار كافة إلى المتاحف الأوروبية. وسرعان ما أخذت تطالب بتوسيع المتحف، وكان لها هذا، حيث شغل المتحف بناية مستقلة، حتى الانتقال إلى البناية الجديدة. وكم تبدو تلك الغرفة الصغيرة مهمة في تاريخ الاهتمام في الأثر العراقي. وقد حصل أن استقدم ساطع الحصري، مدير الآثار في الثلاثينيات، المعماري الألماني الشهير مارخ، الذي كان قريباً من ادولف هتلر، وهو الذي صمم بناية نورنبيرك، وبعد الحرب العالمية الثانية عاد هذا المهندس إلى بغداد، لاستكمال العمل في بناية المتحف العراقي الجديد. وأعد عمارة المتحف الحالي من العمائر النموذجية ببغداد، فكم تبدو صغيرة ومتواضعة من الخارج، إلا أنها متسعة ومعقدة من الداخل. وبعدها تبرع صاحب الخمسة في المائة من نفط العراق البرتغالي كولبنيكيان بإنشاء متاحف المحافظات، ومنها كان متحف الموصل، الذي صممه المعماري العراقي محمد مكية، ومتحف أور بالناصرية صممه المعماري العراقي سعيد علي مظلوم.
انت تلك الآثار، الثابتة منها، مهملة حقاً. أقول هذا لأن أحد أقواس المدرسة المستنصرية، التي شيدت في القرن السابع الهجري، كان مخبزاً! وكان القصر العباسي عبارة عن خرابة. حقيقة ليس لدينا آثار عباسية نقية، وأغلبها كان من آثار مرحلتها المتأخرة المطعمة. وذلك بسبب الحروب والفتن، وأن البناء كان بالقرميد، وعُمران القرميد عادة لا يدوم. أما آثار منطقة الأعظمية والصرافية، وهي الموقع العباسي الأول، فقد كثر التنقيب فيها، ولكن للأسف لم يعثر على شيء، لأن الأرض حُرثت وتحولت إلى بساتين. لذا لم يبق من الأثر العباسي إلا القليل جداً: جامع الخلفاء، الذي أعاد تصميمه المعماري محمد مكية في الستينيات من القرن الماضي، ومنارته منارة سوق الغزل. وهناك منارة صغيرة بالكرخ، وقبة زبيدة المخروطية، وهي ذات طراز سلجوقي. وكانت القبب المخروطية مشهورة بالعراق في ذلك الوقت، وما زالت منصوبة فوق العديد من الأضرحة، لكنها تعود إلى فترة متأخرة. وكانت قبة الشيخ عبد القادر الكيلاني من ذلك الطراز المخروطي، قبل قلعها واستبدالها بالقبة الحالية. ومن المعلوم ان للحروب بين العثمانيين والصفويين دورا في هدم العديد من العمارات الأثرية الخاصة بالأضرحة والمساجد.
هناك ذكريات كثيرةفي عملي في دائرة الآثار. لكن، أطرفها ما يتعلق برجل بسيط، لا يقرأ ولا يكتب، واكب العمل في دائرة الآثار منذ 1944، وما زال حتى هذه الساعة، وهو الحاج عبد. عبد يُعد حقاً أمين المتحف، لا فراشاً فيه، وهو عنوان وظيفته، فلديه من المعلومات والخبرة ما ليس لدى عدد من الموظفين. فهو يعرف أين مكان هذا الأثر، وما هي قيمة ذاك، بل وما هو تاريخ آخر. ويساعد الباحثين والموظفين بمفهومية فطرية عجيبة، وشعرت ان لديه إخلاصا ما بعده إخلاص للآثار. وقد حصل أن أحيل إلى التقاعد، ولما لم يتمكن من فراق الآثار عاد وطلب العودة بأجور يومية. وقد انتهزت وكيلة مدير المتحف آنذاك الآثارية مهاب البكري الفرصة، ولما سمعته أغلقت الباب، وأمرته أن يكتب طلباً ويوقعه، حتى لا يتراجع، وفعلا عاد، وما زال يعمل. ولم يفارق عبد الآثار طوال القصف خلال الحرب عام 1991، وعندما قلنا له لماذا بقيت في المتحف ليلا؟ قال: «وهل أبقي الآثار لوحدها»؟ لا أحد يسميه الحاج عبد، رغم ذهابه إلى الحج، وكان يتضايق من ذلك. وعندها تشارطت معه مازحةً أن يناديني بالدكتورة لمياء، بعد أن أخذت الدكتوراه، وأناديه بالحاج عبد، عندها نظر لي نظره احتجاج، لأنه لا يريد مناداتي بغير ما تعود عليه منذ 1961: الست لمياء وكفى.
ويقدم الدكتور رشيد الخيون لحديث الدكتورة لمياء احمد الكيلاني بقوله :
ان قسم الآثار، المفتتح حديثاً في الخمسينيات من القرن المنصرم من أقسام كلية الآداب ببغداد. ويُعد من الأقسام الثانوية، قياساً بالأقسام الأخرى؛ فهو يرتبط بالبحث عن أدوات ورمم الأولين، وليس فيه طموح السياسة والجاه والثروة. وهذا ما كانت تفكر فيه خبيرة الآثار لمياء كيلاني، سليلة سدنة الحضرة الكيلانية ببغداد، قبل دخولها هذا القسم عن طريق المصادفة. كانت تحلم، وهي طالبة ثانوية، أن تكون يوماً ما رئيسة وزراء مثلا، أو سياسية يُشار إليها بالبنان. لذا حاولت دراسة الحقوق والسياسة، فهي الخطوة الأولى نحو تحقيق ذلك الحلم، كما جرت العادة في الدول ذات التقاليد الديمقراطية.
إلا أن وجود شقيقها في تلك الكلية حال دون ذلك، وكان يرى وجودها تقييداً له في حياته الجامعية أن يجتمع وشقيقته في كلية واحدة. ثم أخذت بالبحث عن أي فرع جامعي يؤدي بها إلى مناصب السياسة، وبالتالي أفلست من الجميع وحطت عصا ترحالها في قسم الآثار. دخلت هذا الفرع، المفتتح قبل ثلاث سنوات، وسط استخفاف الأهل والأقرباء، فماذا يتوقع لدارس آثار الطين والحجارة من مستقبل، سوى وظيفة متواضعة في المتحف العراقي! إلا أن الفرصة المؤاتية قد أتتها، عندما وصل أحد أساتذة جامعة «كامبردج”البريطانية العريقة إلى بغداد، وطلب مقابلتها، بعد أن علم أن فتاة عراقية تدرس علم الآثار ببغداد، ووعدها بالحصول على منحة دراسية في جامعته، وقد تم ذلك بعد عام دراسي واحد.
أكملت دراسة الآثار بلندن، وبعد التخرج عادت إلى بغداد للعمل في دائرة الآثار عام 1961، وبقيت في الوظيفة حتى عام 1968. ففي هذا السنة تغيرت أشياء كثيرة، وبدأ التقييم على أساس التعاون مع حزب البعث. وعملت في تلك الفترة تحت إدارة الآثاري المعروف طه باقر، وحصل لأول مرة في تاريخ الآثار العراقية أن تعمل فتاة في المواقع الأثرية. وترى الكيلاني أنه لو كان شخص آخر غير باقر لما وافق على عملها كمُنقبة، وذلك لموانع اجتماعية.
ومنذ البداية، انصب اهتمامها على الأختام الأسطوانية، وما اختارته وعرضته آنذاك، في المتحف، ظل معروضاً حتى التسعينيات من القرن المنصرم. كذلك تبنت فرعاً جديداً في المتحف، وهو الفرع التعليمي، لطلبة المدارس والهواة، والغرض منه تحبيذ العمل في الآثار. أُبعدت بعدها عن الآثار إلى التربية، ثم جاءت الفرصة للدراسة العليا ببريطانيا أيضاً، ونالت بأطروحتها «الأواني الحجرية السومرية”الماجستير، من جامعة «أدنبرة»، وبأطروحتها «الأختام الأسطوانية البابلية (فترة حامورابي)”شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها. وفيما يلي حوار أجرته معها «الشرق الاوسط”حول مسيرتها في عالم الآثار وحول تاريخ الآثار العراقية، وما شهدته من تقلبات في القرن الماضي.

من (لقاء اجراه الدكتور رشيد الخيون معها سنة 2006)