من تاريخ اليقظة الفكرية في العشرينيات.. بين حسين الرحال ومحمود احمد السيد.. عشق الحرية والتقدم

من تاريخ اليقظة الفكرية في العشرينيات.. بين حسين الرحال ومحمود احمد السيد.. عشق الحرية والتقدم

قيس ادريس
لا يمكن الحديث عن محمود أحمد السيد دون الإشارة إلى حسين الرحال وبالعكس, فقد جمع الرجلين أكثر من صفة مشتركة فهما من جيل واحد, وكلاهما عشقا الحرية والتقدم.
بعد عودة حسين الرحال من أوروبا أرتبط به محمود أحمد السيد ارتباط التلميذ بالأستاذ والمتعلم بالعالم, فبقي ملازماً له ليستفيد من مجالسته في المقاهي. وقد تكون لحسين الرحال يد في اهتمام محمود أحمد السيد بمزاولة القصة بإطرائه اياها – في الأقل- فقد عرف الغرب وعرف مكانة القصة في أدبهم وفي مجتمعهم, ونقل إلى صديقه أطرافاً من فحواها معلناً إعجابه وتقديره

وأنه قد رأى ما يتميز به صديقه محمود أحمد السيد من مقدرة لغوية ومن طموح لا بد أن يكون قد دفعه إلى كتابة القصة, وفي هذا السياق ذكر حسين الرحال عن رفيق دربه محمود أحمد السيد وعن تأثيره عليه:”كان أسلوبه يعجبني نظراً لاتصافه بالمرونة أما لغته فكانت رصينة, وكنت أقول له: أكتب أدباً, ودع الكتابة المتخصصة بالقصة, فسوف تستطيع أن تمارسها فيما بعد". وكذلك حاول أن يدفع محمود أحمد السيد إلى التطرق للمشكلات الاجتماعية في كتاباته.

إن العلاقة بين الأثنين كانت فكرية أكثر منها فنية, من خلال تشخيص البالي القديم, والبحث في الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي, وإعادة قراءة السائد والمألوف بهدف تخطي ما هو ضار وعقيم والتقاط ما هو نافع ومفيد وتدعيمه بما يرد إليهما من خلاصات فكرية وعلمية وانجازات إنسانية. فتلك العلاقة أتاحت للسيد فرصة لزيادة وعيه عن مفهوم الفن القصصي وعناصره الفنية, وأهدافه الموضوعية, وأن يصحح مفاهيمه عن الأدب القصصي.
يبدو أن حسين الرحال كان يدرك وهو يدفع السيد في طريق القصة, أن السرد وسيلة فنية صالحة جداً لنقل الأفكار الجديدة التي كان يود نشرها بين الجيل الجديد, ولذا لم يكن يبالي كثيراً بما هو رفيع فنياً بقدر ما يهمه الفكرة التي ينهض بها القاص, ويوصلها إلى جمهور القراء.
إن العلاقة التي ربطت حسين الرحال ومحمود أحمد السيد وتشجيع الرحال للسيد لكتابة القصة دفع بحسين الرحال إلى كتابة مقدمة قصة”في سبيل الزواج”التي ألفها محمود أحمد السيد عام 1921. جاء فيها :... وقد سرني وأيم الحق أن رأيت صديقي (السيد محمود آل المدرس) مع صغر سنه وحداثة عهده وابتدائه بفن الكتابة مثابراً في الاشتغال حسب طاقته والاستعداد للتطرق لمثل هكذا الموضوع – الموضوع الروائي- الذي لا يستطيع الخروج من عهدته كما ينبغي إلا من كان له في الأدب حظ عظيم. وها هو يبرز للقراء هذه الرواية الصغيرة التمهيدية التي هي نتيجة عمله ومسعاه والأمل وطيد بأن القراء الكرام يشجعون الكاتب ويحثونه على أن ينحو نحو العمل. وأن يغضوا الطرف ولا يلتفتون إلى أسلوب الرواية ووضعها ونسبتها إلى الروايات الراقية وغير ذلك. بل إلى الغاية التي وضعت من أجلها فقط. كما أننا نأمل من ادباءنا العراقيين الأفاضل – سيما الشبان - أن يقوموا بواجبهم نحو هذا الأمر الذي هو جملة العوامل الأساسية لتنشيط الناس على الأدب". تلك الــمقدمــة كـانت بــمثابة وثيقــة أدبيــة لـها أهـميتهـا فـي تاريخ نـشأة القصـةالعراقية مضموناً وشكلاً, ولها دلالتها على عقلية حسين الرحال وثقافته ورصانته في التنبيه والتشجيع والنقد, وكشفت بجلاء طبيعة العلاقة المقطوعة بين الفن القصصي الجديد, وقت ذاك, والمثقفين العراقيين, ونظرة الجفاء والتجاهل التام لذلك الفن, وأن ذلك الحكم الذي صدر عن أبرز المفكرين العراقيين آنذاك أكد خلو البيئة العراقية من هذا الأسلوب الأدبي, ذي النظريات العالمية النقدية, ولا سيما خلوها من كتابات أبنائها في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ العراق الحديث.
تنوعت كتابات السيد, فكتبَ عن الحب والغرام تارةً, وعن الفقراء والمعدمين وهو لب عمل حسين الرحال وأعضاء حلقته تارةً أخرى, وقد أعطاها بعداً قصصياً كي لا تثار حولهم هواجس الحكومة, فعندما كتب رواية”مصير الضعفاء”عام1922 وهي رواية غرامية اجتماعية عراقية, أهداها إلى أستاذه الرحال ونقف عند الاهداء الذي ذكر فيه:”إلى الحر الأبي حسين بك الرحال".
كانت الهامات محمود أحمد السيد القصصية نابعة من أفكار الرحال, إذ يستنتج منها بذكائه الخاص وبطريقته الخاصة بعض الصيغ الفكرية الخاصة به, ليعترف السيد بنفسه عن أثر حسين الرحال في كتاباته في قصة”الصعود الهائل", والذي قال عنها السيد:”حكى لي هذه الحكاية صديقي حسين بك الرحال. وقد تلقاها من مصدر وثيق في رحلته إلى أوربا, ولقد كتبتها لأنقلها إلى القراء, لعلهم يعجبون معي من ذلك السقوط أو ذلك الصعود الهائل".
ونظراً لعمق العلاقة التي ربطت الرحال والسيد دفعت الأخير بالتعبير عن كليهما في شخصية”جلال خالد”لروايته الموسومة بهذا الاسم التي أصدرها السيد عام 1928 وهي التي تنم عن حقيقة ميولهم الفكرية الماركسية التي تأثر بها الأثنان من خلال اطلاعهم على حالة البؤس والفقر والحرمان عندما زارا الهند وتأثرا بالأجواء السياسية وشعرا بالفوارق الطبقية العميقة وتلمسا نضال العمال والكادحين من أجل تحقيق مطالبهم العادلة, وتأثرا بشخصية (ف. سوامي) وتعلما منه أن النضال لا يمكن أن يكون إلا في الوطن, وتستمد الرواية أهميتها كونها رواية واقعية.
وقد عكست الرواية تجربة حسين الرحال ومحمود أحمد السيد في الهند في المدة التي كانوا فيها هناك, ففيها إشارة إلى زيارة كليهما إلى الهند”قدر لي أن أزور الهند كما زارها صاحبي جلال خالد", وهي قصة عراقية موجزة للسنوات 1919 – 1923, مهداة إلى:”فتية البلاد التي تريدها على الجهاد في سبيل الحرية والحق".
و الجزء الثاني من الرواية فهي ذات بعد ماركسي حقيقي, إذ أنها عبارة عن رسائل متبادلة بين جلال خالد في بغداد و"أحمد مجاهد”في الفرات الأوسط, و"ك. س”في البصرة. وفيها تبادل رأي في الاصلاح, وخطط للتجديد وانقاذ الفلاح, والعمل على اصدار صحيفة. وكان لحسين الرحال دور في توجيه محمود أحمد السيد بترجمة آثار الأدباء الروس والأتراك من اللغة التركية إلى العربية.
يبدو أن العلاقة الوثيقة بين حسين الرحال ومحمود أحمد السيد كان لها دورٌ كبير في نشر الفكر الماركسي من خلال الأدب, واستخدام القصة كوسيلة لطرح ومناقشة المشكلات الاجتماعية, وكشفَ تلك العلاقة عن تلازم الفكر والأبداع الفني ودورهما في ترسيخ الوعي الوطني وتنظيم الجماهير من أجل التطور والتقدم.

عن رسالة : حسين الرحال ونشاطه الفكري في العراق