اعداد : ذاكرة عراقية
في اليوم الثالث من شباط من عام 1985 توفي الأديب والصحفي العراقي الرائد جعفر الخليلي، عن واحد وثمانين عاما ومسيرة حافلة بالإنجازات الأدبية الجديرة بالتقدير والإكبار.
ولد جعفر أسد الخليلي عام 1904 في مدينة النجف في أسرة معروفة في هذه المدينة المقدسة، اشتهرت بتعاطيها الطب القديم، فضلا عن العلوم الدينية والملكات الأدبية.
غير ان جعفر الخليلي اتجه الى الأدب وفنونه منذ فترة مبكرة من حياته فنظم الشعر وكتب المقالة متأثرا بالأفكار الحديثة والمتحررة في مدينة دينية تقوم على الموروثات القديمة. ويقول في ذكرياته انه كان يقرأ المجلات الحديثة التي كانت تصل الى النجف، كالمقتطف والهلال وغيرهما، وبدأ حياته الصحفية في مجلة (الحيرة) التي أصدرها في النجف عبد المولى الطريحي، وهي مجلة أدبية لم تستمر طويلا، لكنه لم يلبث ان أصدر (الفجر الصادق) ثم (الراعي) حتى أصدر جريدة الهاتف في منتصف الثلاثينيات، فأصبحت من اشهر الصحف الأدبية في العراق، وفي السنوات اللاحقة انتقل بها الى بغداد وأصبحت جريدة يومية ذات ملاحق أدبية قيمة. ويعد جعفر الخليلي من رواد كتابة القصة في العراق، فقد اصدر العديد من المجاميع القصصية التي دأب على كتابتها منذ الثلاثينات، واغلبها يعنى بالواقع الاجتماعي والشعبي منتقدا ما هو سلبي ومتخلف. وفي الهزيع الأخير من حياته تفرغ لكتابة مذكراته وانطباعاته عن الشخصيات التي تعرف عليها واتصل بها في سلسلة كتبه الذائعة باسم (هكذا عرفتهم). كما اصدر العديد من الكتب ما بين تأليف وإعداد مثل (موسوعة العتبات المقدسة) و (على هامش الثورة العراقية) و (كنت معهم في السجن) وسواها من الكتب المهمة.
ويضم كتابه الاثير (هكذا عرفتهم) الذي طبع بسبعة اجزاء احاديث شتى عن شخصيات عديدة سياسيةوعلمية وادبية وفقهية وشعبية كان للخليلي بها صلات وعلاقات.. والتقطنا هنا بعض الطرائف التي ساقها الخليلي في كتابه الكبير باسلوبه الجميل. اصيب الخليلي بداء النقرس واشتد عليه الألم، فقيله له، لا تحزن، فالنقرس داء الملوك، قال: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، أيكون كل حظي من الملوك داءهم؟
حين اشتد الجفاء بين الحكومتين العراقية والايرانية ونفي الاف العراقيين من اصل ايراني الى ايران، خشي جعفر الخليلي ان يبعد الى ايران، فالتجأ مع أسرته في ربيع سنة 1980 الى عمّان وأقام فيها. وزار خلال هذه المدة لبنان وألمانية الغربية وفرنسا.
وذهب الى دبي بالامارات العربية المتحدة لزيارة ابنته ابتسام فتوفي ودفن فيها في 2 شباط 1985. وكتب أكرم زعيتر على اثر وفاة جعفر الخليلي يقول ان لقاء الخليلي متعة للذهن وترويح للنفس وحديثه ينم على حضور البديهة وبراعة النكتة وسعة الاطلاع ولطافة الاستطراء وطرافة الاستشهاد بالشعر.
وقا إن الحديث دار معه حول ضعف الذاكرة ونسيان الاسماء فانشد الخليلي:
فصرت إما عرضت حاجة مهمة اودعتنها الطرسا
فصرت انسى الطرس في راحتي وصرت انسى انني انسى
وقيل له: ان جميع صحفيي العراق يلقبونك (ابو الصحافة العراقية)، فأجاب: (انا ابوها حين يريدون لعنها بقولهم: لعن الله أبا الصحافة!).
يقول الخليلي عن السيد رضا الهندي – وهو رجل دين له شأن في العلم والأدب – حين يزور مكتب الخليلي الصحفي في النجف آنذاك (فصار يجتهد في نقل ما وسع في ذهنه إلى ذهني من روائع الأدب … وارتفعت الكلفة فيما بيننا، وأدرك اني لست من الذين يتخيلون للعظمة صورة خيالية بحتة متى تجردت منها لم يعد للعظمة معنى عندهم … وكان إذا دخل مكتب الجريدة وهو متعطش لشرب الشاي – وكان منهمكاً بالشاي كثيراً-نادى (انا شايان) (انا شايان) … واعترضه أول يوم سماعي لهذه الصيغة الغربية واستعماله كلمة (شايان) بقصد الشاي قال :
إذا حق لذاك الفقيه العجمي أن يستعمل هذا القياس في كلمات ابعد ما تكون معنى عن قياسي أنا ويصيب المرمى بها فكم بالحري أن يحق لي أنا استعمال هذا القياس في المعنى القريب)، ويضيف الخليلي : (ولما سألته عن قصة الفقيه العجمي قال : هو فقيه عجمي لم يحسن غير اللغة العلمية الفصيحة وقد ضايقته بطنه، وهو في السفينة مضايقة شديدة أرغمته على ان يطلب من الملاح الدنو من الساحل فنادى : (أيها الملاح ادن من الساحل فإنني أريد الخلاء … ولكن الملاح لم يفهم شيئاً مما يقول هذا الفقيه فعاد الشيخ ينادي مرة أخرى – أن أدن من الساحل فإنني أريد المرحاض فلم يفهم الملاح شيئاً، وحينذاك سمع طفلاً في السفينة يبكي ويصبح (جوعان)، ويكررها مرات صائحاً : جوعان، جوعان، فالتفت الشيخ الفقيه هنا وقال : الآن فهمت … أن القياس يجب أن يكون على (فعلان)، فيا ملاح أنا زربان، انا خريان، أنا بولان … فضحك الملاح ومن كان في السفينة وفهموا ما يقول الشيخ). ويسوغ السيد رضا هذا الخروج اللغوي الصرفي بقوله : (إذا حق لهذا الشيخ ان يستعمل قياسه المغلوط على (فعلان) وقد استطاع الملاح أن يفهم مقصوده فكم بالأحرى أن تفهم أنت ويفهم الجميع قولي حين أقول أنا (شايان) واقصد بذلك أني شديد العطش لشرب الشاي).
ويروي الخليلي أن شخصية نجفية شعبية يدعى عباس الجبان له الفضل من إنقاذ سفينة ملأى بالناس حينما داهمها قطاع طرق قرويون أيام العثمانيين إذ كان يكثر قطاع الطرق آنذاك فيلتجئ الناس إلى ما يسمى (بالميّسرين) وهم شخصيات من رجال دين أو من وجوه العشائر إذ يكون لهم وجاهة لدى قطاع الطرق فيعزفون عن التسليب وذات مرة أوقف قطاع الطرق سفينة كان فيها ناس كثيرون وعباس الجبان معهم مع رجل دين معمّم فاستنجد الناس برجل الدين المعمّّم ولما امتنع أن يمنع قطاع الطرق من التسليب، فما كان من عباس الجبان ان يقفز بخفة ويختطف عمامة الرجل المعمّم ويلبسها ويضيف الخليلي (ولعباس الجبان قيافة تستلفت النظر فقد كان بديناً ووقراً ومهيباً ولم يكد يخرج اليهم من السفينة حتى انكب اللصوص على يديه يقبلونها ويستميحونه العفو…)، وبعد ذلك طلب اللصوص من عباس الجبان والناس والذين برفقته أن يضيفوهم لاسيما وهم مطلوبون للحسين نذراً وهو خروف (فلم يحصل على من يقرأ له المأتم وقال إن الفرصة أتاحها الله لهم الآن ليتم إيفاء النذر فيها …!! وهنا وجم عباس الجبان … ماذا تراه فاعلاً؟ أنه لم يعرف للآن شيئاً من مقتل الحسين ومن المراثي التي تقرأ … وإذ كان يجيد النغمة ويحسن تقليد مختلف القراءات بصوته الشجي الرخيم فإنه
لا يعرف ولا كلمة مما يقوله الخطباء ورجال المنابر في مناسبة قتل الحسين،…. ولكن كان عليه أن … يستمر في تمثيل دوره إلى النهاية، وإلاّ قُضي عليه وعلى ركاب السفينة). وهكذا اتجه الجبان مع أربعين شخصاً إلى بيوت قطاع الطرق (وهنالك جيء له بجاون ارتقاء بدلاً من المنبر، وافتتح الكلام كما يفتح خطباء المآتم وشرع يقرأ مرثية من ابدع المراثي من حيث الوزن والنغمة والترتيل، أما الكلم فلم يفهم منه شيئاً غير أسماء تمرّ في أثناء النغم والإنشاد فيبكي بسببها السامعون، واكثر هذه الأسماء كانت تدور حول : كربلاء … والحسين، والشمر، ويزيد، والقتيل، والمظلوم، والعطشان، والشهيد)، وهكذا استطاع الجبان أن يبكيهم وان ينقذ الناس الذين برفقته بأسلوب فكاهي تمثيلي..