د. قحطان حميد العنبكي
إذا كان دستور سنة 1925 العراقي،قد نصَّ على أنَّ مجلس النواب يتألف بالانتخاب، وفقاً لقانون انتخاب خاص،وإذا كانت السلطة التنفيذية-في مقدمتها وزارة الداخلية- قد قامت بإجراء الانتخابات لتكوين المجالس النيابية كافة التي عرفها النظام البرلماني في العراق،فان هذا لم يكن إلا عملاً شكلياً وظاهرياً،لإضفاء الطابع الديمقراطي على عملية تكوين مجلس النواب..
يقول توفيق السويدي في مذكراته عن انتخابات المجلس النيابي لسنة 1925 : ((الانتخابات انتهت بانتخاب مرشحين كان يتفق على تعيينهم الملك ووزير الداخلية ومن ورائه المستشار البريطاني ورئيس الوزراء..)).
كانت تدخلات وزارة الداخلية ومؤسساتها الإدارية واضحاً في انتخاب أعضاء مجلس النواب طيلة العهد الملكي منذ بدأت الحياة النيابية في سنة1925،ولأن عمليات التزوير كانت تتم في طول العراق وعرضه ومن قبل أجهزة لا حصر لها،وكانت تتم أحياناً على مشهد من الناس،من دون محاولة للتخفي فيها.وما يؤكد تدخل الحكومة في الانتخابات وتعيينها للنواب وعدم إمكانية أي شخص من الوصول إلى البرلمان لولا جهود الإدارة والحكومة وهذا ما أشار إليه نوري السعيد في جلسة مجلس النواب بتاريخ 5 كانون الثاني1944 حيث قال:((.. ولكن بالنظر إلى قانون الانتخابات الموجود بأيدينا هل بالإمكان - أناشدكم الله- أن يخرج أحد نائباً مهما كانت منزلته في البلاد ومهما كانت خدماته في الدولة ما لم تأت الحكومة وترشحه..))،وكان نوري السعيد بهذا يقول للنواب الذين يعارضون سياسته((بأنكم مدينون لي بنيابتكم ذلك أني أنا الذي وضعت أسماءكم في قائمة الحكومة وأخرجكم المتصرفون نواباً واني أتحدى كل واحد منكم وسواكم أن يفوز بالنيابة ما لم تضع الحكومة اسمه في قائمتها)).
وكانت الوزارة تقوم بأعمال التزوير للانتخابات،وهذا يعود إلى أسلوب الانتخاب ولاسيما بجعله درجتين واتباع نظام القوائم بانتخاب عدد كبيـر من النواب عن كل دائرة انتخابية(3). وكان على المرشحين للانتخابات كسب التأييد لانتخاباتهم ليس عن طريق الجمهور فقط وانما بالتقرب إلى وزير الداخلية.واستمرت تدخلات وزارة الداخلية والحكومة في الانتخابات حتى بعد صدور قانون الانتخابات رقم(11) لسنة 1946.
ونصت المادة السادسة من القانون المذكور بان تعيين المناطق الانتخابية حسب نفوسها وتعيين عدد النواب الذين يجب انتخابهم في كل منها يقع على عاتق وزير الداخلية،الذي يتوجب عليه جلب جداول مصدقة من مديرية النفوس العامة تحتوي على عدد الذكور المسجلين في كل قضاء وناحية ومحلة،وكان على وزير الداخلية ايضاً تقديم هذه الجدأول إلى رئيس مجلس النواب مقرونةً مع آرائه حول كيفية تقسيم المناطق الانتخابية في العراق وعدد نفوسها بحيث يكون مجموع النواب قدر الإمكان بنسبة نائب واحد لكل عشرين ألفاً من الذكور العراقيين المسجلين في العراق لا في الخارج.
كما ان القانون المذكور فضلاً عن من يقوم بالواجبات الانتخابية القضائية والإدارية أوجد لجنةً تفتيشيةً في كل منطقة انتخابية واجبها الإشراف العام على سير الانتخابات في تلك المنطقة الانتخابية،ويتراوح عدد أعضاء هذه اللجنة بين 7-15 عضواً وبحسب عدد السكان في كل منطقة انتخابية،والمهم في هذا الأمر هو كيفية تشكيل هذه اللجنة،حيث يتـم ذلك بإشراف الموظف الإداري المختص التابع لوزارة الداخلية. وهذا يفسر لنا إمكانية وسلطات وزارة الداخلية للتدخل في سير العملية الانتخابية.
على الرغم من التعديلات التي أحدثها القانون رقم(11) لسنة 1946،الإ ان الانتخابات في الريف استمرت على ما كانت عليه سابقاً وبذلك أمكن تأمين فوز عدد غير قليل من المثقفين محسوبين على مناطق ريفية،ولو تركت الحكومة الانتخابات حرة في الريف لفاز رؤساء العشائر بالمقاعد النيابية،وهناك عامل آخر مهم يبرر إشراف الحكومة على الانتخابات وتوجيهها((لان ترك الحرية في المناطق الريفية يؤدي حتماً إلى النزاع المسلح إذ إن حرية الانتخاب وفوز الفائز يشير إلى قوته وضعف خصمه الأمر الذي لا يتقبله الخاسرون بروح رياضية،فإشراف الحكومة يمنع إراقة الدماء ويساعد الخاسر على تلقي الصدمة من دون استفزاز ومن ثمَّ يؤمن استتباب الأمن)).
وكانت الحكومة تضغط بوساطة موظفيها المحليين من اجل فوز مرشحيها مستغلين في ذلك جهل الغالبية العظمى من السكان القراءة والكتابة، وكان الموظفون هم الذين يملؤون الأوراق الانتخابية.وفي ذلك يقول احمد مختار بابان الذي هو أحد رجال ذلك العهد البارزين((إنَّ كل رئيس وزراء يجري انتخابات يتفاهم مع البلاط ويتفق على الأسماء،ان هذه هي طريقة الانتخابات التي كانت سائدة منذ البداية)).ويضيف توفيق السويدي إلى ذلك قوله ((استمرت عملية الانتخابات واستمر الضجيج والتشاحن حولها حتى انتهت بانتخاب مرشحين كان يتفق على تعيينهم الملك ووزير الداخلية..،وكانت قائمة الترشيح تبقى مكتومة حتى يوم الانتخابات إذ تبلغ بالتليفون إلى المتصرفين ويطلب منهم ان يبذلوا جهدهم لإنجاحها..وقد وقع أكثر من مرة أن طُلب من المرشح أن يعطي تعهداً خطيـــاً يحفظ لدى رئيس الوزراء بأنه إذا انتخب نائباً كمرشــح من الحكومـة أن يؤازر الحكومة)).
وفضلاً عن هذه التجاوزات كان الشيوخ والملاكون يحضرون قوائـــم المنتخبين الأولين-الانتخابات غير المباشرة-ويعطون أرقاماً غير صحيحة عن عدد أفراد عشائرهم. وبالطبع فأن أبناء تلك العشائر ومعظمهم من الفلاحين لم يكن بمقدورهم التصويت لغيـر شيوخهم.وكانت الهيئة المشرفة على الانتخابات تسلم أحياناً عدة أوراق لشخص واحد أو تعطي أوراق الانتخاب لأشخاص لم يبلغوا السن القانونية للانتخابات.كما كانت الأوراق في صناديق الاقتراع تتجاوز العدد الحقيقي للمقترعين.ذلك أنّ الشيوخ سعياً منهم لتعظيم أنفسهم وتقوية مكانتهم كانوا يقدمون إحصائيات مبالغ فيها عن عدد أفراد العشائر التابعة لهم.وفي واقع الأمر صارت النيابة واسطة للانتفاع الشخصي،إذ إنها كانت تعني وارداً مضموناً،واكثر من ذلك، جاذبيةً وجاهاً عريضاً،وفرصةً سانحةً لنيل احترام الشعب فضلاً عن الحظوة عند الحكومة.
أجرت وزارة نوري السعيد التاسعة المؤلفة في 21 تشرين الأول1946 الانتخابات التي انتهت منها في آذار 1947،وزعم نوري السعيد قبل البدء في الانتخابات والذي كان يشغل منصب وزير الداخلية وكالةً بأنه تسلّم مهام وزارة الداخلية ليشرف بنفسه على سير الانتخابات بكل نزاهة وحياد وأنه وضع خطةً لسير الانتخابات تقوم على أسس أهمها منع التزوير ومنع كل حركة تهديد أو اعتداء فيها،وأن الحكومة لن تستعمل نفوذها الإداري لتفضيل أحد على آخر.
لم تخلو حقبة الانتخابات من حملات واسعة لوزارة الداخلية لاعتقال بعض العناصر المعارضة لسياسة نوري السعيد وإغلاق الصحف المعارضة الأمر الذي أدى إلى المصادمات بين رجال الشرطة والمواطنين أدت إلى جرح العديد من المواطنين واعتقال آخرين.
وجهت الأحزاب السياسية انتقادات لاذعة إلى الانتخابات المذكورة واتهمت السلطات الإدارية -مؤسسات وزارة الداخلية- بالتدخل في الانتخابات ووقوفها بجانب مرشحين ضد آخرين،مستخدمةً وسائل التزوير ضد مرشحي بعض الأحزاب للحيلولة من دون نجاح أي منهم،كما لجأت الجهات الإدارية إلى إقناع بعض المرشحين بالانسحاب لصالح مرشحين آخرين تريد السلطات فوزهم،وفي سامراء اعتقل رؤساء المدينة لأنهم يؤيدون قائمة فائق السامرائي،وتعرضوا إلى التهديد من متصرف بغداد مظهر أحمد.
دافعت وزارة الداخلية عن الاتهامات التي أسندت إلى دوائرها وموظفيها بالتدخل بالانتخابات((وان النواب المنتخبين يتمتعون بثقة الناخبين،ولا دخل لكل ما زعم في انتخابهم..)) لكن ذلك لم يقنع المواطنين ولاسيّما الأحزاب السياسية المعارضة التي استمرت باتهام الأجهزة الإدارية بالتدخل الفاضح في العملية الانتخابية لصالح مرشحي الحكومة.وكان نوري السعيد قد أعدَّ خطةً محكمةً لاختيار مؤيديه،وقد تمثلت في احتفاظه بمنصب وزير الداخلية فضلاً عن رئاسته لمجلس الوزراء،كيما يستطيع أن يوجه الانتخابات.وهو الذي صرح قبيل البدء فيها بقوله((اني رسمت خطة لإجراء الانتخابات واني كوزير للداخلية سأكون مسؤولاً عن إجراء الانتخابات))، كما تمثلت في امتناعه عن فتح فروع الأحزاب،لكي يشل نشاطها السياسي والانتخابي في جميع أنحاء العراق. وما أن انتهت الانتخابات الثانوية في 10اذار1947 حتى توضح ما خطط له السعيد من تزوير وتدخل،واستطاع ان ينجح خطته في أبعاد نواب الشعب المعارضين من ممثلي الأحزاب.
عن رسالة (وزارة الداخلية العراقية 1939-1958
دراسة تاريخية)