صلاح جياد .. الرسوخ التشكيلي  ثياب الحداثة

صلاح جياد .. الرسوخ التشكيلي ثياب الحداثة

فاروق سلوم
رؤيتان لاتخطيء اعماله ؛ رؤية الناقد.. وبصيرة الباحث ، اذ من الخطأ امام تجربته الاّ ويضع المرء ذائقته وذاكرته كمعايير للبحث والتذوق والقراءة..
وسيكون السؤال حقيقيا وصادقا دائما امام تلك المطاولة العميقة والمتواصله عند الرسام صلاح جياد 1947- في التشكيل .. والتنوع والسكون..

السؤال هنا عن غياب القراءات المتعدده و المطلوبة لتجربته الفنيه .. وهو ينكب على هذه التجربه بقدر من الأنهماك والعزلة !! فقد اختار دأبه الخالص ، وهوبذلك يشبه مميزاته الشخصية في الهدوء والصمت والتأمل والتركيز.. مؤثرا امتلاك قدرات التصوير ، من مدرسة بغداد الى الكلاسيكية الجديدة حتى حدود الحداثة اليوم .

ثراؤه انه رافديني وواسطي ..

يؤاخي فائق حسن ، لو اتيحت لنا فرص التعرف على كلاسيكياته حقا ، ان في معارض او في اعمال متحفية .. وهو مالم يحصل بسبب هجرته المبكرة ، فقد كانت كل فسح الحياة تضيق في حدتها النمطية وضغوطها واخطارها امام موقفه الفكري .. وهو تشكيلي لايخطيء النظر الحي الى الحياة ومتطلباتها مثلما لايخطيء التصوير يوم كان منهمكا بحرفية عالية في دراسة الطبيعة ومخلوقاتها .. منظورها وتفاصيلها الدقيقة باسلوب منهجي مدرب وعميق وهو يؤطر الحقيقة كنص فنية في لوحاته .
تقنياته شفافة وعميقة وهما ميزتان لفنان حاد البصر يسمح للبيئة التي يشتغل عليها ان تتحول وتضفي طبيعتها في تدرجها الحاصل .. لتؤكد حضورها اللوني والبصري . ولذلك كانت معظم الأعمال التي انجزها خلال عقدين مهمين .. منذ اواخر الستينات حتى اواخر السبعينات ، اعمالا منهجية متكاملة ، دراسية وتشريحية ، تسمّيه كرسام كلاسيكي من الطراز الأول .. يوم كانت الدراسة همّه ومبتغاه في مواءماتها مع متطلبات التجربة الشخصية .

كانت من حول الرسام صلاح جياد يومذاك مدارس واتجاهات يثيرها رواد ومجددون .. وحداثيون يرسمون ملامح التغيير التشكيلي في بنية العمليات الثقافية العراقية عموما . لم يكن صلاح جياد فنان علاقات عامة .. صمته ليس صنيع اكتفاء بل هو نتاج رسوخ وعي .. وتكريس خبرة . ومع انه انهمك في العمل الفني في الصحافة لوقت طويل ، لكنه كان حاضرا بكل خواصه الفنية في الحركة التشكيلية . الرهان يومذاك كان على جدل الأتجاهات ، شأنها شأن كل جدليات بلاد الرافدين السياسيه والفكرية ، فيما كان صلاح جياد يشتغل على منظومته الخاصة: رؤى .. وقراءات .. وتصميم .. وخبرة عميقة.

باريس ملاذا وباريس تجربة .. وباريس احتمالا لكل ضياع ..
هكذا هي هجرة صلاح جياد يوم واجه المدينة التي اختصرت تواريخ فنية وثقافية وحضارية كونية .. كان عام 1976 عام الهجرات والمنافي للكثير من فناني ومثقفي جيله - واقترنت دائما هجرته هو والفنان فيصل لعيبي بغياب جوهري لتنوع مهم من نتاج الحركة التشكيلية العراقية وثرائها ، بل اقول ان غيابهما عن الحركة التشكيلية .. والصحفية قد ولد فراغا كبيرا .. عند الجيل الذي كان يجاورهما فنيا و منهجيا .. مثلما كان عند اتجاه عريض في الحركة التشكيلية العراقية
ومع انهما لم يكونا ليشكلا اتجاها محددا حينها بقدر مايعكسا قدرات شخصية لرسامين مؤثرين في التشكيل العراقي .. متنوعين ..مختلفين .. ومتناغمين معا ..
كانت باريس منطقة الوضوح في الفرز بين التجارب والخبرات ، وهنا كانت امام صلاح جياد التجارب مفتوحة مثلما هي الأسهامات في المعارض والبينالات والمسابقات .. والأنشطة الفردية لفنان حر ومتنوع . كانت متطلبات الحياة في باريس اوروما وغيرهما تفرض يومذاك على الفنانين شروطهما الأقتصادية .. والنفسية ، لكن ذلك لم يضع تجربته تحت اي اختبار حيث احتفظ لنفسه بتلك المسافة بين الفنتازيا في حلم التشكيل وتحولاته .. وبين المسؤولية والوضوح في متطلبات الواقع . ومع ان الجمع بين هذين الخيارين يشكل امرا صعبا لاي فنان يعيش في باريس .. لكنه اطلق تجاربه المتنوعة بداب شديد .

اللوحة الحديثة عند صلاح جياد هي جغرافيا لونية . واسلوبية تختبر فيها ادوات التعبير..
كانت لوحاته منجزة بعمق مثل حفور تصويريه ..او رليفات لونية بارزة جراء البحث .. وألأتقان .. والحذر.
لقد عكست لوحاتته الحديثة خلاصات فكرته عن الأسلوب .. والتقنية والفكر.

ربما لا يبدو متعجلا لنزع شراكته مع الكلاسيك كتجربة عميقة . لكنه بهذه الطريقة يجتاز خطر التشكيلي المغامر بل اجرأ على القول انه غير مكترث بالصورة الخارجية عند الآخرين بقدر ماتهمه صورة منجزه وتقيمها .. ومكانتها عنده . ربما يحق لنا القول بأن روح المحافظة احيانا عند صلاح جياد هي نتاج نشأته ودراسته وطبيعته الشخصية والفنية .. لكننا نمتلك الحق ايضا في النظر الى خواص لوحته الحديثة على انها اختصار لفلسفته وموقفه الفنيين .. بل انها نتاج طبيعته البحثية المعمقة الراسخة .
المغامرة الفنية عند صلاح جياد محسوبة ومكرسة فهي ليست ارتجالات .. او عبث يمارس بأسماء شتى بل انه خيارات .. وتطويرات لتجارب .. ومشاريع هي نتاج ثقافة .. ونتاج رؤية .
مشروع صلاح جياد هو الرسوخ والعمق والأيمان التاريخي بالجدل الذي يغيّر.. ومن هنا جاءت اعماله التشكيلية الحديثة وهي تصف ذلك الموقف باسلوب الباحث ..المدقق.. والحتمي..
ويضعناالرسام صلاح جياد بأعماله الحديثة امام تجربة ثرية .. وتكريس حي ..وتلك خاصية الفنانــين الكبار..