صلاح جياد ظاهرة نادرة

صلاح جياد ظاهرة نادرة

فيصل لعيبي صاحي
الكتابة عن قامة فذة ومبدع نادرمثل الفنان صلاح جياد المسعودي، ليست بالمهمة السهلة، خاصة عندما تكون من قبل شخص رافق هذه الشخصية منذ البدايات الأولى، فهي ستتضمن حتماً مواقف غير حيادية وملاحظات فيها الكثير من التصورات الشخصية والمشاعر الذاتية. ولهذا فأني أستميح القاريء والمتابع لنتاجات الفنان الكبير صلاح جياد، العذر فيما لو إبتعدتُ أكثر من اللازم عن الموضوعية أوالتجرد في هذه المادة التي بين يديه.

تعرفت على صلاح إبن الشيخ جياد كروز المسعودي عام 1954 ، أي منذ 65 عاماً خَلَتْ، عندما إنتقلنا من محلة بريهه في العشارالى محلة الفيصلية – هكذا كان اسمها قبل ثورة 14 تمورز المجيدة عام 1958. وإلتقينا منذ الصف الثاني إبتدائي، لكنه كان في شعبة ( أ ) وانا في شعبة ( ب ). حيث كانت المدارس وقتها تقسم الصفوف حسب الحروف الأبجدية وعدد طلبة نفس المرحلة . وكان معنا أيضاً طلاّب عُرِفو بميلهم للرسم والتطلعات الإبداعية المخالفة لتطلعات معظم التلاميذ الذين في سنهم والذين عادة ما تجذبهم كرة القدم او صيد السمك و الطيور أوالألعاب الرياضية و الشعبية الأخرى.
كان صلاح جياد ولواء عبد الامير المحاويلي وعلاء الدين عبد السبحان وكاظم الحجاج وعبد الحسن فيصل وجاسم العايف وآخرون، يهتمون بالفن والأدب وقراءة الكتب والروايات ومشاهدة الأفلام وكل ما يتعلق بالمخيلة والإبداع. وكانت محلة الجمهورية ( الفيصلية سابقاً ) ولحسن الحظ تمتلك سينمتها الخاصة وهي سينما صيفية، ولما كنا لا نملك عموماً نقوداً تكفي لشراء تذاكر السينما بشكل مستمر، فقد تكفل صلاح جياد بتزويدنا ببطاقات خروج مزوّرة للدخول والخروج خاصة بعد الفرصة التي تقع بين الدعايات وبدء الفيلم. وقد قضينا اوقاتاً ممتعة وشاهدنا أفلاماً جميلة بفضل هذه المهارة التي يملكها صلاح.
في البصرة وأظن في كل ألوية العراق (كانت المحافظة تسمى لواء في العهد الملكي) يوجد تقليد رائع، هو الإحتفال بالنشاط المدرسي سنوياً، حيث يساهم كل طلبة اللواء ومدارسه في هذا المهرجان الثقافي الرائع. مسرح غناء وموسيقى، ورسم ونحت وحرف متنوعة شعبية وشعر وخطابة وغيرها. كنّا نساهم كطلبة نمارس الرسم وبتشجيع كبير من معلمينا في هذا الإحتفال السنوي الكبير المتعدد الوجوه. وكان صلاح في المركز منه ومن المبرزين فيه. وقد عرفت هذه النشاطات العديد من الفنانين، كان أبرزهم الفنان الرائع هادي الصكر ،له العمر المديد والصحة والعافية، الذي تم إعتقاله بعد ثورة تموز وأودع السجن بتهمة الشيوعية، فكان يرسل اعماله من هناك وقد تمحورت حول مواضيع السجون والمعتقلات والمواجهات بين عوائل السجناء وغيرها من المواضيع الإجتماعية المؤثرة - اظنه والفنان الكبير محمود صبري كانا من أبرز فناني تلك المواضيع آنذاك - وكذلك الفنان الرائع الراحل حسن شويل له الذكر العطر، الذي تبهرني مواضيعه عن الطفولة والعابها والمواضيع الشعبية التي كان من أفضل من عبر عنها بمهارة أكاديمية ملفتة . كنت أقف مدهوشاً ومتأملاً أعمالهم العجيبة، وكان أساتذتنا يعرضون معنا أعمالهم أيضاً، فتبدأ النقاشات والجدالات فيما بيننا حول أعمالهم واعمالنا فهم من خريجي معهد الفنون الجميلة ببغداد ومن تلاميذ العملاقين فائق وجواد وكنا ننظر لهم ولا نزال نظرة الإحترام والتقدير والمحبة، لأنهم كانوا مثال الفنان والمربي والأستاذ. أذكر منهم الراحلون عبد الباقي النائب ، عبد الجبار العطية، إبراهيم الكمالي المدهش، محمد راضي عبد الله الفنان المثقف ، فرج سمعان، أدهم إبراهيم، موريس حداد ونجاة حداد وغيرهم لهم الذكر العطر، ومن الأحياء الأساتذة فاروق حسن، سلمان البصري، عجيل مزهر، محمد عبد وطه الشاوي وغيرهم لهم العمر الطويل والصحة والعافية.
كان طرزان وفلاش كوردن وسوبرمان وشمشون الجيار هم ابطال رسوماتنا وقتها. أذكر عندما كنا في محلة بريهه قبل إنتقالنا الى محلة الفيصلية عام 1953، أني شاهدت في بيت صديقي الكوردي أليف حمه صورة مرسومة من قبل شقيقه الأكبر للسوبرمان وهو طائر في السماء وكذلك صورة شمشون الجبار وهو يشق فم الأسد بعد ان ركب فوق ظهره. وقد خرجت من بيت صديق الطفولة هذا مذهولاً ومصمماً على ان أتخذ من الرسم مهنتي الأساسية. خاصة وان اخي علي الذي يكبرني بأربعة سنوات كان يرسم رسوماً جميلة في دفتر الرسم الذي كان أستاذه الفنان الرائد الراحل عبد الهادي البنك يكلفه بها.
بعد ثورة تموز، ظهرت افلام هرقل وماشستي وقصص اليونان والرومان وكنا وقتها في محلة الجمهورية، وقد إستقر رأي معظمنا على إصدار مجلة اطفال مرسومة من الغلاف الأول للغلاف الأخير، فبدأنا في التحضير لها وكانت ترسم على دفتر كان مخصصاً على ما اتذكر لرسوم خرائط الجغرافية وهي اوراق كبيرة جميلة مؤطرة وبغلاف من الورق السميك، كان من نصيب العزيز صلاح شخصية هرقل الجبار، وأزعم انه اول فنان في العالم تناول هذه الشخصية في مجلات رسوم الأطفال. وكان العزيز كاظم الحجاج مؤلف ورسام حكاية الكابتن كوك. الذي حولها بعد ذلك الى كتيب مدهش خاص، وفي تلك الفترة بالذات ظهرت لي رسوم مطبوعة في المجلة الشهرية لمدرسة العزّة الإبتدائية للبنات في محلة الجمهورية ، بتشجيع من مديرة المدرسة الجليلة . وكان ذلك حدث مهم بالنسبة لي. وأثناء هذه الفترة، إشتهرت رسومنا على النشرات الجدارية لمدرسة العزة الأبتدائية وكان الطلبة يتجمعون حولها وقد بدأنا صلاح وانا نتدرج في هذه المهنة ، فبدأت مرحلة جديدة بعد الثورة مباشرة، فتحولنا من رسم المناظر والسفن وإن لم ننقطع عنها تماماً الى المواضيع ذات العلاقة بحياة الناس وخاصة الفقراء منهم وكذلك رسم بعض المشاهد الثورية التي نستوحيها من اللوحات المرسومة عن الثورات الروسية والفرنسية والأمريكية، التي نراها في المجلات ، ثم أصبح الطلب على رسم صورة الزعيم عبد الكريم قاسم على اشده فكل بيت وكل مقهى ومحل يرغب في تعليق صورة له، بعد ان تكالب الجميع على الثورة وتمت محاولة إغتياله. كنا صلاح وانا في شغل شاغل فالصورة بربع دينار – ونحن نكملها سريعاً لأننا قد حفظنا صورة الزعيم على ظهر قلبينا. وكان مثالنا في ذلك الفنان الكبير محمد عبد الذي رسم صورة رائعة للزعيم وبتقنية ومهارة فائقة تجسد مقدرته الكبيرة و علّقها في محل الجواهري لبيع الزجاج عند مدخل» سوق المغايز « من جهة ساحة ام البروم وهي صور أسود وأبيض بالحجم الطبيعي وبمادة الفحم ولا تزال عالقة بذاكرتي.
في هذه الأثناء جاءنا الفنان الرائع إبراهيم الكمالي وكنا قد إنتقلنا الى المتوسطة وقتها، فأذهلنا بالوانه ومواضيعه ورسوم الشخصيات ( البورتريت ) التي لا مثيل لها ، إذا إستثنينا الفنان الكبير فائق حسن. كان الأستاذ إبراهيم الكمالي شعلة من الحماس والإبداع وكل ما يلمسه يتحول الى فن وهو يملك كف طرية وعجيبة، إضافة الى صوته الصدّاح عندما يبدأ بترديد أغاني عبد الوهاب. لقد سحرنا وأعطانا كل ما يملك من موهبة وحماس ومحبة.
الشيء الجميل في علاقتنا صلاح وانا وبقية الأصدقاء هو التقدير والإحترام المتبادل والإعتراف ببعضنا كموهوبين في مادة الرسم او الأدب او المسرح. وصلاح كما عهدته كان منكباً بكل قواه ومهتما بكل جوارحه بفن الرسم. وكان الفن الروسي ما قبل ثورة أوكتوبر وخاصة الفنان الرائع ( إليا ريبن ) أهم مصادر إهتمامنا وكان لصلاح ولع خاص بـ ( ميخائيل فروبل ) الفنان الرمزي الروسي الشهير صاحب لوحة ( ملاك الشر الجالس ) التي لعبت دوراً حاسماً في تطور تقنيمه التي عُرِفَ بها.
يوم من الأيام جاءني صلاح يحمل صورته الشخصية مرسومة بالزيت وكان معه الصديق العزيز عبد الأمير دعير الوائلي. بهرتني اللوحة فقلت له : عاشت يد أستاذنا إبراهيم الكمالي على هذه اللوحة، ظاناً انها من عمله، فضحك صلاح وعبد الأمير معاً ، ورد عليَّ عبد الأمير بالقول :» إنها من عمل صلاح، وقد رسمها من خلال رؤية وجهه في المرآة «. وقتها لم انتبه لفكرة الرسم من خلال المرآة، دهشت لقوة ومهارة التنفيذ والشبه والإنشاء. وقد رسم صلاح نفسه بملابس فرسان القرن الثامن عشر الفرنسيين. من تلك اللحظة أدركت حجم وثقل و مسؤولية ان تكون فناناً.
بدأت موهبة صلاح تثير الإنتباه ويحسب لها حساب ويعامل كفنان رغم صغر سنه. أتذكر في احد المعارض السنوية لمديرية التربية في البصرة، قدم صلاح مجموعة من الأعمال على طريقة الفنان الكبير حافظ الدروبي ، مستمداً من أستاذنا إبراهيم الكمالي طريقته في التلوين وتقسيم مساحات اللوحة على شكل مثلثات ومربعات عرف بها بعد ان إنتمى لجماعة الإنطباعيين التي أسسها الفنان الراحل حافظ الدروبي عام 1953. وقد نقلت هذه الجماعة معرضها من بغداد الى البصرة عام 1954. فشاهدنا لأول مرة لوحات عراقية أصلية لفنانين من بغداد لم نسمع بهم من قبل . دار نقاش بين صلاح والأساتذة والجمهور. كنت أستمع بكل جوارحي لكل كلمة يقولها أساتذتنا الكبار عن اعمال صديقي صلاح. وقتها كان صلاح يتقاسم الجوائز بينه وبين الفنانين هادي الصكر وحسن شويل.
في هذه المرحلة ، مر علينا اكثر من أستاذ ، أذكر منهم الأستاذ النبيل فاروق حسن له العمر الطويل، الذي جلب معه تقاليد مدرسة جواد سليم وتقنية فائق حسن ، فعزز من قدرتنا في التعامل مع اللوحة بمشهدية لا تقلد الواقع ولا تنفيه، فعرفنا كيف نقسم اللوحة ونوزّع الكتل والأشخاص والألوان وحتى المواضيع التي كان يغلب عليها رسم أصحاب المهن والمقاهي ومناظر المدينة. وقد إستفدت شخصياً من هذا الفنان وتعلّمت منه كيفية معالجة المواضيع الشعبية وتحوير الشخوص والتعامل مع الحكايات التراثية. كما لابد من الإشارة الى الفنان الهاديء والمثقف الرائع الراحل الأستاذ محمد راضي عبد الله، الذي كان يعلمنا الرسم وفي نفس الوقت يلقي علينا محاضرات في الفن وتاريخ الفن وخاصة حول اهمية جواد سليم وفائق حسن ودورهما في ترسيخ الفن التشكيلي العراقي، وقد حبب لنا رسوم الشناشيل التي يعشقها ودفعنا الى القراءة والبحث الجاد ومطالعة الكتب الفنية والمجلات التي كانت تصدر وقتها ومن أبرزها مجلة ( الأستوديو) البريطانية ، إذ كنا نشتريها أو نتصفحها في مكتبة فرجو الكائنة في شارع الوطني قرب سينما الوطني الشتوية. أما الأستاذ منصور الحلو مدرس الرسم الذي درّسنا أيضاً مدة من الزمن، فقد علمنا إستخدام الألوان الزيتية والخروج للطبيعة، فكنا نخرج صلاح وانا الى البساتين فنرسم ما نراه مناسباً ولكن السفن القادمة من الهند والخليج الراسية عند شط العرب كانت اكثر ما يلفت نظرنا، فكنا نجلس الساعات نحاول رسمها والتعرف على اشكالها الغريبة.
برز صلاح كرسام وملون لا يضاهى خاصة بالألوان المائية وقد رسم لوحات مثيرة ومدهشة ، كانت من حصة اصحاب المجاميع الفنية في البصرة، ولا ادري أين حل بها الدهرالان، وقد تميزت هذه الأعمال بمهارة عالية وحيوية لونية ودقة متناهية في عكس الموضوع.
في عام الإنقلاب الدموي الفاشي الذي أسقط الجمهورية وأرسى النظام الدكتاتوري القمعي في 8 شباط عام 1963، كنا قد تخرجنا من المتوسطة صلاح وانا. فقررنا الذهاب الى معهد الفنون الجميلة. اخذنا القطار من محطة المعقل صاعدين نحو بغداد، وقد كلفنا والد صلاح وقتها بضرورة المرورعلى أقرباء له في مدينة الحلة. فنزلنا هناك في فندق مقابل سينما الحلة وقتها وتجولنا في المدينة وجلسنا في مقهاه الشهير الذي يقع عند الجسر قرب نهر الحلة نفسه. وبعد ان أتم صلاح مهمته مع أقربائه توجهنا نحو بغداد ام الدنيا. فوصلناها فجراً وذهبنا مباشرة الى معهد الفنون، لكن المعهد في تلك السنة كان يقبل الطلبة القادمين من الألوية بدون قسم داخلي فلم يستطع الأهل أن يوفروا لنا مالاً يساعدنا على العيش كل هذه الفترة ، فعدنا نجر اذيال الخيبة والضيق يملأ جوانحنا، لكننا صممنا على ان نخوض التجربة في العام الذي يليه.
في ثانوية البصرة التي تقع في منطقة الصبخة في البصرة القديمة مارسنا حريتنا الكاملة في الرسم ونشطنا بشكل ملفت وكان أستاذنا الطيب الراحل عبد الباقي النائب يبذخ علينا بالمواد ويطالبنا بالإستمرار ومثله كان مدير الثانوية ايضاً الأستاذ محمد الناهي على ما اتذكر، الذي كان يقابلنا بإبتسامته العذبة، إذ يعولان علينا ان نخطف الجائزة الأولى في معرض المحافظة العام. وهذا ما كان لثانويتنا. لكننا كنا قد اهملنا دروسنا الأخرى، وسقطنا في أغلب الدروس، بسبب من نيتنا العودة الى معهد الفنون الجميلة.، ولما فتح باب القبول في المعهد مجدداً كنا من اوائل من تقدم وكان معنا هذه المرّة الفنان الصديق العزيز الفنان المبدع الراحل حسن شويِّل ، كانت إمكانياتنا نحن الثلاث لا غبار عليها وقد ادهشت لجنة الإختبار التي تكونت من الكبير فائق حسن والفنان إسماعيل الشيخلي والفنانة نزيهة سليم وعضو من الإدارة، وقد أنجزنا الأمتحان بسرعة وخرجنا نحن الثلاثة قبل سائر الطلبة .
إنتقلنا مع المعهد الى مرحلة مختلفة وجديدة علينا، لأننا عندما وصلنا بغداد لم نكن نعرف احداً ولهذا إستاجرنا صلاح وانا غرفةً في فندقٍ رائعٍ وسط منطقة الميدان وبالذات في الصابونجية، يدعى ( فندق دجلة الحديث ) لصاحبه الطيّب الذكر الرائع أبو زهير. كان الفندق يحمل عطر بقايا أيام الحرب العالمية الثانية وأزدهاره عندما كان مكاناً للضباط والجنود البريطانيين وأغنياء الحرب من العراقيين الذين يبحثون عن المتعة واللهو والطرب، حيث تعلو جدرانه صور ممثلات هوليود الشهيرات باحجام هائلة وعلى رأسهن مارلين ديتريش و جريتا كاربو وغيرهن. وقد رعانا صاحب الفندق وخصص لنا غرفة خاصة وسريرين في السطح عندما علم بأننا فنانين وندرس في معهد الفنون الجميلة ومن مدينة البصرة التي يحبها. إذ العادة هي اما ان تستأجر سرير في السطح فقط للنوم ليلاً أو غرفة من غرف الفندق بدون أسرّة على السطح . وكان زبائن الفندق بعد ان هبطت درجة الفندق برحيل الإنكليز وإنتهاء الحرب. وبسبب طبيعة المنطقة، حيث توجد اغلب بيوت الدعارة فيها، هم من الجنود العائدين بعطل أسبوعية او بعض كادحي منطقة الميدان الذين تسكن عوائلهم في مدن اخرى والمتقاعدين أوالعزّاب، الذين كانت لهم ذكريات جميلة في هذا المكان.
كنا نرسم يومياً ولا نتوقف وقد إتخذنا مقهى أم كلثوم الواقع تحت جامع الأحمدي عند فم سوق الهرج الذي يقابل طوب أبو خزامة مقراً لنا. حيث كان النادل الرائع فاضل ( أبو العباس ) صديق الفنان الراحل منقذ الشريدة الأثير، يتحفنا بأجمل اغاني ام كلثوم من تسجيلاته الخاصة مثل : « الأوله في الغرام والأمل وأهل الهوى وهلت ليالي القمر» وغيرها من درر الغناء العربي الأصيل لكوكب الشرق ام كلثوم. وقد سمي المقهى مجازاً بأسم أم كلثوم بسبب ذلك وهو ليس المقهى الذي أسسه الراحل عبد السميع الموصلي في بداية شارع الرشيد و الذي يقع بعد مطعم الجمهورية الشهير مباشرة .
كان مقهى أبو العباس يختلف تماماً وهو الأقدم، عن مقهى عبد السميع بنوع زبائنه وشخوصه، وكان مفتوح لزبائن الحي ويمكنك رؤية الجميع فيه. القوادين وطلاب الجنس في المنطقة والشواذ وحتى المجانين والمشردين ولا نعدم دخول بنت هوى لتطلب من ( أبو العباس ) قدح ماء أو زجاجة عصير باردة بعد أن قامت بواجبها أو وهي متاهبة للذهاب لواجب جديد ، و كنّا نرسم وجوه الزبائن وأحياناً نتعرض لبعض الإحراجات بسبب عدم رغبة الجالسين في ان يتحولوا الى نماذج للرسم حتى دون علمهم. وأعتقد ان كمية الورق الذي إستهلكناها خلال الفترة الأولى من هذه الفترة وقبل ان ننتقل الى القسم الداخلي في الأعظمية مقابل المقبرة الملكية، تكفي لو مدت الى جانب بعضها لربطت ساحة الميدان بالباب الشرقي. لكن المؤسف في الأمر ان رسومي، انا على الأقل، قد أُطْعِمَتْ للنار في التنّور بعد خروجي من العراق عام 1974 بسبب الوضع الذي وجد العراقيون انفسهم فيه فخاف الأهل من عواقب التركة الثقيلة التي كانت تجثم فوق صدورهم. فهل يحتفظ اهل صلاح بما خطته اصابعه الذهبية خلال تلك الفترة الوجيزة؟
بدأ الدوام الرسمي في المعهد في شهر أيلول من عام 1964، وكان صلاح قد شمّر عن ساعديه واخذ يبحث بعمق في اللون والخط والتكوين التصويري ويقدم أعمالاً ملفتة حتى للأساتذة، واحيانا، تجد أستاذاً او طلاباً من الصفوف الأخيرة في المعهد يقفون خلفه ليشاهدوا ما تصنعه يداه ، كنا صلاح وحسن وكاتب هذه المادة نتناول العشاء في القسم الداخلي وبعدها نعود الى المعهد لنكمل العمل خلال الدوام المسائي وهو خاص بطلبة القسم المسائي فقط، لكن الأساتذة سمحوا لنا بذلك مساعدة في تحقيق رغباتنا وتقديراً لحماستنا آنذاك ، فتعرفنا على العديد من الفنانين الذين أصبحوا علامات فارقة في الحركة التشكيلية العراقية ، أمثال الفنان نداء كاظم ومكي حسين وغيرهما.
أثناء ذلك تعرفنا على الفنان الرائع بسّام فرج وقد إشتغلت انا وقتها رساماً في الصحافة ولا اذكر أسم الصحيفة هل كان إسمها ( الثورة ) او أسم آخر وذلك عام 1966، في فترة حكم الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف أي قبل التخرج من المعهد بسنة وقد لعب الفنان الصديق الراحل إبراهيم زاير دوراً مهماً في إيجاد هذه الوظيفة. فعملت مع كل من الأصدقاء الرائعين الشاعر الراحل مؤيد الراوي الذي كان سكرتيراً لتحرير الصحيفة و الكاتب سهيل سامي نادر و الشاعرعمران القيسي والفنان عامر العبيدي و الراحل القاص والكاتب المسرحي عارف علوان. فكانت تجربة رائعة للعمل مع هذه الكوكبة من المبدعين، خاصة والفترة كانت جيفارية بإمتياز. ثم أنتقلت الى المؤسسة العامة للصحافة للعمل كرسام في المجلة التي تنوي المؤسسة إصدارها وهي مجلة ألف باء وكان معي هذه المرة الفنان الرائع بسّام فرج ونظراً لحاجة المجلة الى اكثر من رسام فقد فاتحت صلاح بالأمر فوافق وأنضم الى قسمها الفني ، وقبل مجيئ البعث بأشهر واظنه شهر آيار عام 1968 تم إصدار العدد الأول من مجلة ألف باء التي شكلنا صلاح جياد، بسام فرج وانا القسم الفني فيها وهي مجلة إسبوعية عامة تصدرها المؤسسة العامة للصحافة وقتها، وأصبحت رسوم صلاح في تناول كل قراء المجلة من العراقيين وتعرف العراقيون على فنان من طراز خاص ومدهش جداً. كان صلاح في الوجوه التي يرسمها والأغلفة الرائعة التي ينفذها يضاهي أفضل المجلات الأجنبية من حيث المستوى الفني والإحترافي . وفي هذه المرحلة تفتحت امامنا أبواب جديدة وتعرفنا على وجوه مختلفة وشخصيات مهمة واخرى تافهة وعرفنا عمق الحياة السياسية والساسة ودهاليز الكواليس الخلفية وما يتم وراءها ..
لم يمر شهران حتى فوجيء العراقيون بإنقلاب سميَ أبيض وقتها ولكنه كان يخفى ظلاماً دامساً في طيّاته للعراقيين، سيتعرفون عليه تدريجياً. لم نكن نعرف المنفذين وقتها وكانت الحيرة تعلو معظم كادر المجلة، لكننا نعرف ان أكثرية العاملين في المجلة هم بعثيون أو قوميون من الذين يمثلون الجناح الناصري وقتها. لكن وجود احمد حسن البكر على قمة الهرم وهو الذي أعلن إعتزاله السياسة سابقاً، أعطانا إشارة قويّة لمن يقف وراء هذا الإنقلاب.
في أحد اماسي الدوام في المجلة وكنا جالسين في غرفة رئيس التحرير الذي لم يتم تعيينه حتى تلك اللحظة وبالصدفة كان الصحفي والكاتب ماجد السامرائي يجلس على مكتب رئيس التحرير الفارغ ، طلّ علينا الصحفي الراحل زيد الفلاحي وهو يلهث بسبب صعوده السلم قادما من الخارج وقبل ان يجلس وياخذ نفساً أشار عليه أحدنا لا اتذكره الان بان يهنيء الزميل ماجد لأنه اصبح رئيس تحرير المجلة، وهو مقلب أراده هذا الزميل للراحل زيد، فما كان من زيد إلا وقام ليصافح ماجد قائلاً :» مبروك خويه ماجد لكن موتنيكون عراضنه مثل أيام 63 «، فما كان من الجمع بما فيهم ماجد الاّ الإنفجار ضحكاً . كانت المجلة في فترة حكم الراحل عبد الرحمن عارف تتمتع نسبياً بأجواء شبه ليبرالية وكانت العلاقات بين العاملين فيها وديّة عموماً . لكن بعد مجيىء الإنقلابيين تغير كل شيء وصار الحذرهوالمهيمن على اجواء العمل مع الأسف وفقدنا العفوية في المزاح والميانات الأخوية فيما بيننا.
كانت غرفة القسم الفني أجمل غرفة في المؤسسة. بسبب الرسوم التي نرسمها ونعلقها على جدرانها. فكان الزوار لا يتوقفون إلا عندها، وقتها أصدر محافظ بغداد خير الله طلفاح ، خال صدام حسين أي « خال الحزب وعم الحكومة « حسب تعبير الراحل الكبير شمران الياسري ( أبو كاطع ) ، مرسوماً قرقوشياً بقص شعر الطلبة وطلي سيقان الفتيات اللواتي يرتدين الميني جوب بالصبغ ، فما كان من بسّام الرائع إلا أن يرسم كاريكاتيراً لشرطي ينظر شزراً لساق فتاة وبيده علبة الأصباغ مهيئاً نفسه للهجوم عليها فصار حديث الجميع وكان هذا الكاريكاتير اكبر لطمة واوضح سخرية من قرارات الدولة الجديدة وقتها.
لا بد من التوقف هنا بصدد ما جرى في معهد الفنون الجميلة والأكاديمية خلال وجود صلاح وأمثاله، من الفنانين المتمكنين من فن الرسم أمثال الفنانين نعمان هادي، وليد شيت طه وحسن شويل وغيرهم، حيث شكلوا ظاهرة تقابل ظاهرة الدعوة للأخذ بمفاهيم التيارات التي سادت في الفن الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى – وهي مفاهيم أصبحت قديمة أصلاً قياساً لستينيات القرن الماضي الذي كنا نعيشها، لأنها تمثل التجربة الغربية بتراكماتها المعقدة أصلاً وليس لها علاقة بما يجري عندنا. فالعقل والمجتمع الغربي بعد الحربين العالميتين ، قد تعرض لأزمة عامة فكرية واخلاقية وإقتصادية، لم يمر بها مجتمعنا، ولاالفن عندنا، الذي لايزال في طور التراكم الأولي، بعد ان أسس لنا الرواد ما يمكن تسميته اللبنات الأولى للفن العراقي الحديث، خاصة جهود فائق حسن وجواد سليم ومحمود صبري وشاكر حسن آل سعيد وحافظ الدروبي بالذات ، لكن الذي جرى هو ان الطلبة عموماً وقبل ان يهضموا الدروس الأكاديمية ،أخذوا يتحولون مباشرة الى التجريد وبقية المدارس الغربية الأخرى، فكان الطالب يتخرج وهو ناقص التعليم وضعيف القدرة أكاديمياً، ولم يهضم من دروس الفن إلا النزراليسير. وأصبح الإلتجاء للحداثة - التي ليس لها علاقة بما راكمه الرواد - هو الطريق الوحيد لتغطية العجز الواضح في قابلياته وقدراته الفنية. وقد ساهم العديد من الأساتذة في دفع الطلبة نحو هذا الهدف دون ان يدركوا المنزلق الذي قد يؤدي إليه مثل هذا التوجه، فقد كان هناك رفض واضح للأساليب الأكاديمية من قبل العديد من أساتذة الفن في المعهد والأكاديمية معاً، لكن وجود صلاح وصحبه الذين ينتهجون نفس النهج ويحاولون دراسة الواقع والمجتمع بناءً على أرث الرواد، قد دفع الفنان الكبير فائق للعودة الى طريقة الرسم الأكاديمية ودراسة الموضوعات بطريقة منهجية في المراسم ومحاسبة الطلبة على أساسها، فتغيرت المعادلة وبدأ الطلبة ينشدون التعرف على الأسس الأكاديمية ويدرسون طبيعة الأشكال التي يرسمونها وبدأ ت دروس الرسم تنحى منحاً آخر. هل هي رجعة وعودة لنقظة الصفر وتخلي عن الأفكار الطليعية التي كانت منتشرة في اوساط الطلبة ؟ لا اظن ذلك وإنما هو العودة للطريق الصحيح لفهم العمل الفني والتعرف على حيثياته الأساسية. وقد شهدنا عودة فائق الى الواقعية التي عُرِفَ بها ، فعرض أعمالاً مهمة بهذا الإتجاه وأنتعشت موجة الرسم الذي يتخذ من الواقع منبعاً ومصدراً مهماً فيما يتعلق بالتوجه الحقيقي لخلق حركة فنية معاصرة بعيدة عن تأثير الحركات التي أطلق عليها « طليعية « في أوربا، لأسباب معروفة والتي ليست هذه المقالة مخصصة لمعالجتها أصلاً، وهذا طبعاً لا يعني عدم الإستفادة من تجارب الغير وتطعيم التجربة المحلية بها بل العكس هو المطلوب والضروري و عدم النظر إليها كمصدر واحد احد، بل وجهة نظر مختلفة للنظر الى نفس الموضوع. وما علينا إلا ان نقدم وجهة نظرنا للموضوع ذاته ولكن من الزاوية التي نراه منها. أي من خلال أعيننا وليس من خلال عين الأخر الذي يملك تجربة مختلفة وطويلة وممتدة وغير مقطوعة عن تراثه. ويمكن إعتبار الفنان ضياء العزاوي ، أفضل من فهم جدلية المحلية والمعاصرة من بقية الجيل الذي ينتمي إليه، فطور بغداديات جواد وحدَّث تراكيبها وقدم لوحة معاصرة متينة تستند على أرث الرواد لكنها تخطو خطوة اخرى للأمام. وضياء هو أفضل من قدم لنا لوحة تجريدية معاصرة وذات نكهة محلية واضحة من ذلك الجيل ولا تزال لوحته التجريدية ذات التصميم المتين والمتوازن وبألوانها الباذخة مثالاً للوحة العراقية الحديثة.
كان تأثير صلاح وامثاله طاغياً وواضحاً مما حدا بالفنان الكبير الراحل كاظم حيدر للتفيكر بتأسيس جماعة الأكاديميين، التي تشكلت منه ومن صلاح جياد، نعمان هادي، وليد شيت وكاتب هذه السطور.
فكان بيان جماعة الأكاديميين واضحاً في تبنيه الطريق السليم فيما يتعلق بقضية خطيرة تتعلق بتراث فني وحضاري يعود للشعب العراقي والذي يريد( الطليعيون ) رميه في نهر دجلة ، حيث اكد البيان على الثوابت المنهجية فيما يتعلق بالتوجه ولم يهمل ما يجري حوله من تحولات وتغييرات في النظرة للنشاط الفني والمعرفي. ولكن مع الأسف بعد المعرض الأول تشتت الأعضاء وتفرق شملهم مع تعقد الوضع العراقي نفسه . ولهذا لم يستطيعوا ان يعبروا بشكل واضح عن مراميهم الحقيقية، والتي تعتمد على تطوير تراث الرواد المهم و ما تم التوصل إليه من قبلهم والإستمرار معه والسير به الى فضاءات أرحب.
بعدها نجد صلاح يتجه نحو الشكل البشري والتعبير عنه بهيكلية جديدة لم تكن معروفة في الرسم العراقي، إذا إستثنيا لوحة الشمر للفنان كاظم حيدر،والخيط الرفيع الذي يربطها بالشكل العضلي للجسد الآشوري، الذي دفع صلاح به الى أقصى حالات العنفوان والإنفعال الدراماتيكي والحركية النابضة، فنرى شخوصه تصارع فضاءها وتدخل في إشتباكات عنيفة مع محيطها. معبرةً عن واقع غير مستقر وعالم مليىء بالصخب واللا عدالة، و يصرخ فيه الإنسان صرخة مشابهة لصرخة اللبوءة الجريحة الآشورية. وقد أسمح لنفسي في تسمية هذه المرحلة عند صلاح بالمرحلة البطولية ، وفي هذه الفترة بدأ صلاح بتجريب الهارمونيات اللونية وبنفس العنفوان . فقدم أعمالاً تعتبر فريدة ومثيرة حقاً لما كان سائداً حينها. وهي تنتمي الى المرحلة التجريبية لدى صلاح والتي سوف يطورها لتنتج لنا أعماله التعبيرية الغارقة في التجريب والمحاولات الجادة في تطويع سطح العمل وإستخدام مختلف المواد والألوان للوصول باللوحة الى مشارف الإنصهار داخلها والغوص في دواخلها الفريدة والتي لاتزال تهيمن على نتاج صلاح الحالي.
صلاح علامة مهمة من علامات التشكيل العراقي الجاد المعاصر ومحطة تتفرع منها العديد من الخطوط والإتجاهات التي نراها اليوم والتي قد نراها مستقبلاً ايضاً.
هذه ليست دراسة عن منجز صلاح ولا عن خلقه وطيبته المعروفة للجميع. لكنها تحية للأخ الذي لم تلده امي والصديق الذي أغناني وعلمني الكثير والكثير ولا يزال.
لندن في 11\01\2019